لماذا عبدالقادر القط؟
يشغلنى حاليًا إعداد دراسة عن الراحل العظيم الدكتور عبدالقادر القط، الذى ولد فى ١٠ أبريل عام ١٩١٦، ورحل عن عالمنا بجسده فى ١٦ يونيو عام ٢٠٠٢. لعل أهم ما يميز الأكاديمى عبدالقادر القط بصفته ناقدًا بارزًا أنه واسع المعرفة، متعدد الثقافة، بجانب أنه شاعر مبدع، لذا يجمع منهجه النقدى بين الإبداع والنقد، كما يجمع بين الاستعانة بكل ما من شأنه أن يعين على فهم النص من الخارج، وكل ما هو داخلى مكنون فى أعماق النص من خفايا وأسرار، وقد ظهر هذا المنهج واضحًا فى دراسته «نقد النص المعاصر من شعر ومسرح ورواية».
وتعتبر البداية المنهجية للدكتور القط تبدأ من منهج طه حسين، الذى تبنى الاتجاه العلمى فى النقد الأدبى، بما نقله إلى النقد العربى من تجارب وآراء النقاد الفرنسيين الذين أحدثوا ثورة فى النقد الأدبى بما أدخلوه عليه من روح العلوم التجريبية، وقد كان لهذه الصيغة النقدية أثرها العميق على المعاصرين لطه حسين، الذين خصبوا الحياة الثقافية بكتاباتهم وبحوثهم، نخص بالذكر منهم أربعة، تركوا آثارًا عميقة على الحياة الأدبية الحديثة فى مصر والعالم العربى، هم: شوقى ضيف، ومحمد مندور، وعبدالقادر القط، وعزالدين إسماعيل.
والدكتور القط شاعر مُقل فى شعره، له ديوان وحيد اسمه «ذكريات شاب»، ولكن باعه كبير فى النقد والأدب ومفهوم الشعر واتجاهاته، وثمة تحولات سياسية وثقافية فى حياة عبدالقادر القط إبان القرن العشرين، إذ كان حاضرًا أغلب التحولات السياسية والتطورات الثقافية العربية والمصرية، وقد عاش صراع المدارس الأدبية المصرية، مثل أبوللو ضد «الإحياء الكلاسيكية»، وعاصر صراع القصيدة الجديدة، قصيدة الشعر الحر مع أنصار العمود الشعرى القديم بكل أشكاله. ولا شك أن هذا كله كان له أكبر الأثر فى تفكيره ومنهجه النقدى ومواقفه الفكرية.
ولعل أول ما يؤكد عليه القط فى موقفه النقدى هو ضرورة التغلغل إلى أعماق الأعمال الفنية مع الاستعانة بشتى أنواع المعرفة التى تربط بين القديم والجديد، بين الرمز والإدراك، بين التقرير والإيحاء، بين التقليد الحضارى والانطلاق.
واتبع عبدالقادر القط مناهج جديدة فى نقد الشعر، إذ إنه تعلم من المناهج القديمة ما مكنه من إرساء نزعة تأصيلية فى النقد العربى الحديث.. فهو لم يتبع وحدة البيت الشعرى، بل اتبع منهج وحدة القصيدة الشعرية نظرًا لاختلاف العصر. وإذا ما انتقلنا إلى نصوص القط، وحاولنا استخلاص قواعد نظريته النقدية ومفهومه للأدب والنقد بوجه عام فإننا نجد نصًا على اقتضابه يوضح رؤيته، ويساعد على تقسيم منهجه إلى روافد فرعية تنتهى كلها إلى غاية واحدة، كما يقول قطب عبدالعزيز بسيونى.
ولقد أبدع الدكتور القط فى الانحياز المؤثر للجديد من الأدب العربى، ولم يقف تخصصه حجر عثرة فى طريقه، كما أنه كان يتنقل بين المناهج النقدية بإتقان، فقد بدأ بتراث النقد القديم وأتقنه، ثم انتقل إلى آفاق العصر وكل مجالات الإبداع العالمى والمعاصر. فقد عالج نقده الآداب العالمية والعربية المعاصرة بكل ما تزدحم به من تيارات متضادة ومتفاعلة.
فنقد الدكتور القط يمثل حركة تجديد رائدة فى النظريات النقدية، فهو يؤكد أن «التحليل الصحيح للنص الأدبى ينبغى ألا يقتصر على مقوماته الداخلية وبنائه المركب وصوره، بل يجب أن يتجاوز ذلك إلى تقويم مضمونه، وربطه ما أمكن بنفس قائله ومشكلات مجتمعه وعصره، وهكذا لا يكون الأدب مجرد متعة بيانية محضة، بل يكون عاملًا فعالًا فى تطور الحياة، وإثراء فكر القارئ ووجدانه على السواء.
كما يؤكد ضرورة عدم فرض أى قوانين فولاذية ثابتة على العمل الفنى، وأن كل عمل فنى جديد إذا كان ذا قيمة، إنما يحمل قوانين نقده فى طياته، فكل أرض جديدة تتطلب تجدد الحيلة فى كشفها حسب تضاريسها هى، وأى نقد يقوم على الشعارات أو المقاييس السابقة أو المفروضة الصادرة عن فئة ما ليس فى الحقيقة نقدًا أدبيًا، بل هو لن يؤدى إلا إلى الفشل.
أما بالنسبة للشعر، فيرى الدكتور عبدالقادر القط أن «الصورة من أهم مقومات الشعر، فهى المرآة العاكسة لقدرة الفنان على تكوين القصيدة، وهى النافذة التى يطل الناقد والقارئ معًا من خلالها لكى يحكما على العمل الفنى جودة ورداءة، ومعيار تكوين الصورة، والحكم عليها عند الناقد يستمده من العمل الأدبى نفسه، لذا يحلل الصورة من زاوية جمالية خالصة فيستقصى أبعادها الخارجية، ويوضح عناصرها بدقة ويحدد الألوان، وتارة يلتقى بالصورة من زاوية داخلية، فيرصد الصراع النفسى عند الشاعر، وما يعانيه من وهج عاطفى ونفسى ورغبات وطموح. وعادة ما تدخل فى مكونات الصورة عنده جوانب أخرى كالإيحاء، والرمز واللغة الإشارية وغيرها من أبعاد فنية يراها الناقد عنصرًا بارزًا تتمحور حوله القصيدة.
رحم الله عبدالقادر القط وأعاننى على الانتهاء من الدراسة حوله.