عودة السحابة السوداء الخبيثة .. إلى متى ؟
قش الأرز.. وما أدراك ما قش الأرز؟! إنه جهنم مفتوحة على مصراعيها تحرق الصدور وتزكم الأنوف ونقع صرعى ويلاتها، يُحرق ليحرقنا معه . يريد زارعوه أن يتخلصوا منه فإذا بهم يتخلصون منَّا، فدخانه يكسو سماءنا بسحابة خبيثة لا تنقشع، تجثم بسوادها وتفحمها على رئة المصريين، يقع على أثرها آلاف المصابين بأزمات تنفسية، وبخاصة مرضى حساسية الصدر والربو وأمراض القلب، وجُل ضحاياها من الأطفال وكبار السن.
وبرغم سماعنا على مر الأعوام الماضية بمجهودات كثيرة تبذل من الدولة لتفاديها، إلا أنها مازالت تلح على زيارتنا كل عام بنفس الإصرار والتحدى مُهدرة جميع الجهود الحثيثة المعلن عنها لمجابهتها!.
لا أحد يتصور أن مشكلة كهذه تظل بلا حل، هل يعقل أن يسقط ضحايا للأرز ؟ هل هو بهذه الأهمية ليفتك بصحتنا ؟ لماذا لا نتوقف عن زراعته حتى نكتشف وسيلة فعالة للتخلص من قشِّه المميت أولاً، وهل تعرضت البلدان التى تقوم بزراعته للمشكلة نفسها ؛ أم أننا حالة نادرة ؟! لقد وقعنا فى «حَيص بَيص» لا نهاية له . أتساءل : لماذا لا نأخذ بالطرق التى تتبعها البلدان الأخرى فى التخلص منه ويمثل الأرز المحصول الرئيسى لديها مثل «اليابان»، أو نستجلب خبراء فى المجال لمساعدتنا على إيجاد آلية تقضى على المشكلة .. فالتلوث يحيط بنا من كل جانب، ولا يعطى الصحة سوى الهواءالنقى والماء النظيف !.
علماً بأن هناك جهوداً فردية وأبحاثاً قام بها أساتذة فى مجال المخلفات الزراعية ،وقد قام أحدهم بعرض مقترح عملى للاستفادة من قش الأرز باستخراج مادة «السيليولوز» الثمينة والضرورية لتوليد الطاقة، وقد عرضه فى سلاسة ويسر مؤكداً أنه غير مكلِّف إطلاقاً، وقد أسعدنى أن لواءً بالشئون المعنوية بالجيش المصرى طلب من الأستاذ الباحث أن يتوجه للقائه لوضع مشروعه قيد الدراسة لتنفيذه بمعرفة القوات المسلحة.
وهذه بارقة أمل لا يجب أن تهدرها الدولة، والمدهش أننا نتباهى بأن لدينا أكبر المراكز لعلاج الأمراض الصدرية والسرطان والفشل الكلوى، التى تنهش فى جسد الإنسان المصرى، الذى يحمل على عاتقه عبء ازدياد معدلات التنمية ومطالبته ببذل الجهد! ولم نسأل أنفسنا: كيف يتأتى للمواطن الذى يعانى كل تلك المشكلات الحياتية أن يحصل على القدرة الكافية لحمل تلك الأعباء ؟ ورغم هذا يواجه اتهامات من أجهزة الدولة بأنه السبب فى تفاقم مشاكل الإنتاج وتدنِّى معدلاته ؟ أما كان من الأجدى أن نتفاخر بأنه ليس لدينا مرضى بتلك الأوبئة، والأدهى والأمر أن تكاليف القضاء على تلك الأوبئة الفتاكة ـ قبل حدوثها ـ لا تتعدى خمسة بالمائة من تكاليف علاجها .. ولكننا نستعذب جلد الذات، والتباهى بإنفاق معظم بنود الموازنة فى مواجهة الخطر الذى يحدق بالمواطن وليس بدفع الضرر عنه، ونقوم باستعراض امتلاك إمكانات المقاومة دون النظر إلى اجتثاث الأسباب من جذورها واقتلاع الداء الذى يلوِث المناخ العام باتساع خارطة مصرنا المحروسة، التى حباها الله بأجواء رائعة واكتسبت على طول السنين شهرة المناخ المعتدل النظيف الذى تعتمد عليه «السياحة» وتدفقات العملة الصعبة، والتى هى « ألف باء » قوة الاقتصاد، الأمر الذى يتبعه تلقائياً ارتفاع معدلات دخل الفرد وازدياد معدلات رفاهيته، وليكون عنواناً لحضارة مصر العريقة لتكون مقولة «العقل السليم فى الجسم السليم « مقولة على حق، فلا يجب أن تأاتى مشكلة «قش الأرز» لتذهب بكل المزايا أدراج الرياح، فتحيل كل ماكنا نتباهى به إلى منغصات تؤدى إلى خلل فى توزيع دخل الفرد، لتنهش ميزانية العلاج الجزء الأكبر من هذا الدخل الذى يؤثر بالتالى ـ وتلقائياً ـ فى البنود الأخرى المخصصة لباقى المتطلبات الضرورية.
أرأيتم كيف لمشكلة واحدة من المشاكل التى نتجاهلها ؛ تبدد طاقات أمة بأسرها .. تجنح دائماً إلى الوصول والارتقاء لمصاف الدول المتقدمة . فإلى متى سنظل نشكو ونستغيث ولا نسمع إلا عن مساع ٍ غير مجدية للحل واجتماعات تسفر عن إجراءات كتوزيع جرارات ومكابس على المزارعين وغيرها من الحلول المكررة التى «لاتحل ولا تربط» أصلاً وبلا نتائج ملموسة، نريد استعادة زرقة سماء مصرنا ونسمة جوها النقى ومائها النظيف وثمارها بعيدة عما يلوثها .. فالعناية بالصحة هى الخطوة الأولى التى تعين كل فرد على أداء واجبه وعمله بهمة ونشاط .. فيكون ضمن منظومة مجتمعية منتجة وفعالة للإسهام فى النهوض بالوطن فى جميع المناحى، لنحيا أصحاء وتحيا مصرنا الغالية!
■ أستاذ الدراسات اللغوية ـ أكاديمية الفنون