قناة السويس بين « المُنجَـزْ » و«المنشود» !
اللحظات الفارقة فى عُمر الشعوب، يقف لها التاريخ شاهدًا ومسجلاً فى طيات سطوره ـ وبحروف من نور ـ ما أنجزته هذه الشعوب بالدم والعرق، وهذه المرَّة وفى هذه اللحظة الفارقة التى نعيشها، لن يقف التاريخ وحده ليسجِّل، ولكن ستقف معه الجغرافيا أيضًا، لتسجل كيف استطاع المصرى أن يلوى عنق الصحراء ويقوم بتغيير ملامحها التى شابت على مر الأزمان، ليحيل اليابسة إلى إخضرار يمنح النماء لكل من يعيش على أرض مصر بإرادته الصلبة التى لا تقهر، وكأنه يثأر لدماء مئة وعشرين ألفًا من أبنائه الذين دُفنوا تحت الركام والرمال فى هجير الصحراء أثناء الحفر ـ بالفأس والمقطف وكسرة القديد ـ فى عهد الخديوية التى قصدت بحفرها خدمة التطلعات الاستعمارية، إلى أن استردتها مصر على يد أبنائها الذين آمنوا بحق ملكيتها كشريان رئيس فى الجسد المصرى العملاق يغذِّى القلب والروح والكرامة، ويفتح الطريق إلى آفاق الحرية لكل من على أرضها المقدسة.
وبالتأكيد.. فإن البون شاسع بين الأمس واليوم، وعلينا أن نقص على الأجيال الجديدة كيف بدأ التفكير فى تغيير ملامح الصحراء لتنبثق فى شرايينها العجفاء جداول الماء والقنوات التى توهب الإخضرار لكل ربوعها، فقد بدأ حلم المصرى منذ دبت الحياة على أرضه، وبإلقاء نظرة مختصرة على تاريخ نشأة هذا الحلم فى عقل المصرى القديم نجد العديد من المحاولات التى نجح البعض منها ونال البعض إخفاقات الفشل ، ولكن ظل الحلم يراود عقل المصرى القديم ، وصولاً إلى حفرها من جديد بعد ردمها بأمر أبى جعفر المنصور مع تغير مجراها وتغيير اسمها إلى قناة السويس، ثم كانت الإرهاصة للقناة التى نحتفل بتشغيل تفريعة جديدة لها، وفى يوليو عام 1956 قام الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم القناة، والتى تسببت لاحقاً فى إعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على مصر والذى انتهى بانتصار الإرادة المصرية انتصارًا أبهر العالم، بل كان هذا الانتصار بداية لانهيار الإمبراطورية البريطانية التى سيطرت على العالم بالاحتلال منذ فجر التاريخ.
واليوم تشرئب الأعناق ويقف التاريخ مشدوهًا للإطلالة غدًا الخميس السادس من أغسطس 2015 على هذا الحدث التاريخى الذى تصنعه الإرادة المصرية بسواعد شعبها وجيشها وشعارهم «يدٌ تبنى ويدٌ تحمل السلاح»، لتضيف تفريعة لتحسين الأداء للخدمات البحرية،بالإضافة إلى توسيع وتعميق تفريعات البحيرات المُرَّة، ليكون فى هذا أبلغ الرد على المتباكين الذين يحاولون تشويه جدِيِّة هذا المشروع والوقوف كحجر عثرة فى طريق الإنجازات التى تقوم بها القيادة المصرية لرفعة وتقدم الشعب المصرى لبلوغ المكانة التى يستحقها، بل ودفع الثمن غاليًا فى سبيل نيله الحرية من دماء أبنائه الشرفاء.
وإذا كان تاريخ قناة السويس مرتبطًا بأطماع استعمارية أوعز بها المهندس الفرنسى ديلسبس إلى الخديوى سعيد، فى عصر ٍ كانت فيه مصر لا تملك إرادتها فى اتخاذ القرار، ليقف على ضفتيها لحظة الافتتاح فى العام 1869 كل السفراء الأجانب وعلى رأسهم الإمبراطورة «أوجينى» ملكة فرنسا التى عبَرت على متن «ليجيل» كأول سفينة تعبر القناة فى الافتتاح، على النقيض نرى اليوم على ضفتيها كل القلوب المتحررة من السيطرة الأجنبية، فلم نلجأ إلى استدانة الأموال للإنفاق على المشروع كما حدث فى العهود القديمة، بل نـُفذ بما استثمره المصريون فى شراء أسهم قناة السويس لتعود الفائدة المرجوَّة لكل مصرى آمن بحق بلاده فى مستقبل زاهر للأجيال المقبلة.
واليوم نقف بكل الفخر لنشهد مع التاريخ وقفة الشموخ والعزة؛ نرقص فرحًا على الضفتين ونردد مع شاعرنا «صلاح جاهين» يوم استرددنا قناة السويس: محلاك يا مصرى وأنت «ع» الدفـَّـة والنصرة عاملة «ع» القنال زفـَّـة! أما ماننشده بعد هذه الخطوة العملاقة فهو التركيز على استكمال بقية المشروع بمراحله المزمعة، فنحن نريد إنجازات مستمرة وأفراحاً ممتدة بكل مُنجَزْ، فقدأثبتت عزيمة المصريين أنهم إذا أرادوا ان يحققوا شيئا نالوه وياليتنا نجد الروح والعزيمة نفسها فى جميع المجالات كلٌ فى موقعه لنسابق الزمن ولنلحق بركب التقدم قبل فوات الآوان، وتحقيق حلم القناة فى هذا الوقت القياسى خير دليل على قدرات المصري،فلنمتلئ ثقة فى أنفسنا وننفض الكسل وترابه عن كاهلنا فنحن مسئولون عن تردى الأداء فى عملنا، فلنواجه أنفسنا ونعد العدَّة بكل الجدية لنخلص فى إنقاذ البلد مما يشوبه من سلبيات وتهاون فنحن المسئولون يا قوم!
■ أستاذ الدراسات اللغوية - أكاديمية الفنون