25 مليار جنيه.. «الدجل» يفوز على «العلم» في معركة الأمل
غرابة الأطوار دائما ما تفسر على أنها اعتلال نفسي يحتاج إلى استشارة طبيب مختص بذلك، لكن حال اجتمع ذلك مع "الجهل" فعادة ما يكون الوصف الأقرب "معمول له عمل" أو يعاني "مسا"، كما في حالة سناء، 50 عاما، والتي أصيبت بحالة عصبية غريبة، مع اقتراب شهر رمضان الماضي، ترجمت لتصرفات عنيفة ناحية ثلاثة أشقاء أصغر منها وبشكل غير مبرر، يصاحبها بكاء هيستيري وتحطيم قطع من أثاث المنزل، وفق رواية الابنة "أمل".
"أمل" الطبيبة البيطرية، 27 عاما، تروي أنها وشقيقتها، التي تدرس بكلية الطب، فكرتا في عرض والدتهما على طبيب نفسي للوقوف على أسباب الأزمة، ولجأتا لأكثر من معالج نفسي داخل محافظة المنوفية وخارجها، غير عابئين بنظرة أهالي قريتهم "بيجرم" التابعة لمدينة قويسنا، والمتبوعة بلوم الأقارب و"وصمة" زيارة العيادات العصبية والنفسية، وبدأت الأم فعلا في تجرع المهدئات والمنومات حتى يتمكن الأبناء من السيطرة على حركتها الجسدية المفرطة التي كادت أن تؤذي بها نفسها.
أمل وشقيقتها تتحديان "العار" لعلاج والدتهما
تضيف أمل، أن والدتها استمرت في تلقي العلاج لفترة، قبل أن يبدأ مقربون من الأسرة بالوسوسة لوالدها الاستعانة بمجموعة من "الشيوخ" في إشارة منهم إلى أن وضعها ليس مرضا يستدعي الالتزام مع الطبيب، ولو كان هذا لتم الشفاء بعد التأكد من خلوها من أي أمراض عضوية تتسبب في تلك الحالة، وتلقي علاجات الهلاوس وتثبيط النشاط البدني، والذي تسبب في أحد المرات أن تهاجم ابنها حاملة السكين، وفق الابنة.
استجاب الرجل لإلحاح الأقارب، تواصل مع دجالين من كل صوب وحدب، وتذكر "الابنة الطبيبة" أنه رغم تيسر حالتهم المادية إلا أنه اضطر للاقتراض كي يستطيع تحمل تكاليف "زيارات أهل البركة"، مشيرة إلى أن من رفضا تلقي أجرا منهم كانت زياراتهم أيضا مكلفة لتحملهم مصاريف الانتقال إليهم وتوفير الطلبات من "بخور وزويت" وغيرها من الأشياء، لأقل من شهر تحملوا نحو 130 ألف جنيه على "الدجالين" فضلًا عن الدواء، الذي رفضوا الاستغناء عنه وساروا في الاتجاهين حتى يطمئنوا على والدتهم.
أسرة "سناء" ليست وحدها من تكبدت مشقة البحث عن علاج من لا تشخيص لأمراضهم، وفق الروايات، فيقدر المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بصفته الجهة الحكومية المسؤولة عن دراسة كل الظواهر وفق اختصاصه في مصر، أن المصريين ينفقون سنويا نحو 25 مليار جنيه على "أعمال الدجل والبركات"، مرجحا أن تكون محافظات الوجه القبلي هي الأكثر إنفاقًا على هذا الباب.
مدرسة تتعلق بـ"قشة الدجل" من أجل الفستان الأبيض
من دلتا مصر إلى صعيدها، تنشط هذه الآفة بشكل كبير كجزء من إرث المنطقة منذ أن قطنها الأجداد من الفراعنة، وتمر آلاف السنين لتقوم "م. س"، خمسينية العمر، تعيش بإحدى قرى أسيوط، وعلى الرغم من إنها تعمل كمدرسة أول وعملها أساسه تربية الأجيال، إلا أنها انزلقت إلى مزالق الدجالين بحثا عن حل لرفض ابنتها كثير من الخطاب، ولشدة رغبة الأم في أن ترى ابنتها عروسا مدفوعة بالأثر الذي تركه عليها كثرة ما تسمعه من نساء القرية بأن "أحدهم عمل لها عملا ما لكي تظل بلا زواج".
تقول "م. س" لـ"الدستور" إن خوفها من هاجس عنوسة ابنتها جعلها تذهب لثلاثة دجالين، جميعهم كانوا يرددون لها أن ابنتها "معمول لها عمل" لكي تبقى بلا زواج، ودفعت مبالغ مالية لهم، وأكثرهم طلبا للمال كان الثالث، بالإضافة لأنه طلب منها أن تذبح "خروف" لفك العمل.
واستطردت، أنها أفاقت وأدركت أن ما تفعله أمرا ليس صوابا؛ عندما تنبهت أن ابنتها تعاني من "عقدة" تجعلها ترفض من يتقدمون لخطبتها، وقالت إنها انفقت كثير من الأموال وكانت مستعدة لإنفاق أموال أخرى في سبيل رؤية تحقيق مبتغاها، ألا وهو رؤية ابنتها عروسا، وهناك جزء كبير بداخلها كان يعرف أن هذه خرافات لا فائدة منها، ولكن قلقها جعلها تتشبث بقشة "الدجل".
دكتور جمال فرويز، استشاري التحليل النفسي، يرى أن لجوء بعض الأشخاص للدجل مرتبط بجزئين، الأول متعلق بالموروث الثقافي، والآخر فكري له علاقة بثقافة الفرد، والتي كلما انخفضت لجأ صاحبها لمثل هذه التصرفات، مضيفا أن هناك نوعا من الأشخاص يرجع مشاكله إلى عوامل خارجية كالأعمال والأسحار، وهناك أشخاص يدبرون له مكيدة بدلا من مواجهة هذه المشاكل.
وتابع: "ناهيك عن ذلك الشر الذي يسيطر على نوعية أخرى من الأشخاص السيكوباتيين ويجعلهم يلجأون لإيذاء الآخرين بأي طريقة، ولو عن طريق اللجوء للدجل".
وعن الحل يرى المتخصص في الطب النفسي، أنه لابد من إعادة تأهيل نفسي لهذه الشخصيات السيكوباتية، لأنه حتى لو أغلقت أمامهم طريق السحر والأعمال سيجدون مسلكا آخر لأذية الآخرين.
واختتم فرويز حديثه في تصريح خاص لـ"الدستور"، أن هناك فارقا بين التعليم والثقافة التي يؤدي اضمحلالها لانتشار نظرية الأعمال، ومن ثم لحل هذه المشكلة لا بد من نشر الوعي لدى جميع شرائح المجتمع.