«صديقتي» قصة قصيرة لقداسة البابا تواضروس الثاني
نشرت جريدة الأهرام في عدد، اليوم الجمعة؛ قصة قصيرة للبابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية؛ بعنوان " صديقتي"؛ وفيما يلي نص القصة:-
أسكن بالطابق الثالث فى بناية ذات أربع طوابق وكنت أحب غرفتى بل وأعشقها رغم أثاثها البسيط جدًا.. سرير ودولاب وكرسي وسجاده بالارض وإضاءة كافيه بالسقف، كنت أحب الجلوس فيها ولوقت طويل ودون ملل أو ضجر.
ورغم أن لى مسكنا آخر فى مدينه أخرى.. إلا أن هذه الغرفة كانت تجذبنى دائمًا فى حياتى التى أعيشها بمفردى داخلها، كنت أتسأل دومًا: لماذا أحب غرفتى هذا الحب الكبير ؟ وعندما بحثت عن السبب.. وجدت ضالتي، فى غرفتى نافذه مستطيله ذات ضلفه زجاجيه واحدة ومن خلالها يبدو المنظر رائعًا.
منها أرى امتداد السماء الصافيه فى خلفية المشهد الجميل والشمس تنيرها بضياء خلاب كل صباح وهناك شجره كافور ضخمة وعالية حتى أن فروعها تصل إلى الطابق الرابع.. ولكن هنا من النافذة أرى جزءًا يتمايل ويتراقص من هذه الفروع مع حركه الهواء... أنه فرع ممتد من الشجره ومنه تخرج فروع أصغر وتتدلى منها الأوراق الخضراء المستطيلة والتى مع حركة الهواء تصدر أصواتًا عديده وكأنها تتنفس الهواء عندما يمر بينها.

ويكتمل المشهد بالعصافير المنطلقة والسباحة في الهواء.. تقف حينًا على فروع الشجره وحينًا اخر تتحرك وتمشى وتصدر أصواتها العذبة فى تناغم بديع جدًا، وكأنى أستمع إلى لحن موسيقى رقيق.. ولا يوجد غير أصواتها التى أشعر أنها تتكلم مع بعضها ربما بلغة تفوق معرفتنا.
والجميل أنه لا توجد أى أصوات بشرية.. السماء صافية والهواء نقيًا والشمس ساطعة والعصافير تعزف ألحانها وهى بفرح غامر وسلام تتحرك وتطير ولا تحمل همًا أو قلقًا لأى شئ.
فى كل صباح أجلس ساكنًا أمام هذه النافذة والتى أشعر أن الله يتطلع إلى من خلالها وكنت دائمًا اتساءل عن سر هذا الجمال المدهش الذى أراه من خلال النافذه المحدود في مساحتها، في كل صباح أرى افكاري وحياتي من خلال هذه النافذة المحيرة، كنت أرى حبًا من خلالها يتدفق من السماء والشمس والشجرة والعصافير والأصوات والهواء والنور.. أنها لوحه بديعة.
لقد وجدت هذة النافذه وكأنها تحدثنى عن حياتى وأيام عمري، وأنا الأن فى نهاية العقد السابع من العمر وعرفت نافذتى منذ العقد الخامس ولم اكن ملتفتًا اليها إلا الآن.
حركة فروع الشجره أمامي حركة دائمة تمثل حركة أيام عمري ومراحل الحياة... أحيانًا تتحرك بحركات خفيفة وفي أحيان أخرى تكون شديدة وهكذا مرت حياتى.. مراحل وأيام هادئة ساكنة فى كثير من الأحيان ولكن كانت هناك مواقف شديدة وربما مؤلمة وربما قاسية.. هل هي صدمات القدر عندما تفقد أحباء لنا أو نعانى ألمًا وتعبًا من آخرين ؟، أو نجتاز أمراضا وألاما جسدية مبرحة ونحتاج جراحات خطيرة لعلاجها ؟؟
وكأن النافذه تحكى وتصور مرور السنوات بحلوها ومرها.
لأن من الفروع تتدلى الأوراق المميزة لشجرة الكافور ذات الرائحه العطرية المعروفة.. وأتخيل أن هذه الأوراق تمثل البشر الذين عرفتهم فى مشوار الحياه الطويل.. سواء أقرباء أو أحباء أو حتى عابرين في حياتي.. لا معنى للحياة بدون البشر ولا معنى للحياة بدون الحب الذى يجعل هذه الأوراق مترابطه على فرع
الشجرة فى أنسجام عجيب.
الحب ذلك الأحساس الجميل الذي يشعر به الانسان من خلال الأخرين، لقد أحببت معظم الذين عرفتهم.. أسرتي، أصدقائي، زملائي، معارفي، زواري.. وأن تفاوتت مشاعر الحب من أنسان لآخر
أنني أشعر بالحب جدًا في علاقاتي الإنسانية.. أشعر أنني أحمل قلبًا كبيرًا جدًا ويكاد أنني أصرخ في قلبي تجاه كل أحد "أنا بحبك" أقولها عن إحساس وشعور عميق في داخلي، لأ أذكر يومًا أنني خاصمت إنسانًا أو سمحت للكراهية أن تطرق باب قلبي ؟.
وعندما وضعتني العناية الإلهية في بداية العقد السابع من عمري أن أكون مسؤولا كبيرًا، شعرت أن طاقة الحب تتدفق بالحقيقة مثل تدفق ينبوع المياه العذبة نحو الكل وبدون استثناء حتى مع الذين أخذوا موقفًا مني أو عادوني أو أصدروا نقدًا وحكمًا على قراراتي.. إن اصعب المواقف كانت القساوة التي أجدها عند بعضهم.. وكأن قلبهم بلا رحمة بلا أحساس بلا حب.. وأتعجب كيف يوجد أناس بلا حب في حقل عمل مؤهله الأول الحب.
أن الأوراق المتدلية من فروع الشجر تروح وتجئ مع حركة الريح ويأتى وقت الخريف ويتساقط بعضها جافًا بصفرة الموت ولكن الحياة تستمر.. لقد فقدت أعزاء وتألمت لغيابهم ولكن مازال حبهم في قلبي
، أما العصافير التي تأتى أحيانًا وتقف على فروع الشجرة وأراها منطلقة فرحة وتتحرك في انسيابية مذهلة يعجز عنها أهل الأرض، وأظن أن كل مرة يأتى عصفورًا أمام النافذة أنه يحمل رسالة خاصة من الله لي.. في حركته الرشيقه أشعر بيد الله الحانية وفي صوته الرقيق أشعر بصوت الله الحنون وفي مجيئه وذهابه أشعر بدفقات الحياة المتجددة.
كثيرا ما عمل الله معي بشكل مذهل.. في طفولتي لم أكن أدري تمامًا ما يحدث معي من نجاحات وإخفاقات.. أتذكر آلام مرض والدي ومعاناة والدتي ومسيرة دراستي وطبيعة عملي وهدف حياتي وعندما أنظر إلى الماضي اتعجب وياندهش كيف مرت حياتي هكذا، محاطًا بيد الله القوية وكأني ذلك العصفور الذي يتحرك بلا خوف ولا هم بل في حرية وانطلاق وفرح.
كانت زقزقه العصافير بمثابة أصوات تسبيح وصلاة وبهجة واطمئنان... وهو شعور متبادل بينهم وبيني..
إنها بالحقيقة لوحة جمالية مدهشة وسط الهدوء والسكون وتطلعات الحياة من خلال هذه النافذة التي تجعلني أسبح في الماضي وأعيش الحاضر وأتطلع إلى المستقبل في سلام واطمئنان.
أشعر أحيانًا أن هذه النافذة مصدر سعادتي وبهجة قلبي بل أنني أكاد أسميها " نافذة رجاء" لأنه كما تعصف بي الحياة في مواقف صعبة وأحيانًا مؤلمة، أعود إلى "صديقتى " لأنال قسطًا من الرجاء عالمًا أن كل الأشياء تعمل معًا للخير... أن تفاصيل هذه النافذة وما أراه من خلالها لهو يعنيى لي أن الحياة حلوة وأنها بخير.
رغم الشرور التى نجدها أو نسمع عنها... وأشعر أن مشاعري تجاه صديقتي هى مشاعر راحة وسلام.. هذه النافذة ترسم لوحة حياتي الجميلة.