"جيفارا" أسطورة بطل.. وميلاد وطن
"إذا كان الظلام حالكًا فمن سينير لنا
الطريق"
عندما تقرأ تلك الكلمات وتتأملها جيدًا
فتسمع صداها من بعيد يعانق أذنيك بقوة، ينبئك بحضوره رغم الغياب، فلتعلم إنك أمام
"جيفارا" جاء ليحرك فيك "ثورة تشتهي التعرف على ملامح صانعها.
ونحن في هذه الأيام نستنشق عبق ذكرى ثورة
خالدة من أعظم الثورات، إنها "ثورة 25 يناير"، التي سيظل التاريخ شاهدًا
عليها، لتظل أيقونة معلقة بصدر كل من يبحثون عن "عدل مفقود، ووطن ضائع، وبسمة
غائبة".
ستظل الثورة، برموزها العظيمة في كل مكان
في العالم، محفورة بقلب كل من يبحثون عن أوطانهم وحريتهم المسلوبة وإنسانيتهم المهضومة،
من هنا تظهر أمامنا دائمًا صورة المناضل والبطل الثوري العظيم "تشي جيفارا".. لتلقى بنا في دائرة من
التساؤلات ما الذي يجعل صور "جيفارا" تنتشر
في كل مكان لتعلن عن وجودها بقوة ملامح يقتحمها بريق غامض، يكاد يقفز من عينين
غائرتين لتعلن الرفض على الحوائط.. صفحات المجلات.. القبعات المعلقة على الرءوس،
لتقفز من عليها هذه الصور لتقبع عالقة بالأذهان، تجوب في ذاكرة وجدانك لتصبح رمزًا
محفورًا على أجساد محبيه بألوان مختلفة؛ على القمصان والمعاطف، رافضين التخلي عن
ترديد اسمه واستدعاء ملامحه في كل وقت..
"لا يمكنني أن أحدد إلى متى سيستمر هذا النظام الطبقي الجائر، المبني
على نظام أشبه بنظام المنبوذين.. لكن أظن أن الأوان قد حان لتتوقف الحكومات قليلا
عن الطنطنة حول فضائلها المزعومة، وتقوم بتخصيص قدر أكبر بكثير من الأموال لدعم
المشروعات الاجتماعية المفيدة".
هكذا صاح "جيفارا" بكلماته التي
اكتست بنبرة غاضبة، اشتعلت حدتها عندما شاهد امرأة مسكينة اضطرت للعمل رغم مرضها
الشديد والحصول على أجر متدني، فقد قهرتها الظروف، ولم يستطع المجتمع أن يقدم لها شيئًا،
وبالرغم من ذلك، قام "جيفارا" الإنسان بوصف نظام غذائي خاص لها مع بعض
الأدوية، ثم تنازل لها عن بعض حبوب الدرامامين التي كان يحتفظ بها لنفسه لعلاج
نوبات الربو، التي كان يتعرض لها، بعدما أيقن عدم مقدرة أسرتها على توفير الدواء
لها.
"جيفارا".. الثائر الصغير
بدأت بذور الثورة تنمو في قلب
"جيفارا" منذ كان صغيرًا، وهو لا يزال في الحادية عشرة من عمره؛ حين
اشترك هو وأصدقاؤه في إضراب عمال الكهرباء في إقليم "تشي"؛
احتجاجًا على أوضاعهم المعيشية الصعبة وقلة مرتباتهم، ولا عجب في ذلك فلقد استمد
"البطل الصغير" هذه الروح الثائرة من نشأته وأصوله الأسرية؛ فلقد كان
الأب متمردًا على الكنيسة؛ إذ كان يرى رجالها ما هم إلا فئة من المستغلين، الذين
يضحكون على البسطاء والجهلاء ليحققوا مصالحهم الشخصية، وكذلك أمه المنحدرة من أصول
ارستقراطية، فقد كانت "محاورة سياسية" لا يشق لها غبار؛ فكانت لا تتردد
في مهاجمة السياسات الاستعمارية للولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، ولا تتأخر
عن الدفاع عمن كانت تراهم يتعرضون للقمع والقهر من قبل أنظمة الحكم الأرجنتينية
الفاسدة؛ إذن فلا عجب من أن تمتد جينات الرفض والتمرد "للابن" لتصبح
حافزًا ومحركًا قويًا يستفزه ويستحثه على الدفاع والنضال المستميت من أجل قضيته،
التي عاش لأجلها..
"جيفارا" البطل.. الإنسان
لقد كان "جيفارا" بسيط المظهر؛
يهتم بالمضمون وليس الشكل، الموضوع وليس العنوان؛ وكأنه بهذا المظهر الذي اختاره،
رغم أنه من أصول عائلة أرستقراطية، يعلن تضامنه مع بسطاء وفقراء هذا العالم؛ أبطال
قضيته الشائكة؛ من يسيرون على دروب الوجع والحزن كل يوم، دون أن يدري بهم أحد، دون
أدنى طائل؛ فلقد اشتغل الطبيب الثائر بأعمال كثيرة لينفق على نفسه، أثناء إجازته الدراسية،
في سبيل تحقيق أهدافه النبيلة، ربما تستريح نفسه الشقية والمهمومة بأحزان
الموجوعين؛ فمرة عمل مراسلا صحفيًا لصحيفة رياضية، ومرة كاتبًا في إحدى الشركات،
بل وخفير ليلي في بعض الأحيان، ومن أبرز القصص التي كانت تعكس إنسانيته ورقة قلبه؛
اختلافه في إحدى المرات مع صديق له يدعى "جرانادو" حول اصطحاب فتاة
صغيرة مصابة بالجذام لإحدى الحفلات، وعندما حاول صديقه تأكيد إصابتها بسكب الماء
الساخن في المكان المصاب، اتهمه "جيفارا"
بالهمجية والتوحش، وبالرغم من أنه كان طالبًا بكلية الطب، كان يتجاهل الاحتياطات
الطبية، التي يجب مراعاتها مع مرضاه، ولا عجب في ذلك، فهذه هي الإنسانية التي شكلت
قلب وكيان البطل النبيل، منذ نعومة أظفاره..
"جيفارا".. البطل النبيل
لقد كان "جيفارا" نموذجًا
رائعًا للثائر الحقيقي، وبطلا نبيلا من طراز خاص؛ فعندما دافع عن الفقراء والبسطاء
وكرس حياته كاملة لينتصر لهم في مجابهة ظلم وطغيان "السلطة" المتغطرسة،
رغم ظروف مرضه القاسية ونوبات الربو التي كانت تهاجمه، بلا هوادة أو أدنى رحمة،
فلم يكن "جيفارا" مدفوعًا بظروف قاسية كمثل التي حاول الانتصار لها؛
فلقد اكتسب نضاله منذ طفولته بالفطرة، فقد كان ثائرًا متمردًا بفطرته، رغم كل
مظاهر الارستقراطية والرفاهية التي كان يحياها، ولكنه بالرغم من ذلك، ترك حياة
القصور والرفاهية والأضواء واختار الحياة القاسية الصعبة في الغابات والأقاليم
النائية، شريدًا طريدًا من أجل النضال والانتصار لقضيته، التي كان يؤمن بها وعاش
يقاتل من أجلها..
"وهكذا نرى في
النهاية حجم المأساة العميقة، التي تحيط بحياة الطبقة العاملة في جميع أنحاء
العالم، ففي هاتين العينين المحتضرتين نرى مناشدة ذليلة بالصفح والغفران مع توسل
يائس في الغالب، طلبًا لعزاء يضيع سدى ولا يجد من يحققه".
هكذا قالها "جيفارا" لتعلن
كلماته غضبها ورفضها للنظم التي تسمح بحدوث مثل هذه المآسي، التي تجسد مشهد منها،
عندما رأى امرأة تعمل نادلة في مقهى وكانت تعاني من الربو المزمن، بالإضافة
لاعتلال قلبها، وهو ما جعلها تبدو هزيلة نحيلة على الدوام، وان لم يمنعها ذلك من
القتال في يأس للحفاظ على ما تبقى من كرامتها بالعمل في مقهى؛ ذلك المشهد الذي
أثار عطف "جيفارا"وسخطه الشديد على ظلم المؤسسات الحاكمة، وجعلت الكلمات
تنفلت من قلبه لتعلق بأصابعه، ثم تستقر غاضبة ثائرة على الأوراق..
إن عالم "جيفارا" لم يكن عالمًا
منغلقًا على نفسه الغاضبة وروحه الموجوعة على بسطاء وفقراء أمريكا الجنوبية فقط، بل
هو مجموعة من العوالم المفتوحة على عالم كل من اختزنت أرواحهم الموجوعة الظلم
والقهر، الذي أخذ يتراكم ويتراكم ليطلق صرخة غاضبة تعلن عن رغبتها في التحرر
والتمرد لتختار نفس الطريق "الثورة".. هذا الطريق، الذي عبره
"جيفارا"، المفروش بثالوث "الحلم والموت والدم"،
ليتخطى مسافات لم يجد الخوف فيها نافذة أو ثقبًا للدخول.
إن الطريق الذي اختاره "جيفارا"
متعلق بفلسفته في الاختيار، والتي ارتكزت دعائمها على وعيه الشقي، الذي اكتمل
برؤيته الثاقبة وثقافته وموهبته المبكرة، منذ كان طفلا يقرأ كتابًا في التحليل
النفسي لـ"فرويد" المترجم للفرنسية، ولم يكن تجاوز الاثنى عشر عامًا،
وحتى اكتمال نضجه ليرى العالم على حقيقته، بوجهه القبيح، دون أي أقنعة أو جماليات
الزيف المستعارة.
عندما خرج "جيفارا" يناضل في
رحلته الصعبة من أجل قضيته، التي آمن بها، لم يكن نضاله متعلقًا بموقف ذاتي، فلقد
تخطى "جيفارا" الموقف الشخصي والظرف الراهن لواقع أكبر رؤية وأكثر
اتساعًا وشمولا؛ إنها "المصيرية" المرتبطة والمرهونة بواقع الجماعة
المقهورة والضعيفة المظلومة في هذا العالم؛ فصراع "جيفارا"
صاحبه قوتان، كانتا الحافز الأكبر لضميره النابض ليقاتل في مشواره الصعب الطويل
والمليء بالمخاطر في رحلة "الحلم والمجهول"؛ فإحداهما قوة متسلطة
مستعلية قاهرة مستولية، لا تأبه إلا لنفسها، يبحث عن كيفية موتها والقضاء عليها
وبترها، والأخرى خفية كامنة لا يظهر فيها غير الخضوع الظاهري والعبادة المعلنة،
التي تخفي بداخلها تمرد وثورة أبدية لن تموت أبدًا، مهما بطشت بها القوة وتجبرت،
ومن هنا كان إيمانه وقوته واستبساله حتى الموت.. فلقد شارك في الحياة القاسية
بفاعلية الإيمان بقضيته في حياة يبحث فيها عن إنسانية مفقودة، خلال واقع مرير،
باتجاه نفسي وفكري رافضًا لهذا الواقع مستشرفًا آفاق المستقبل بنضاله وكفاحه..
إنه "جيفارا" من رأى العالم،
خلال جولاته المتنوعة في أمريكا الجنوبية، على حقيقيته بصورته المشوهة؛ الوجه
والوجه الآخر؛ وجه الإنسان الذي أعلن عبوسه ويأسه في صورة البسطاء والفقراء
المقهورين المقموعين "عمال المناجم المستعبدين.. عمال المقاهي والحانات
الفقيرة.. مرضى الجذام في المستعمرات الباردة.. من يُمتلكون ولا يمتلكون..!"،
في مواجهة الوجه الآخر؛ وجه السلطة المتأجج بدماء الطغيان والغطرسة والصلافة،
ليعلن غضبه على عالم ضاعت فيه وجوه العدالة والإنصاف ليبدأ معركته، التي سخر حياته
ودمه من أجلها؛ ليبدأ برسم ملامح طريق لن ينتهي أبدًا.. تاركًا بصمات نضاله وقتاله
نبراسًا على الدرب لمن يبحثون عن إنسانيتهم وكرامة أوطانهم الضائعة؛ ليكتب بدمائه
"أسطورة بطل" لن يموت أبدًا، و"ميلاد وطن" سيظل الباقي
والأوحد دائمًا.