الفن الجميل.. هل سيعود؟
... وبالتالى لا نعرف من هو المنتج لتلك القنابل الموقوتة التى انفجرت فى جنبات الذوق المصرى، هذا الذوق الذى تربَّى على أصوات وألحان أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وعبد الحليم ومحمد فوزى والقصبجى ومحمد قنديل وكارم محمود وشادية ونجاة وحورية حسن وسعاد محمد ورياض السنباطى ومحمود الشريف وأحمد صدقى ومحمد الموجى وكمال الطويل وزكريا أحمد وسيد مكاوى، إلى آخر كل هؤلاء العمالقة الذين أثروا الوجدان المصرى بكل ما هو جميل وعظيم فى فن الموسيقى والطرب الأصيل.
ألم يستمع أصحاب تلك الترَّهات التى يسمونها قسراً بالأغانى، وهى لاتزيد عن كونها نباحاً يغازل أهل قاع الحارة المصرية وسكان العشوائيات التى أصبحت بمثابة حزام ناسف حول كل المدن المصرية، ويزيد الطين بلة تلك الموسيقى الهابطة التى لاتنفع سوى فى الرقص الخليع وهز الخصر فى الأفراح البلدية والشعبية الفقيرة.
ولإرضاء الجموع من البسطاء الذين تنقصهم المعرفة بثقافة الفن الراقى والإبداع الذى يرتقى بالنفوس والأرواح إلى مصاف التحليق فى عالم الجمال.. الذى سينعكس بالضرورة على سلوكيات المجتمع وتعديل مذاق الإحساس الجمعى حتى للطبقات التى لم تنل حظاً من العلم الأكاديمى.
فالثقافة الوجدانية لا تشترط لمتذوقيها الحصول على الدرجات العلمية والأكاديمية، ولابد أن تنبع من داخل جدران الروح وشقائقها.الأمر الذى يجعلنا نعود بالذاكرة إلى زمن كانت فيه الموسيقى أداة راقية لعرض فنون الرقص الشرقى الفردى والجماعى، حيث ارتقت الموسيقى بلغة الجسد، فى استعراضات رائعة بعيدة عن مغازلة الغرائز الحسيّة وتخاطب العقل والروح، حيث كان الرقص الشرقى الفردى يعتمد على أجمل وأرقى ماأنتجته قريحة عباقرة الموسيقى الشرقية وعلى رأسهم موسيقى محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وعلى اسماعيل ومحمد فوزى، ناهيك عن أن الساحة الفنية كانت تمتلىء بعروض فرق الرقص الشعبى كفرقة رضا للفنون الشعبية التى أسسها على رضا وجالت العالم بتصميمات مصرية أصيلة برعت فيها الفنانة فريدة فهمى ومحمود رضا على موسيقى الرائعين على إسماعيل وفؤاد عبدالمجيد أداها أصحاب الحناجر الذهبية تباعًا محمد العزبى وأحمد سامى وعمر فتحى، ثم فرقة البحيرة وفرقة النوبة وفرقة الموسيقى العربية وفرق الإنشاد الدينى التابعة للأوبرا المصرية، تلك الفرق التى كانت تعتمد على إحياء «الفولكلور» المتوارث فى جميع أنحاء مصر وتحافظ على استمرارية التجديد فى هذا التراث العظيم،وفرقة الباليه المصرية، وكانت الأوبرا المصرية فى أوج عظمتها وتألقها بفنانيها العظماء أمثال أميرة كامل وحسن كامى وغيرهما.. ومؤخراً فرقة الرقص الحديث.. إلخ.
والمعاناة من هذا التلوث السمعى الذى تموج به ساحة الموسيقى والغناء، يضر بالذائقة التى تعتاده كالماء والهواء.. ولابد ـ بالضرورة ـ أن يتبعه التلوث البصرى جرَّاء رقص الأفاعى الذى نشاهده كل ساعة وفى كل مكان ممن يقال عنهم فنانى الدرجة العاشرة، الذين يعيثون فساداً وإفساداً للذوق العام والهبوط به إلى الدرك الأسفل من السلوكيات التى نعانى منها ليل نهار فى كل مناحى الحياة، وتلك مسئولية تقع على عاتق القائمين على نشر الوعى الثقافى، فهناك ضرورة ملحّة للارتقاء بالذوق والتذوق، الذى يتطلب منظومة متكاملة قوية وقادرة على منع نشر وانتشار هذه الهراءات من تجار الموسيقى المسفّة، والذين صرخ فيهم شاعر الشعب بيرم التونسى: ياأهل المغنى دماغنا وجعْنا.. دقيقة سكوت لله.. إحنا شبعنا كلام ماله معنى.. ياليل وياعين.. ويا آه!! ليت قطار زمن الفن الجميل يستمع إلى استغاثاتنا.. فيعود بكل بهائه وألقه فنستحضره من جديد ونمحو به ويلات الدخلاء التى انقضوا بها علينا قبل أن نصبح من نشازاتهم وإسفافهم حطاما!
■ مركز اللغات والترجمة ــ أكاديمية الفنون