قل هو أذى فاعتزلوه
فتح معرض القاهرة الدولى للكتاب أبوابه لاستقبال زائريه. دورة هذا العام هى الثامنة والأربعون من عمره، وأنا أتابعه بشغف، وعن قرب، منذ أن غادر صباه وصار شابًا، وقت أن كان يقام فى موقع دار الأوبرا بالجزيرة، كنت فى الرابعة عشرة من عمرى، أبدأ رحلة استكشاف الذات، وتشكيل الهوية، ولم يفعل معرض الكتاب معى، إلا أن كان أحد أهم الروافد فى هذا الاتجاه، حتى أصبحت مع سن العشرين، أدخله يوميًا مع فتح أبوابه فى العاشرة صباحًا، ولا أغادره إلا مع غلق أنواره فى العاشرة مساءً.
تمر ساعات اليوم، فأمر معها من قاعة الندوات الرئيسية، حاضرًا جلسات نقاش، ومناظرات فكرية، تتناول قضايا تتعلق بالشأن العام، ومنها إلى قاعة كاتب وكتاب، ألتقى بها يوميًا مع كاتب طالما قرأت له، أو آخر أصادفه لأول مرة، فأذهب مسرعًا إلى أجنحة الكتب، لأبدأ رحلة قراءتى له، ومع استراحة خفيفة، ألتقط أنفاس العقل والبدن، فى رحاب المبدعين بالمقهى الثقافى، أو مخيم الإبداع، أو عروض المسرح والسينما، ولا مانع من لقاء أحد نجوم الفن أو الرياضة، فى دعوة مفتوحة للحوار، وقبل أن أختم يومى فى حضرة أمسية شعرية، لواحد من كبار هذا الفن المصريين أو العرب، ولا يتقاطع مع هذا كله إلا استعراض عناوين الكتب، تمهيدًا لاختيار مجموعة أكافئ بها نفسى مع نهاية المعرض، عشنا شبابنا هناك مع قمم السياسة والصحافة والفكر والثقافة والفن والإبداع، فأصبحنا ما نحن عليه اليوم.
أذكر بالخير هنا، المبدع والناقد الكبير الدكتور سمير سرحان، الرئيس الأسبق للهيئة المصرية العامة للكتاب، فأترحم عليه، وعلى أيام المعرض تحت رئاسته، فلا يستطيع إلا مكابر، أن ينفى هبوط مستوى معرض القاهرة الدولى للكتاب المستمر منذ رحيل الرجل، حتى صارت الكتب تباع فى سور الأزبكية على طريقة بيع الملابس الداخلية فى الموسكى والعتبة!!.. فينادى الباعة على بعض الكتب بأيديهم، ويقفون بأقدامهم على البعض الآخر، فى إهانة لمن أفنوا أعمارهم فى سبيل الكلمة، من صفوة الكتاب والمفكرين والفلاسفة والمبدعين، ولم أر فى تقديمات الناقد الدكتور هيثم الحاج رئيس هيئة الكتاب لدورة هذا العام، إلا ما يبشر باستمرار الرثاء فى أحوال معرض القاهرة الدولى للكتاب.
ففى تأكيد جديد لغياب الخيال، حتى عن أصحاب الخيال، صار الحاج ورفاقه على نهج تكريم الكبار فى موتهم، وإهمال الأحياء منهم حتى يموتوا، فاختاروا الشاعر الراحل الكبير صلاح عبد الصبور شخصية لمعرض هذا العام، وتجاهلوا -مثلاً- الروائى الكبير بهاء طاهر بحضوره الثمانينى المتوهج!!.. وتذكروا الشباب فى شعار «الشباب وثقافة المستقبل» وتناسوا أزمته مع الحاضر!!.. أما عن التنوير، فلا شىء من الأصل هناك!!.. قل هو أذى فاعتزلوه!!.. كنت أتمنى أن يرفع هيثم ورفاقه التنوير شعارًا صريحًا لدورة هذا العام، وأن يدعو مجموعات من شباب المبدعين المتمردين، ليعبروا بأنفسهم عن جيلهم، ويضعوا أولويات قضاياهم، لتناقش فى منتدى خاص بهم طوال مدة المعرض، ولكنه لم يفعل، لا لشىء، إلا لأنه قابع هناك فى صندوق هيئة الكتاب التاريخى، بينما نحن هنا فى انتظار من يصنع الفارق!!.