البنت "حرة"
في بلدنا، كنت بـ أسمع غنوة أفراح، بـ تقول إيه: "إحنا الصعايدة أكّالين المحشي/ البت حرة والولد فواحشي"، مش عارف إيه علاقة المحشي بـ الموضوع، ربما عشان القافية فقط، إنما الواضح إنها غنوة فخر.
الفخر دا مصدره إنه البنت عندنا "حُرة"، بينما الولد "فواحشي"، يعني إيه "حُرة"؟ يعني مقيدة أخلاقيًا، ملتزمة بـ نمط حياتي صارم، خصوصًا فيما يتعلق بـ الجنس، في مقابل الولد اللي هو مقطع السمكة وديلها، و"يرتكب الفاحشة" بـ كثافة.
مش هـ نتكلم هنا عن المنظومة الاجتماعية اللي تخلي هذه الصفة لـ الولد مدعاة لـ الفخر، دا ما يهمناش دلوقتي، اللي يهمنا، إزاي لما نعوز نوصف حد بـ إنه مقيد وملتزم، وخاضع لـ منظومة قاسية، نقول "حرة"، مش المفروض إنه الولد يبقى هو اللي "حُر"؟
ممممم، ما هو الدال يا صديقي، زي ما اتفقنا، ملوش مدلول ثابت ودائم، واستخدام "الحرة" هنا، ليس لـ المدلول الشائع في القرن الـ 21، المرتبط أكتر بـ "الحقوق"، إنما هو امتداد لـ استخدام الدال في الثقافة العربية القديمة.
هو هنا حاجة شبه "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها"، أو زي الموقف الشهير في بيعة النساء لما النبي محمد بن عبدالله وضح لـ ستات قريش إنه من الشروط الواجبة في المرأة هو إنها لا تزني، فـ هند بنت عتبة ما مسكتش نفسها، وقالت: "أو تزني الحرة!"
اللي هو الزنا أساسا مش أوبشن لـ"الحُرة"، أي إنه مش محتاج يبقى ضمن الشروط لـ بداهته.
إضافة إلى عدد لا بأس من المقولات كلها مرتبطة بـ إن "الحر" و"الحرة"، هم الأكثر تقييدًا والتزامًا ومسئولية: "وعد الحر دين عليه"، "الحر تكفيه المقالة"، وغيره وغيره.
دا جي منين؟ جي من إنه النظام الاجتماعي فيه "أحرار" وفيه "عبيد"، فـ مفهوم "الحرية"، ما كانش مرتبط خالص بـ حقوق أكتر واستقلال أكتر، وانسلاخ أكبر من المنظومات.
إنما هو توصيف اجتماعي يمنحك صفة "صاحب ذات معتد بها"، غير قابل لـ البيع والشراء، محدش يملكك، إنما هذه الصفة، يترتب عليها قدر أكبر من المسئولية، بـ اعتبار الشخص الحر، هو المنوط به الحفاظ على قيم القبيلة، وهو اللي بـ ينفذها.
بـ خلاف العبد/ الجارية اللي هو لا يملك ذاته نفسها، وممكن سيده حتى يسلبه الحياة ذاتها (من ذا يطالب سيدًا في عبده؟) بـ التالي، مفيش عليه مسئوليات أوي، وأمره كله لـ مالكه.
مفهوم "الحرية" المرتبط بـ الحقوق والاستقلال، لم يظهر في اللغة العربية إلا حديثًا، وظهر عبر مراحل، وما زال في طور التكون والتشكيل، لسه بدري.
يعني مثلًا في الخمسينات والستينات، لما كان عبدالحليم بـ يغني"ناصر يا حرية"، الأمر يبدو الآن مدعاة لـ السخرية، لـ إننا عارفين الوضع كان إزاي فيما يتعلق بـ "الحقوق"، إنما المدلول وقتها لـ "الحرية"، كان مرتبط بـ "حرية مصر"، أي قدرتها على الاستقلال بـ قرارها، في مواجهة "الاحتلال".
عشان كدا بقية الكلام إيه؟ ناصر يا حرية/ ناصر يا وطنية/ يا روح الأمة العربية، جابش سيرة الإنسان الفرد؟ لأ
طاه، فـ الحرية عزيزي المستمع والمشاهد والقارئ هي دور ما، شغلانة على المدفع، لا تعني إطلاقًا الانفلات من المنظومة، وامتلاك القدرة على التصرف بـ معزل عنها، إنما تعني إنك مالك مش مملوك، قائد مش مقود، ذات مش تابع، إنما في إطار المنظومة الحاكمة.
هذا، والله أعلى وأعلم.