دولة أم سلطة دينية؟
تتعدد وتتنوع كتابات وحوارات نقاشية فى وسائل الإعلام، حول المجتمع المدنى، أو السلطة الدينية، إيجابا أو سلبا، مع نسبة أقوال إلى الإسلام حسب الرؤية أو القناعة الشخصية أو المصلحية،واختلطت الأوراق، بين دولة دينية أو سلطة دينية، أو خلاف هذا، وصارت قضية فى معترك الأحداث!
بادئ ذى بدء فإن ما صنفه أهل الخبرة والدربة، والكياسة والفطنة، فى تجرد لإظهار حق، وليس لإلباس باطل، فى أطروحات علمية رصينة، تكشف عن الإلمام بالأسس والأطر، والمناهج والوسائل والمقاصد، يجب تأمله، بعيدا عن صخب ولجب، كشف الشخصية لصناع القرار!!.
هنا وهناك، ومثال الرؤى السديدة ما رآه ابن خلدون - رحمه الله تعالى - من أن «أنواع الحكم ثلاثة، وذلك بالنظر إلى القوانين والشرائع التى يطبقها وهى: الحكم الطبيعى وهو الحكم الذى يقوم على مقتضى الفرص والشهوة والغلبة والقهر، دون أن يكون هنالك قوانين أو شرائع مطبقة.
والحكم السياسى وهو الحكم الذى يقوم على حمل الناس على تطبيق قانون وضعى بنى على مقتضى النظر العقلى فى جلب المصالح ودفع المضار، ويضعه متخصصون فى المجتمع، والخلافة وهو الحكم الذى يقوم على حمل الناس على تطبيق شريعة الله - عز وجل - التى أنزلها على رسوله - صلى الله عليه وسلم - لتحقيق مصالح الناس فى الدنيا، وحماية الدين وتطبيق أحكامه والدفاع عن الأمة الإسلامية.
يتضح بجلاء من تقسيم ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة لأنواع الحكم أنه يعد الأساس فى التمييز بينها هو نوعية القوانين التى تطبق، فالقانون الذى يطبقه الحاكم هو الذى يحدد طبيعته، فهو روح كل نظام اجتماعى، وأساس وجوده، وبالقانون والشرائع تتمايز الدول والحكومات.
ومن هنا كان لنظام الحكم فى الإسلام طبيعته الخاصة به، لأن الدولة فى الإسلام تقوم على تطبيق شريعة الله - سبحانه - حيث يقف المجتمع المسلم موقفا فريدا بين المجتمع فى قوة الروابط بين أبنائه، وثباته على مر الأيام والتى منها «وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون»- الآية 52 من سورة المؤمنون، «ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك» الآية 128 من سورة البقرة، «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» الآية 71 من سورة التوبة، «وتعاونواعلى البر والتقوى» الآية 2 من سورة المائدة، و«إنما المؤمنون إخوة» الآية 10 من سورة الحجرات، و«لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا» الحديث أخرجه البخارى ومسلم، والمجتمع المسلم يقوم على عدة أسس أهمها البناء العقائدى الذى يميزه عن غيره، وهذا التميز صهر الأجناس المختلفة فى بوتقة واحدة تعاونت كلها فى صناعة حضارة شاملة على أساس من الحقوق والواجبات، وشهدت حوادث ووقائع التاريخ نماذج مثالية من الترابط والتعاون والتحاب والتكامل بين أجناس البشر عرب وعجم، وفى ظل البناء العقائدى والتشريعى للمجتمع تظهر هويته وصفته وصبغته.
من هنا يجب التنويه والتنبيه على أن «الدولة الدينية» يراد بها ظهور أحكام الإسلام فى المجتمع، شرع ربانى يجب الاحتكام إليه، والعمل به، وليس بالضرورة جعل مقاليد الحكم فى أيدى فقهاء، كلا، فالشريعة الغراء تضع شروطا مستنبطة من نصوص الشرع ومقاصده تؤهل الحاكم للاضطلاع بأعباء الحكم ومتطلباته، من الكفاءة الجسدية، والمعنوية الأخلاقية، والخبرة والدربة لإدارة الشئون العامة بمهارة السياسى المحنك، وأن يكون متبوعا من الكثرة الغالبة، ذا قوة مستمدة من الإرادة العامة لمواطنى المجتمع، وليس فى تاريخ الإسلام بعد عصر الخلافة الراشدة تولى فقهاء مقاليد الحكم، فلم يتول أبو حنيفة ولا البخارى ولا ابن كثير ولا الأشعرى ولا غيرهم من أفذاذ العلماء مقاليد الحكم، وكان من النادر فى العصور المتتابعة الأموية والعباسية وما بعدها وجود حاكم عام «الخليفة»، أو خاص «أمير» من أكابر الفقهاء، بل وجد نقيضه فى العصر العباسى من «أمير الأمراء» أى المباشر لسلطات الخليفة فى النواحى العسكرية والاختصاصات المدنية، فهو يتولى إدارة الجيش والمناصب المالية، ومما يؤكد سعة النظر فى الإسلام أن الأكثرين من العلماء - من فقهاء ومتكلمين - ذهبوا إلى جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل.
مؤدى هذا وأشباهه ونظائره، عدم إيجاب «سلطة دينية» تماثل «السلطة الكهنوتية» تقوم بالدين وتحتكر فهمه، بل «مجتمع دينى» له هويته، وموروثاته العلمية، وصفته، وانتماؤه، مجتمع يحكم بالإسلام لا يحكم بالإسلام.
أما ما يحذر منه محاولات تجهيل المسلمين بالإسلام، وطرح بدائل فكرية مختلفة لتحل محله فتعدد ولاءات المسلمين وانتماءاتهم!
هوية المجتمعات قديما فى الفرعونية، ولاحقا فى الإسلام، وحاليا فى العديد من البلاد المحاربة والمسالمة لنا، لم تمنع الهوية، من حضارات متينة، وتفاعل وتشارك. إن خير ما تشحذ له الهمم احترام آدمية المواطن وتفعيل حقوقه وتحسين أحواله المعيشية، يكون هذا بحسن الانتقاء وسلامة الاختيار، وليس بإهمال أو إزدراء الدين الحق وتنحيته، وجعل مغالطات تاريخية، وتصرفات فردية، من بعض المستبدين والجائرين، الذين لا فهم لهم ولا التزام تصحيح الدين هى المدخل للتبرير أو المسايرة أو الممالقة والمداهنة أو خلط الأوراق.. والله غالب على أمره