رواية تجرح دون أن تسيل دمًا
يعقوب.. حليف الشيطان الذى بشّر بالحرية والإخاء والمساواة
المؤلف يقدم بذكاء رواية عابرة لأنواع الكتابة التقليدية ويكشف المسكوت عنه
إلى جانب موهبته الراسخة كمؤرخ كبير، يدلل د. محمد عفيفى على ذكائه ككاتب يطرق أبواب الرواية لأول مرة.. أدلة هذا الذكاء تجسدها روايته الجديدة «يعقوب».. أدلة ذكاء الكاتب فى عمله الأول متعددة.. فهو يكتب رواية قصيرة فى زمن ضاق الوقت فيه، وارتبط الكاتب بالكتابة المختصرة والمركزة «ربما بتأثير الإنترنت»، وهو يكتبها بأسلوب أدبى جذاب لا أثر للغة الأكاديمية فيه لا من بعيد ولا من قريب رغم أنه «أستاذ ورئيس قسم» فى آداب القاهرة، كما يقول التعبير الشائع، وهو يختار رواية تاريخية يجمع فيها بين تكوينه كمثقف عام وقارئ كبير للأدب، وبين صفته كمؤرخ، وهو يفعل هذا فى وقت شاعت فيه الروايات التاريخية وزاد إقبال القراء عليها بعد لحظة انقطاع معرفى وصراع وإعادة تشكيل للمجتمع وفق أسس جديدة، وهو يختار كتابة «عابرة للنوعية» فى وقت تزدهر فيه هذه الكتابة، ويُقبل عليها القارئ وتحصد الجوائز الدولية والعربية، والكتابة العابرة للنوع هى تلك التى يمزج فيها الكاتب بين أنواع شتى من الكتابة مثل السرد الروائى، والتحقيق الصحفى، والسيرة الذاتية.. إلخ، وقد فعل الكاتب ذلك ببراعة فى روايته القصيرة «يعقوب».. بقى أن محمد عفيفى هو الوحيد من مجايليه من أساتذة التاريخ الذى ينطبق عليه وصف المثقف العام، المساهم فى قضايا مجتمعه، حيث تكشف عناوين اختياراته السابقة لكتبه «القمص سرجيوس ودوره فى ثورة ١٩»، «شبرا.. إسكندرية صغيرة»، «عرب وعثمانيون رؤى مغايرة»، عن نظرة عامة لتاريخ مصر تلتقط اللحظات الخاصة والمشرقة فى التاريخ وتجسدها بكتابة رائقة، وهو ما لم يتوفر لغيره من مجايليه، وإن كان بعضهم قد حصل على فرص أوسع لأسباب لا علاقة لها بالموهبة أو القيمة العلمية بقدر ما لها علاقة بمواهب أخرى لا مجال لذكرها الآن.. هذا عن الكاتب.. أما الكتاب فهو عن شخصية مثيرة للجدل هى شخصية المعلم يعقوب، الذى تحمل الرواية اسمه دون صفته، والمعلم يعقوب شخصية تاريخية مثيرة للجدل، وهو مصرى قبطى عاش فى مصر زمن الحملة الفرنسية عليها، وانحاز للحملة الفرنسية وأسس فيلقًا من الأقباط المتمردين، حارب إلى جوار الحملة الفرنسية فى صعيد مصر، وحين انسحبت الحملة خرج يعقوب ورجاله معها، وشاء القدر أن يموت فى السفينة التى كانت تحمله إلى فرنسا، فيضع الفرنسيون جثمانه فى برميل من النبيذ كوسيلة لحفظ الجثة، ثم يقيمون له مقبرة فى فرنسا عرفانًا وتقديرًا له.. المعلم يعقوب شخصية إشكالية بكل تأكيد، والكاتب يثبت فى روايته العابرة للنوع أنه اطلع على وثائق كنسية نادرة، سمح له قداسة البابا شنودة الثالث بالاطلاع عليها، تشير إلى أن يعقوب كان محرومًا كنسيًا ربما قبل وصول الحملة الفرنسية إلى مصر، نتيجة اقتحامه مقر البطريرك شاهرًا سيفه، احتجاجًا على اعتراض الكنيسة على زواجه الثانى.. يصل الروائى ما انقطع من سطور التاريخ ليرسم ملامح يعقوب كشخص صهر الألم روحه بعد وفاة زوجته وابنه الوحيد، ودفعه للتمرد على خالقه، ومحالفة الشيطان إمام المتمردين الأكبر.. وبعقلية المحقق الاستقصائى يذهب عفيفى إلى فرضية كون يعقوب مات مسمومًا على يد الفرنسيين، والموت هنا عقاب متخيل لإقدامه على الاتصال بإنجلترا ومحاولة الاتفاق معها حول مستقبل مصر، وهى محاولة شاركه فيها الفارس «ليسكارس»، وهو فرنسى إيطالى لعب أدوارًا غامضة فى الشام ومصر، ويفترض المؤلف أنه مات مسمومًا أيضًا عقابًا على تأثيره البالغ فى أحد أبناء والى مصر محمد على، وأن موته كان بعد خمسة وعشرين عامًا تقريبًا من وفاة يعقوب.. أما الحقيقة الثالثة الخفية التى يكشف عنها محمد عفيفى فهى شبح علاقة مثلية جمعت بين يعقوب والقائد الفرنسى ديزيه، وهى حقيقة أو فرضية ترجح الصورة التى رسمها عفيفى ليعقوب كمتمرد على الناموس، وحليف للشيطان، إلى جانب هذا الخط التاريخى والروائى المهم يأخذنا عفيفى فى مستوى ثالث من الحكى هو أقرب إلى السيرة الذاتية، حيث تصاحبه رحلة البحث عن يعقوب والانشغال به منذ كان طالبًا للدراسات العليا يستعد لرسالة الماجستير وحتى الآن.. وهى رحلة يمكن تقديرها زمنيًا بأربعين عامًا، وهو يروى ملامح عامة عن السلطة التى يمارسها الأساتذة على الباحثين الشبان والتى تصل إلى درجة القمع.. حيث يرفض أستاذه أن يجرى بحثه عن المعلم يعقوب تحسبًا لغضب الكنيسة المصرية.. لكن المؤلف دون أن يدرى يروى قصة انتصاره الخاص فى رحلة الحياة، حيث امتد به الزمن ليكتب ما يريد عن يعقوب وليجلس على كرسى رئاسة قسم التاريخ فى كليته مرتين، وهو مستوى آخر من المستويات المضمرة فى الرواية.. ويواصل عفيفى رواية فصول شغفه بشخصية يعقوب سواء أثناء دراسته فى فرنسا، أو عبر علاقته بزميلته اللبنانية أمنية، أو عقب عودته للقاهرة.
فى الكتاب- «الرواية».. يتحدث عفيفى عن حرج الأقباط المصريين من سيرة المعلم يعقوب فى فترة من الفترات، ويطرح نموذج المعلم جرجس الجوهرى كقبطى بارز تعامل مع الفرنسيين وظل على ولائه لوطنه ولكنيسته، كما يطرح نماذج لعلماء أزهريين تعاملوا مع الحملة الفرنسية فى مصر ليُحدث نوعًا من التوازن الخفى يتسق مع طبيعته كشخصية متوازنة ودبلوماسية أيضًا.. والحقيقة أن لدىّ فى هذه النقطة مداخلة مهمة.. وهى أن فكرة انبهار مصر بعدو ما، ليست مرتبطة بدين معين، ولم تقتصر على المعلم يعقوب.. فلدينا فى التاريخ نماذج أخرى للانبهار بالعدو، والتماهى معه، منها نموذج الجاسوسة هبة سليم التى أُعدمت عام ١٩٧٣، وهى مثقفة وأكاديمية كانت تدرس فى السوربون، وبطريقة ما اقتنعت بضرورة خدمة العدو الإسرائيلى لأقصى درجة ممكنة، وقدمت لإسرائيل خدمات كبيرة، واستقبلتها جولدا مائير، وكرمتها، والمفاجأة أنها كانت مقتنعة بما تفعله، وحاول الإسرائيليون إنقاذها حتى اللحظة الأخيرة، ووسطوا هنرى كيسنجر، لكن الرئيس السادات رفض وساطته، وقال له ببساطة: «لقد أُعدمت صباح اليوم».. وبعد انصراف كيسنجر أمر بتنفيذ حكم الإعدام فورًا.. أما القضية الثانية التى أظن أنه كان على الكاتب حسمها هى هل فعل يعقوب ما فعل لأنه قبطى متطرف انحاز للفرنسيين باعتبارهم أقرب له فى الدين، أم لأنه علمانى أو لا دينى مؤمن بقيم الجمهورية الفرنسية التى كانت جديدة على العالم وقتها؟.. بقيت ملاحظة أخرى لا تقلل من قيمة الكتاب وهى أن الكاتب كان عليه أن يزيد من جرعة المعلومات التاريخية عن يعقوب، وأن يضمن كتابه ما كتبه عنه المفكر الراحل لويس عوض، والمؤرخ شفيق غربال، وقد أشار الكاتب لهذه الآراء دون تضمينها فى كتابه.. فى كل الأحوال كسبت الكتابة الروائية كاتبًا كبيرًا، وكسبت الثقافة المصرية مثقفًا عامًا ذا روح مصرية وطنية، أو كما يمكننا القول.. كسبت الرواية محمد عفيفى ولم يخسره التاريخ.. فمرحبًا به.