يسألونك عن السياحة.. قل: سأروى لكم قصة أهل العراق
اندهشت من كلام أحد طلابى بجامعة الملك سعود، بالمملكة العربية السعودية، وقت أن قمت بالتدريس فيها لعدة سنوات خلت، يوم أن حكى لى قصة محاولته إخفاء ملامحه العربية ولهجته الخليجية عندما جاء إلى القاهرة للتمتع بآثارها ومنتجعاتها.. ساعتها، قال لى هذا الشاب إن كل فرد هناك، تلقى بك أقدارك للتعامل معه، بدءاً من سائق التاكسى، يعتبرك مغارة على بابا، وقد فتحت أبوابها أمامه، ينهل منها ماشاء، دون منطق مقبول أو مراعاة لعقل، أو منعاً لتلك الصورة السيئة التى يشارك فى رسمها، فى أذهان كل من يأتى إلى مصر، سائحاً محباً لأهلها، عاشقاً لآثارها، حتى يلعن اليوم الذى ألقت به مقاديره فى رحلة، تحولت من سبيل للمتعة، إلى درب من دروب الفهلوة والتسابق على تفريغ الجيوب.. وكله شطارة!.
وقبل أسبوعين، التقيت فى القاهرة، بصديق عراقى، جاء ضمن وفد سياحى، لزيارة المعالم المصرية، وزيارة آل البيت، أصحاب المكانة عندهم.. وما إن قابلته فى الفندق الذى نزل به الوفد، عند أول طريق القاهرة ـ الإسكندرية الصحراوى بدأ يحكى لى ما جرى وما كان، على يد أهل هذا الزمان، من سكان القاهرة الكرام.. ليس من قبيل الشكوى، بل التعجب من حال القائمين على السياحة فى بلادى، الذين يجأرون بالشكوى من خرابها.. قال إن مندوبة شركة السياحة، التى رافقتهم منذ وصولهم للمطار، لم تكن على المستوى المطلوب من الشكل الذى يريح زائر مصر، ولم تكن واجهة تليق بمكانة هذا البلد الذى نعرفه، ناهيك عن أسلوبها الذى يفتقد أصول اللياقة فى التعامل مع ضيوف أرض الكنانة، وافتقادها الثقافة السياحية المطلوبة من أمثالها، مع ضحالة معلوماتها عن الأماكن والتواريخ والشخصيات، فى كل ما زاروه.. وبدلاً من أن تغادرهم، فى نهاية الرحلة، بطيب الكلام وحسن الوداع، وأمنيات العودة للقاهرة مرة أخرى، إذا بها تقول لهم، وهى تغادر الأتوبيس: «أنا ماشية، علشان أريحكم من وشى»!.
كان ذلك أول القصيدة، التى امتلأت أبياتها، بعد ذلك، بالكفر البواح.. فى زيارتهم لمنطقة اسمها «الخان»، تكالب البائعون على الوفد العراقى، كما تتكالب الأكلة على قصعتها.. زبائن لُقطة.. يعرضون عليهم منسوجات وبضائع، صناعة الصين، لم يكن بينها منتج مصرى، يحرص السائحون على شرائه، تذكاراً مصرياً يقدمونه هدية لأهلهم ومحبيهم، عند عودتهم للديار، مثلما نجد نحن عند زيارة برج إيفل فى باريس، مثلاً.
وعن الأسعار، حدث ولا حرج.. أسعار مضروبة فى عشرة أمثال حقيقتها.. وهنا انتحت صديقة مصرية لسائحة عراقية، ضمن الوفد، بصديقتها جانباً لتخبرها بأن فى الموسكى أشياء أحلى، مصنوعة من القطن المصرى الطبيعى، وبأسعار أقل بكثير مما يعرضه هؤلاء.
وما إن سمعتها مندوبة شركة السياحة، التى لا أشك فى تقاضيها عمولة عما يبيعه هؤلاء للوفد السياحى، حتى انبرت قدحاً فى بضائع الموسكى «المضروبة»، التى يمارس بائعوها خداع السائحين!.. هل علمتم خيبة أمل للسياحة المصرية أكثر من هذا؟!.
فى القلعة.. خلا المكان من دورة مياه آدمية، نظيفة بها ماء، يستطيع السائح أن يجد راحته فيها، ولم يجدوا إلا زجاجات المياه المعدنية، فهم مجبرون على شرائها بالغلاء المبالغ فيه، طلباً لراحتهم.. فهل نحن وراء رحلات للمتعة والاستجمام، يستمتع بها كل من قصد مصر، أم نحن نصنع الكمائن، ليدفع السائح دم قلبه من أجل راحة لا يجدها؟!.وفى حى الحسين، لم يكن الأمر أحسن حالاً من سابقه.. فمسجد رجل من آل البيت، يعد مقصدًا لمن يطلبون الراحة النفسية فى رحابه، ولكن هؤلاء يواجهون جحافل «الشحاتين»، الذين يطاردون كل قادم للزيارة، يطلبون منه صدقة، لا يكتفى بتناولها ممن يعطيه إياها، بل ليصيح فى جموع آخرين يراقبون على البعد.. «عراقيين ياله»!.
الحكايات لا تنتهى، فهى كثيرة، والأسى كبير، واللوعة على حال السياحة فى مصر تدمى القلوب المحبة لهذا البلد، حتى ولو كانت من غير أهله.. فماذا حدث للناس فى مصر؟.. فى اليابان، ذهب وفد مصرى، من العاملين فى مجال العمل الاجتماعى، لزيارة المؤسسات الأهلية هناك.. رافقتهم مندوبة من الهيئة المنظمة للزيارة، كانت نموذجاً رائعاً لبلدها.. شياكة فى المظهر، طلاقة فى اللسان، لباقة فى الأسلوب، موسوعة فى العلم بمقاصد الزيارة.. جاء موعد الغداء الذى صادف وجودهم فى أتوبيس ينقلهم بين مكانين.
وزعت المندوبة الوجبات الساخنة والمشروبات على أعضاء الوفد، وراحت تقوم على خدمتهم، دون مشاركتهم الطعام.. فلما طلبت منها إحدى سيدات الوفد تناول غدائها معهم، قالت: «فترة عملى لا تسمح بتناول غدائى.. أنا هنا لخدمتكم فقط»!.
إذا كنا نبحث فى زيادة أعداد السائحين وتعظيم عوائد السياحة، علينا بالبحث عمن يحترم هذا البلد ويعرف قدره، ويعلم دقائق معالمها وتاريخها، ويكون سفيراً مخلصاً له بين زواره، وإلا نكون قد خسرنا كل شىء، ونحن لانزال عند نقطة الصفر، لنتساءل بعدها: لماذا تهرب منا السياحة العربية، مثلما ضاعت وصيفتها الأجنبية؟!. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.