في واقعة «سمسرة الألقاب والنياشين»
الخديوي عباس حلمي يتصدى لمكائد «كرومر» عن طريق إلقاء اللوم على عمال المطابع الأميرية
كتب الراحل صلاح عيسي في كتابه "هوامش المقريزي..حكايات من مصر"، والصادر عن دار الكرمة للنشر: كثيرون حملوا ألقاب "تشريف" وهم بلا شرف، وكثيرون ادعوا لأنفسهم مقامات عليا، وهم في أدني المراتب خلقا وضميرا وسلوكا.
وكان الخديوي عباس حلمي الثاني هو أول من ابتدع الإتجار في الرتب والنياشين، كان الرجل بخيلا ميتا علي الدنيا، لا هم له إلا اكتناز الأموال ، وكان أكبر لص في مصر، وربما في العالم كله. وقد دفعه حب المال إلي نهب الأوقاف الخيرية، والحرص علي التنظر عليها، ثم إلي بيع الرتب والنياشين، وأحدث هذا أزمة بينه وبين اللورد "كرومر"، الذي كان ــ بذكاء استعماري حبيث ومدرب ــ يستغل جشع حاكم مصر للبرهنة علي أنها مازالت في حاجة إلى إرشاد وحكمة بريطانيا العظمي في إدارة شئونها، وهو ما كان يدفع الزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد على التوالي ــ اللذين كانا يحالفان الخديوي ويحاولان دفعه إلي موقف وطني ــ إلى الثورة عليه، وإسماعه قوارص الكلم، لأنه بلصوصيته يضر قضية مصر، ويعطي المحتلين فرصة للتنديد بالإدارة الوطنية، وللقول بأن مصر، لا تصلح لحكم نفسها.
وواصل عيسى في كتابه "هوامش المقريزي..حكايات من مصر": "وكانت مسألة الإتجار في الرتب والنياشين حديث كل المجالس والمقاهي، إذ كانت موضعا لمساومات في السوق السوداء، ولها سماسرة من الصحفيين والشعراء والأعيان، وكان لكل رتبة أو وسام تسعيرة خاصة، تتراوح بين الثلاثمائة والألف جنيه، وكانت هناك عمولة للوسطاء الذين يأتون بشخص يريد الحصول على رتبة "باشا" أو "بك" أو "صاحب عطوفة" أو "سماحة"، وحدث مرارا أن منحت الرتب لأشخاص ثبت فيما بعد أنهم من المحكوم عليهم في قضايا تزوير أو اختلاس أو نصب أو احتيال، مما دعا "كرومر" إلى التدخل وتسليط جريدة "المقطم" لسان حال الاحتلال ــ للهجوم علي الخديوي وفضحه وتهديده بسحب امتياز منح الرتب والنياشين منه، إذا لم يعمل على سحب الرتب من المزورين والأفاقين.
وفي الوقت نفسه شنت الصحف والمجلات حملات شعواء على القصر، وكانت النتيجة أن خشي الخديوي مغبة الأمر، فتراجع، وعمد إلى حيلة يحتفظ بها بموقفه، بأن أمر جريدة "الوقائع المصرية" بنشر بيان جاء فيه :"حصل خطأ في كشف الرتب والنياشين، ووقع تحريف في بعض الأسماء، وبعضها أخطاء وقع فيها صفافو الحروف في المطبعة الأميرية، ولذلك نعيد نشر الأسماء الصحيحة". وأعادت الوقائع نشر الكشف بعد أن حذفت أسماء النصابين والمزورين.
ويلفت صلاح عيسى: ووصلت السخرية من بخل سموه إلى أعضاء أسرته أنفسهم، فعندما ذهبت اللجنة التي كانت تجمع تبرعات إنشاء مدرسة محمد علي الصناعية بالإسكندية إلى الأمير أحمد كمال، تطلب منه التبرع للمشروع، سألها عما دفعه الخديوي، ولما علم أنه دفع عشرة جنيهات، أخرج من جيبه ثلاثة قروش وقدمها للجنة، فقيل له: أتمزح أيها الأمير؟ فكان جوابه: لا والله، ولن أزيد عن هذا المبلغ مليما، وهذا كثير إذا قيس باكتتاب الوارث لعرش محمد علي بعشرة جنيهات فقط.