يوسف زيدان «بين البحرين»: نقد لا يهدر خصوصية النص
تُهم كثيرة تُلاحق العملية النقدية للنصوص الإبداعية، وإشكالياتٌ عدة ترافق القراءات النقدية الآلية المُهدرة لخصوصيات الإبداع الأدبي. في كتابه "بين البحرين" الصادر عن "دار السعيد للنشر والتوزيع" في مصر، ينطلق الروائي والباحث المصري يوسف زيدان من قناعته بأن النقد الأدبي عملية إبداعية لا تقل أهمية عن الإبداع الأدبي، في تناول عدد من الأعمال الأدبية تناولًا نقديًا إبداعيًا من منظوره الخاص.
يطرح يوسف زيدان في كتابه "بين البحرين" أسئلة عن طبيعة النقد الأدبي وأهميته في ثقافتنا العربية التي يتموضع النقد بها في مكانة تالية للإبداع، واتهامه الدائم بالعجز عن مواكبة الإبداع الأدبي، وهي مفاهيم يُشدد زيدان على ضرورة مراجعتها لتجنب إلحاق الضرر بالحركة الأدبية والثقافية.
ينطلق زيدان في نقده للنصوص الستة، التي اختارها بناء على اتصالها بمحالات اهتمامه وبحثه ودراسته في التراث والفلسفة والتصوف، من فهمه لخطوات عملية النقد كما ينبغي أن تكون؛ فالنقد ليس عملية آلية معتمدة على خطوات نقدية سابقة التجهيز يسعى فيها الناقد للتطبيق أو البحث عن نظرية ليضوي النص تحت أجنحتها ومن ثم يُهدر ما في النص من خصوصية، وإنما العملية النقدية فكرية بالأساس يصرف فيها الناقد ذهنه نحو جانب من جوانب الثقافة، ويُعمل فيه خطوات النقد وهي: الفهم والغوص والتجاوز. ومن ثم، يتمكن الناقد آنذاك من إجراء تفسيرات وتأويلات ومقارنات بل يتجاوز ذلك إلى إنتاج نص نقدي إبداعي يتخلّق من معارف الناقد ولغته ورؤاه.
في الفصول الثلاثة الأولى، يُجري الكاتب قراءات لثلاثة أعمال للروائي المصري جمال الغيطاني، تتواشج مع ما يهتم به زيدان من عوالم التراث والصوفية والفلسفة، يجري زيدان مقارنات بين نصوص الغيطاني المتعاقبة، للخروج بأوجه التشابه والاختلاف، والوقوف على ملامح الرحلة الروائية، فيُبين ارتكاز الغيطاني في أعماله الروائية على قاعدة تراثية متينة، إذ غاص في عالم ابن إياس ومصر المملوكية فاستخرج رائعته "الزيني بركات" ثم انجرف مع التراث الشعبي الصاخب في الحارة القاهرية فكتب "وقائع حارة الزعفراني" ومرة ثالثة انطلق من التراث الصوفي في كتابه "التجليات"، ويستكمل تراثا عشقيا في "رسالة الصبابة والوجد".
جبرية الغيطاني
في الفصل الأول يتحدث زيدان عن "رسالة البصائر في المصائر" التي كتبها الغيطاني، والتي اعتبرها زيدان "مرثية للهَجَاج المصري في النصف الثاني من السبعينات". يركز زيدان في تناوله النقدي للرواية على جملة من النقاط من أبرزها: مسألة الجبرية في هذا العمل التي يرى أنها تتأسس على مفهوم هيراقليطي للوجود، فكما كان الفيلسوف اليوناني هيراقليطس يرى أن الأشياء في تغير مستمر وأن التغير هو جوهر الوجود يرى الغيطاني هنا أن التغير لا يدرك لحظة وقوعه، إنما تتضح معالمه بعد تمامه، وما يمثله ذلك من إحساس الغيطاني بانهزام الفعل الإنساني أمام ما تجري به المقادير. لينطلق زيدان في تبيان جذور قضية الجبرية في أعمال الغيطاني التي ظهرت تحت تأثير الهم السياسي مثلما ظهرت القضية عند الأوائل تحت تأثير تولي بني أمية الحُكم والخلافة.
ويربط زيدان في قراءته للغيطاني ما بين أعماله المتتالية؛ ففي قراءته لرواية "شطح المدينة" يستعين زيدان بما كتبه الغيطاني في كتابه "التجليات" وكشف فيه الكثير من دخيلة نفسه، ويخرج من قراءته بكون رواية شطح المدينة تعبيرًا عن إحساس الغيطاني العميق بالفَوْت ممثلًا في الغربة، كما يستفيد من كتاب "التجليات" في تأويل العنوان والشخصيات والأحداث.
يتوقف زيدان في الفصول الثلاثة التي يتناول فيها أدب الغيطاني أمام لغته التي يجمع فيها بين التراث ومفردات الواقع والتعبيرات اليومية وأحيانا اعتماده على الحوار باللهجة العامية، منتقدًا ذلك في بعض المناطق. ويجري زيدان تنويعات في طريقة كتابته للنقد في الفصول الثلاثة فبينما عمد في الفصلين الأولين إلى تحديد عدد من العناصر في الروايتين ثم تفصيلهما، لجأ في قراءة الرواية الأخيرة "هاتف المغيب" لكتابة نقد بطريقة قصصية شيقة؛ إذ يُجري محاورات بين عدد من الشخصيات مختلفة التخصص حول رؤيتها للرواية فها هو الفيلسوف يجتمع مع اللغوي والنفساني والكُتُبي والناقد والاجتماعي والسياسي في حوار حول الرواية من المنظور الخاص لكل شخص وفق تخصصه ليخرج برؤية تكاملية لجماليات الرواية في أوجهها المختلفة.
الرواية الفلسفية
في الفصل الرابع، يتناول زيدان بالدراسة ثلاثة من الأعمال الروائية التي تعكس الصلة بين الفلسفة والأدب، وهي "الرجل الذي باع رأسه" ليوسف عز الدين عيسى والتي تحمل رؤية فلسفية ذات طابع خاص، و"ليل آخر" لنعيم عطية وفيها إعادة صياغة للنصوص الفلسفية الموروثة، و"عَبّدة الصفر" لآلان نادو، وفيها صياغة مُبدعة لتاريخ الفلسفة.
يوضح زيدان أن "الرجل الذي باع رأسه" رواية تبدو للوهلة الأولى مقدمة لمضمون عبثي إلا أن ثمة رؤية يمكن الوقوف عندها لاحقا عند النظر إليها بتمعن، فالطابع الفانتازي في الرواية يحوي رموزا يريد المؤلف التلميح إليها، وهي منفتحة على عدة تأويلات، فهي تطرح العلاقة بين الحياة والفكر، والفكر والمادة، والشرق والغرب، بل تحتمل ما لا حصر له من عمليات تأويلية تتولد مع القراءة المُبدعة التي تُثري الكتابة الإبداعية.
أما رواية "ليل آخر " فيرى زيدان أنها تعاملت مع الفلسفة وانتقت من التراث الفلسفي والديني عبارات ومواقف نظمها المؤلف في عقد واحد بالاتكاء على الموروث الإنساني والسعي لتجاوزه، فالنص الروائي يستدعي الكثير من فلسفة نيتشه ويستخدم رموزه كما يرتد المؤلف إلى الأسطورة من الفلسفة معتمدًا على المونولوج.
وفي رواية "عبدة الصفر" تناوُل لتاريخ الجماعة الفيثاغورثية في الأسكندرية، ويلفت زيدان إلى استفادة المؤلف من المعلومات التاريخية عن الجماعة ومؤسسها واعتماده على تقنية مبتكرة في روايته، إذ تابع السرد عبر خمس وعشرين وثيقة تشكل كل وثيقة منها فصلا من فصول الرواية.
جدلية الوقت
يُبين زيدان أنه مع كثرة الأعمال المتكئة على التراث بغية التعبير عن مضامين معاصرة، جرت العادة عند النقاد في تناولهم لهذه الأعمال على عرض الواقعة ثم الشخصية التراثية التي استلهمها المبدع ثم النظر في شكل التوظيف المعاصر للواقعة أو الشخصية، لكنه يطرح مدخلا آخر في تناول مثل هذه الأعمال وبالتحديد مسرحية مهدي بندق "غيلان الدمشقي" وهو ما أطلق عليه "جدلية الوقت".
يهدف زيدان من خلال ما أسماه "جدلية الوقت" إلى تبيان الحركة الذهنية داخل نطاق المساحة الزمنية، ومنها ينطلق لتوضيح عدد من جماليات هذا العمل المسرحي مثل الحقائق الموضوعية التي أسقطها مهدي بندق للوصول بالوقت إلى حالة من التوحد تجعل قارئ المسرحية في حالة يتوحد فيها مع التاريخ، وما هدف إليه المؤلف من تثوير للواقع والتبصرة به، فيسعى عبر اللغة لاستدعاء الصورة المعاصرة للمعارضة السياسية. كما يلقى زيدان الضوء على اللغة المستخدمة في العمل والتي تردد بين اللغة القديمة والمعاصرة، بين البحر العروضي التام والتفعيلة، وهو ما أسهم في إجلاء بنية الوقت القديم وتجسيد القلق الكامن في أرجاء النص المسرحي.
الشعر الصوفي
تنوعت تجليات الشعر الصوفي عبر محموعة أصوات يجمعها زيدان في دائرتين: الأولي تضم رجال التصوف الذين عبروا عن ذلك شعرا ومنهم محمد أبو العزائم، والثانية تضم الشعراء الذين انجذبوا نحو التراث الصوفي لأغراض فنية ومنهم أحمد الشهاوي.
يعرض زيدان للتكوين الشخصي لكل شاعر منهما على حدة ثم ينطلق نحو تبيان ملامح عالمهما الشعري، وقد جمع بينهما في مجموعة من النقاط ومنها: الترميز التراثي في مقابل التناص؛ فإن كان أبو العزائم يلجأ في شعره إلى الترميز التراثي للحفاظ على تقاليد الرمز الصوفي فإن الشهاوي قد عمد إلى التناص مع الموروث الديني والصوفي. وإن كان الفقر من محركات شعرية الإمام وطابعًا عامًا كامنًا خلف أبياته الشعرية، فقد كان اليُتم بالمقابل هو ما أورق أحزانا وارفة تظلل إبداعات الشهاوي حسب زيدان.