«حتى يجد الأسود من يحبه».. رواية صالح البحر الأنطولوجية
حتى يجد الأسود من يحبه، عنوان رواية الكاتب محمد صالح البحر، وهو أول عتبات النص، وللوهلة الأولى يأخذك العنوان إلى عوالم خلفيه تنبت أسئلة شاىكة من هو ذاك الأسود، هل هو بطل الرواية؟، هل هو رجل زنجي في مجتمع أبيض البشرة ولا يجد فتاة تحبة فقط لأنه يختلف عنها في لون البشرة وكأنه ارتكب جرما عظيما؟، أم أن الأسود هنا هو الليل البهيم الذي لا يألفه إلا المعذبين والثكالى؟، أم أن الأسود هنا هو سواد القلوب الضالة؟، وإن كان الأمر على هذا النحو فلماذا يبحث صالح البحر عمن يحب الأسود؟، أم أن هناك تصور ٱخر لم يخطر ببالك كان يقصده المؤلف؟.
كلها أسئلة تقتحمك قبل دخولك إلى عوالم الرواية، وهذا على كل حال يحسب للمؤلف حيث أثار فضولك وشجونك قبل أن تقرأ سطرا واحدا من روايته، وهذه طبيعة المؤلف في مجمل أعماله السابقه وهي واحدة من مزاياه، أما العتبة الثانية فهي تخص الغلاف الذي يظهر رجل وامرأة عن بعد وكانهما في عوالم بعيدة، محملة بأسرارا دفينه، وإذا دخلنا إلى الرواية نفسها سنرى البحر بأمواجه العاتية التي تعبر عن صخب الحياة ورعونتها، وأمامه وليد بطل القصة مستلقيا على ظهره مستسلما لهيجان البحر، وحديث "السيدة فتحية" تلك العجوز البدينة التي أنهكتها الحياة، برهة من الوقت وانصرفت، لتدخل في الكادر فتاة تزعجه بأسئلتها التي تكبرها بعقود، ثم تطلب منه أن يصعد معها إلى قلعة العشاق، تلك التي تكونت صخورها على طرف البحر.
يعود بنا البطل بعد ذلك ليحكي عن يوم ولادته، الذي كان هو يوم موت والدته، وهنا يجب أن نشهد بأن "صالح البحر" برع في وصف المشهد لدرجة تجعلك وكأنك جزء منه، حين ترى الوليد وهو ملقى في ركن من الغرفة يصرخ دون أن يهتم به أحد كقطعة لحم نتنة، فالكل مشغول بغسل الأم ثم دفنها، اعتبره والده نذير شؤم وكذلك كل أهل القرية، فقرر والده التخلص منه بقذفه في البحر غير أن عمته ضمته إليها وربته في بيتها، حاول والده مرارا وتكرارا أن يقتله لأنه كان سببا في هلاك حبيبته، كما أن أهل القرية كانوا يبغضونه وكأنه بومة يخشى الناس رؤيتها، ظل وليد على هذا النحو في بيت عمته، ولما وصل الثانية عشر لم يجد أحدا يحنو عليه سوى طسعدية" التي طلبت من عمته أن يقيم لديها لثلاثة أيام حتى يعود زوجها من صيد البحر، غير أن حنو "سعدية" لم يكن حنوا صافيا، بل كان انتهاكا واغتصابا لٱدميته، ما دفعه للانتقام منها في كل أنثى.
استطاع الكاتب أن يصنع لنا في روايته عالما من الخيال قلعة العشاق وعمارة تملكها فتحية العجوز التي تركها ابنها إلى ما وراء البحر، ليتم دهس قلبها برسالة مفادها أنه لن يعود، للتكور في حجر وليد، وتحكي له عن حياتها البائسة بعد أن اغتصبها والدها وهي في سن المراهق فقامت بقتله في وقت نشوته، ثم اشترت بما ترك لها تلك العمارة العجيبة التي بللها البحر بالموج الأسود، وهنا تشعر أن هذه العمارة لا يسكنها إلا الحيارى الذين كست قلوبهم الحياة بلون قاتم، فعلى سبيل المثال "موسى" أنهكه السرطان فاستسلمت زوجته وابنته للغواية، كما استسلم وليد ليعاقبهما بجريرة "سعدية" وبغضه لأبيه.
يتطرق وليد لقصته مع مريم التي أحبها وأحبته في الجامعة لكنها فضلت عليه المنصب والجاه حين وافقت على زيجة الأستاذ الجامعي، وبعد عقود عادت لتنبش في الماضي حتى تنال منه وتشرب من خمره، غير أنه فضل عليها صديقتها فتجردت أمامه لغوايته فطردها، نلاحظ أن جميع شخوص الرواية مرضى نفسيين في عمارة مجهولة في مكان مجهول، صنعه "صالح البحر" من وحي خياله، وكأنه أراد أن يرد على أفلاطون ومدينته الفاضلة بأن هناك مدنا كساها الهم والوجع فصار أهلها أشلاء في هيئة أحياء يظنهم الرائي أسوياء، ليقذف الكاتب بسؤاله الأهم في وجوهنا من غير طبيعة هؤلاء وحول فكرتهم التي فطرهم الله عليها؟، والإجابه تكمن في أن الله عادل ونحن من يصنع هذا بأنفسنا، ولا نعرف أننا سنخلف سوادا من وراءنا يلتهم أيامنا كما تلتهم النار الحطب، حتى يجد الأسود من يحبه، يجب أن يراعي بعضنا بعضا، ربما يكون هذا هو المراد من رواية محمد صالح البحر، غير أنه لم يجعلنا نقرأها بطريقة مباشرة، وذلك لأنه يكتب بفلسفة وعمق وخيال أنطولوجي، يجعلك مشغولا طوال الوقت.
استخدم صالح البحر أسلوبا يجبرك على التفكير للتفاعل معه فكثيرا ما كان يبدأ حوارا مطولا على لسان شخص لم يكشف عنه حتى النهاية، ليجعلك تعود لما قرأت كي تعرف من المتحدث، كما استطاع ببراعة شديدة أن يحافظ على وجودك معه حتى نهاية الرواية لتعرف مصير هؤلاء الضحايا المذنبون، فيباغتك حين يخرج لك لسانه في نهاية المطاف، ويقول لك منذ 100 عام حدث هذا، مات أبطاله دون أن يجيبوا.