دايرة الهوا
أى جملة، بـ يكتبها أى كاتب، أو حتى مش «كاتب» بـ المعنى الاحترافى، ليها شروط فى «السلامة»، الشروط دى، هى «نحو» اللغة اللى بـ يكتب بيها، لما الكاتب يخل بـ الشروط دى، يبقى أهدر «قيمة» ما، هى قيمة «السلامة اللغوية».
كويس، بس هنا فيه مشكلة، لو القارئ المستقبل لـ الكتابة دى، ما يعرفش أساسًا الشروط دى، مالوش فى قواعد اللغة، هـ يحكم إزاى؟ هل الكاتب دا حقق قيمة السلامة، ولّا أخل بـ شروطها فـ أهدرها؟
هنا بقى، خلينى أقول لـ حضرتك، إنه لو القارئ ما عندوش معرفة بـ القيمة، فـ هى مهدرة، سواء الكاتب حققها أو ما حققهاش، لـ إنه مفيش قيمة مطلقة، كل حاجة مرهونة بـ سياقها، وأدائها لـ دورها فى الحياة.
إنت لو معاك سبيكة دهب، ثم أوقعتك الظروف فى جزيرة منعزلة، أهلها لا يتداولون الدهب، ولا يعرفون إيه دا أصلًا، هـ تبقى زيها زى قلتها، يمكن قلتها أحسن، ولو معاك شنطة مصاصات لولى بوب، ممكن تبقى أفيد منها وأقيم، بـ التالى، القيمة لا تظهر إلا عند التداول.
تمام، لكن هنا فيه سؤال: هل إهدار قيمة النحو السلامة اللغوية، يعنى بـ الضرورة، إنه هذا المكتوب مالوش قيمة خالص؟ ويتقيم هو وصاحبه تقييم سلبى؟ الإجابة: كلا البتة، اسمه «تقييم»، أى الكشف عن «القيم» المختلفة، ووارد جدًا، إنه قيمة السلامة اللغوية تكون مهدرة، بس فيه قيم تانية متحققة.
أنا لو بـ أقرأ مثلًا، مقال تحليلى لـ الاقتصاد أو كرة القدم، شرط السلامة اللغوية، مش هـ يكون مهم أصلًا، سواء الكاتب حققها أو ما حققهاش، سواء القارئ عارف أو مش عارف، فيه «قيم» تانية هـ يبقى ليها الأولوية، زى قيمة «المعلومات» مثلًا، زى قيمة «الترابط المنطقى»، قيم تانية كتير ممكن يحققها نص ما، تخلى السلامة اللغوية مش مهمة أصلًا.
إنما كل قيمة يا صديقى، هـ تخضع لـ نفس القاعدة، وهى مدى معرفة المتلقى بيها، مثلًا مقال يقدم «معلومات»، زى مقال صباح وأحمد فراج مثلًا، اللى كنت كلمتك عنه، الأمر مرتبط بـ مدى معرفة المتلقى، بـ هذه المعلومات المقدمة فى المقال، ومدى قدرته على معرفة إمكانية صحتها من عدمه، وربطها بـ نسق معلوماتى عنده، وهل الكلام دا جديد بـ النسبة لـ المتلقى، ولا معلومات قديمة مكرورة؟
أنا ممكن أقول لك معلومة، وليكن مثلًا، الخطيب اعتزل سنة ١٩٨٨، فـ تبقى بـ النسبة لك قديمة ومعروفة، لكن بـ النسبة لـ شخص آخر، معلومة قيمة ومدهشة، لـ إنه كان واخد فكرة، إنه الخطيب كان بـ يلعب فى السبعينات، «ما يعرفش» إنه اعتزل قرب نهاية التمانينات.
المقصود من الرغى دا، إنه مفيش نص ما، يحقق قيمة ما، أى نص وأى قيمة، إلا بـ قياسها لـ هذا القارئ تحديدًا، وكل ما زادت حصيلة القارئ، من القيم المختلفة، كل ما كان أعرف وأنضج وأتقل وأعمق، كل ما كانت التحديات قدام الكاتب أصعب، والعكس بـ العكس، كل ما كان القارئ أضحل وأخف وأجهل، قيم كتير بـ تخرج من «التداول»، وتتبقى القيم التى تناسب هذا القارئ، اللى غالبًا لن تخرج عن قيمة «التسلية» على كام معلومة بسيطة، على شوية شحنات عاطفية بسيطة، بـ اختصار قيمة «الانبساط اللحظى».
طيب، هل دى حاجة بسيطة سهلة؟ مش بـ الضرورة، ولو رجعنا لـ مثال الجزيرة المعزولة، اللى مصاصات اللولى بوب أقيم فيها من سبايك الدهب، ممكن ينزلها اتنين، واحد معاه الدهب، وواحد معاه المصاصات، ساعتها بتاع المصاصات يكسب، لـ إنه بتاع الدهب مفيش معاه مصاصات، ولو معاه، فـ هو ما يفهمش فيها، ولا يعرف إيه ألذ من إيه، مع إنه جواهرجى قرارى.
الحكاية دى مش بس فى القراية والكتابة، فى أى مجال كان، بـ تواجهنا نفس الحكاية، فى السينما، فى التليفزيون، فى البرامج، فى اليوتيوب، فى الكورة فى الدين، قيمة ما لديك مرهونة تمامًا تمامًا بـ المتلقى، ولـ إنه مفيش «متلقى واحد»، نقدر نقيس عليه الحاجات، بـ نلجأ غصب عننا لـ الكم.
الكم، اللى هـ يفضل طول المدى المنظور، أهم بـ كتير كتير كتير من الكيف، ما يقدمه فلان، له قيمة عند مليون واحد، وما يقدمه علان له قيمة عند ألف واحد، أبو مليون يكسب، حتى لو المليون دول بهايم، ما عندهمش أدنى معرفة بـ أى قيمة.
اليوتيوب، مش بـ يحلل أرقامه، ويشوف كام «فيو» حصلوا بناء على إيه، لأ، هو رقم توتال، الفيديو الفلانى خمسة ملايين مشاهدة وخلاص، وهنا بـ الظبط بـ الظبط، كارثة البشرية عمومًا، وكارثتنا فى مصر خصوصًا، لـ إنه كدا، بقت المنافسة على حاجة واحدة، وهى «تكبير القطيع»، قطيعى أكبر ولا قطيعك، بـ التالى، صناع الحاجات كلها فن كورة دين أدب ثقافة، بـ يتسابقوا يا ولداه، على نفاق الجموع الجاهلة، وكل ما الجموع دى ازدادت جهلًا، تزداد سطوة، وكل ما تزداد سطوة تزداد جهلًا.
مين؟
فين؟
ليه؟
إزاى؟
كل دا مش مهم
بس هل هو فعلًا «مش مهم»؟
هو دا السؤال.