«قهوة الصحافة».. زاوية نظر جديدة لأحوال صاحبة الجلالة
يعرف الروائي السوري "فواز حداد" الرواية بأنها "صنو الحياة، وليست بديلًا عنها"، وهو ما ينطبق كثيرا على أحدث إبداعات الروائي خالد إسماعيل "قهوة الصحافة" والصادرة مؤخرا عن دار الأدهم للنشر والتوزيع، ففيها ينحو مؤلفها سرديا نحو التأريخ لفترة من عمر صاحبة الجلالة٬ ألا وهي تلك الفترة التي أعقبت قرار الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم الصحافة.
تبدأ أحداث الرواية عقب هذه الفترة مباشرة٬ وما شهدته الصحافة من أحداث وشخصيات العاملين بها٬ وما يدار في كواليس الصحف٬ وعلاقات الصحافيين ببعضهم البعض٬ أو تشابكاتهم مع العالم الخارجي وشخوصه، فمن خلال بطل الرواية المكاني "قهوة الصحافة" تلك التي يجتمع فيها الصحفيين٬ سواء عقب الإنتهاء من عملهم أو خلاله بالتقاط النفس على مقاعد هذا المقهى.
يرصد الراوي الوجوه التي ترتاد المقهى٬ منهم الزبون الدائم الذي يجد الرعاية والتقدير في الخدمة٬ سواء من العاملين بالمقهى أو صاحبه الصعيدي الذي نزح للقاهرة وأنشأه، أو الزبائن المؤقتين من المترددين على المصالح والوزارات الحكومية الواقعة في محيطه.
أما بطل الرواية "خلف" النازح هو الآخر من الصعيد٬ وراء غواية صاحبة الجلالة فهو الآخر كان واحدا من ما يمكن تسميتهم بجيش عمال التراحيل في بلاط الصحافة، كان شاهدا على صعود أسماء عديدة لامعة في دنيا الصحف٬ تلك الأسماء التي لم تحصد نجاحاتها إلا بالمؤامرات والصفقات التي عقدوها مع الشيطان٬ فتألقوا وعلا نجمهم٬ أصبحوا نجوما في المجتمع٬ كما حصدوا الثروات الهائلة٬ بعكس جيش التراحيل ممن ينتمون لذات المهنة٬ أولئك الذين يتنقلون ما بين مكاتب الصحف العربية لنشر موضوعات ومقابلات صحفية مقابل جنيهات زهيدة تساعدهم على ظروفهم المعيشية٬ وغالبا ما كانت تتأخر هذه الجنيهات أو لا تأتي أصلا.
كما تطرق الراوي لرصد العديد من الظواهر المجتمعية٬ فنجد مثلا المقارنة ما بين الانفتاح الفكري والمجتمعي الذي شهدته مدينة صغيرة من مدن الوجه البحري "دكرنس"، والتي عرفت في ذلك الوقت بأنها قلعة الشيوعيين٬ بعكس مدينة أسيوط بالوجه القبلي والتي شدت إليها "ليلي عزمي" الرحال لدراسة الصحافة بجامعة أسيوط والتي شهدت بزوغ نجم الجماعات الإسلامية المتطرفة.
رصدت الرواية أيضا الفساد المتفشي ومستشري في المؤسسات الثقافية٬ والتي لم تكن وليدة اليوم أو الأمس٬ وإنما هي متغلغلة منذ قدم هذه المؤسسات، فيشير الكاتب إلى هذا الفساد من خلال جوائز الدولة: "مش فاهم٬ الفوز مخالف لقانون الجايزة٬ وكمان المصيبة الأكبر٬ فيه خمس جهات رشحوها٬ جامعة القاهرة وأتيليه القاهرة وجامعة عين شمس وجمعية الأدباء وأكاديمية الفنون!، طب وإيه يعني٬ عادي ست واصلة وعندها علاقات، وهي جائزة الدولة التقديرية اللي فاز بها نجيب محفوظ وغيره من الكتاب الكبار٬ يوصل بيها التدني لحد ما تفوز بها منى حسان!".
كشفت الرواية أيضا عن الوجه الآخر لليسار المصري وما يضمه من شخصيات انتهازية متسلقة٬ تطنطن بالشعارات الجوفاء الفارغة٬ بينما تمارس نقيضها على طول الخط طوال الوقت٬ وذلك من خلال شخصية "وحيد زهران" الذي لا يفوت فرصة أو يقوم بكل الأعمال الشائنة قانونية وغير قانونية٬ وغير الأخلاقية أيضا من أجل مكاسبه وتراكم ثروته.
على أن الكاتب "خالد إسماعيل" لم يركن للصيغة التي استهلكت٬ ونعني بها هنا تيمة شخصية "محفوظ عجب" التي قدمها أكثر من كاتب في روايات عديدة تناولت كواليس دنيا الصحافة والعاملين بها، لم يستسهل الكاتب ويلجأ إلى تلك التيمة الجاهزة المستهلكة٬ بل اختار صيغة جديدة وزاوية نظر لم يطرقها أحد من قبل٬ ببناء شخصيات إشكالية لا يمكن للمتلقي أن يطلق عليها أحكام جاهزة مسبقة، كشخصية "هناء فودة" مثلا لا يمكنك أن تدينها أو حتى تتعاطف معها أو تشفق عليها٬ ستجد نفسك حائرا إزاء هذه الشخصية وغيرها من أبطال الرواية، بل ستسأل نفسك هل هم بالفعل شخصيات متسلقة تبيع روحها للشيطان مقابل مكاسب يتحصلون عليها٬ أم هم ضحايا لظروف أكبر عامة في مجتمعهم؟.