الاغتراب.. والمستقبل الغامض
من بديع مأثورات تراثنا العربى، قولهم: الفقر فى الوطن غربة، والمال فى الغربة وطن، وفقدان الأحبة غربة.. شىء مؤلم أن يحس الإنسان فى وطنه بالغربة.. ويزداد هذا الشعور حدة بين الشباب فى إطار حالة العجز العربى، والبطالة والاختراق الثقافى، وحالات التراجع إلى الوراء!! إلى أن يصل إلى الغربة عن ذاته.
ومظاهر الاغتراب واضحة فى شتى جوانب الحياة العربية، فالاغتراب داخل فى نسيج حياتنا الثقافية والاجتماعية المعاصرة. ولما كانت اللغة مرآة المجتمع فألفاظ اللغة العربية شاهد قوى على تغلغل حالة الاغتراب فى صميم حياتنا، حيث تمتلئ اللغة العربية بالكلمات الدالة على الاغتراب ومظاهره، من خوف وقلق وإرهاب وعنف وبطش واضطهاد وقهر وظلم وعسف وتسلط.. إلى آخر هذا القاموس الذى يجسد حالة الاغتراب تلك، فما العنف والبطش والاضطهاد.. سوى الوجه الآخر للاغتراب، العنف يولد الاغتراب، ويؤدى إلى الاغتراب أيضاً، والعلاقة بين هذين القطبين علاقة جدلية، فكلاهما قد يكون السبب وقد يكون النتيجة، فالطفل الذى يواجه العنف داخل مجتمعه يختزن هذا العنف ليمارسه فى المستقبل.
ويزداد الأمر خطورة حين يصاحب هذا العنف ظلم وقهر واغتيال لأحب الناس إلى قلوبنا، على نحو ما نرى من مآس وفواجع على أرض فلسطين والعراق، حتى صار أهل الوطن غرباء فى أوطانهم، وتبرز مظاهر الاغتراب فى بعض أساليب التربية والتنشئة الاجتماعية، حيث ينشأ الطفل العربى فى جو مشحون بالعنف والقهر، فيتحول الطفل إلى كيان انطوائى ويفقد الثقة فى نفسه، وتضعف عنده القدرة على الإنجاز وتحقيق الذات، وتتوارى روح المبادرة والرغبة فى التعاون والعمل الجماعى، ويعمل هذا كله على تغريبه ودفعه إلى دوامة العجز والنقص والإحباط.
إن الاغتراب يسلب الإنسان صفة الإنسانية ويحوله إلى «شىء» خال من الروح المبدعة والشخصية المبتكرة، ويؤدى إلى انهيار الروح الفردية تحت وطأة احتلال الأرض ونهب الثروات واحتلال العقل وتشويه الفكر. إن الاغتراب الذى يشعر به الإنسان العربى مرجعه ـ فى الأعم الأغلب ـ إلى خمسة أسباب:
1 ـ الحرمان من المشاركة فى السلطة: وهذا هو البُعد السياسى لمفهوم الاغتراب، فالحرمان من المشاركة فى صنع القرار ينتج عنه شعور بالاغتراب والانفصام عن المجتمع، وتعميق الهوة بين القيادة وجمهور الناس.
2 ـ غياب معنى الحياة: وهذا هو البُعد الفلسفى لمفهوم الاغتراب، وإذا كان الدين الإسلامى قد وهب الإنسان العربى معنى عظيماً للحياة، فإن غياب الوعى الدينى وتهميش دور الدين فى الحياة ـ قد أدى إلى تغريب الإنسان العربى وضياع معنى الحياة فى نظره.
3 ـ غياب المعايير: وهو البُعد الاجتماعى لهذه الظاهرة، وفى مجتمعاتنا العربية لا توجد معايير ضابطة لما يسبغه المجتمع على أبنائه من مظاهر التكريم والتقدير، ويرجع هذا إلى سطوة الماديات وسيطرة المصالح الشخصية وتقديمها على قيم العمل والإنجاز والكفاءة.. كل هذا يؤدى إلى فقدان الرغبة فى العمل والإنجاز، ما دام بلا جدوى.
4 ـ غياب القيم الأخلاقية والإنسانية: إن المجتمعات العربية ليست بحاجة إلى مثل وقيم أخلاقية، فهذه القيم موجودة بالفعل، ولكنه وجود نظرى، لا يستند إلى الواقع والممارسة، فالكل يتحدث عن القيم والأخلاق، ولكن التطبيق الفعلى لهذه القيم الأخلاقية على أرض الواقع ـ ليس على المستوى المطلوب.
5 ـ الإحساس بالغربة عن الذات: وهذا هو البُعد النفسى لظاهرة الاغتراب، وهو نتاج العوامل السابقة جميعاً، إذ يشعر الإنسان بالغربة عن ذاته بعد أن فقد كل أساس تقوم عليه علاقته بالحياة: بعد أن فقد المشاركة فى السلطة والقرار، وفقد المعنى الجوهرى لوجوده، إن الإنسان العربى يعيش حالة مفزعة من الاغتراب ولا سبيل إلى معالجة مظاهر التمزق والضعف والانهيار إلا بعملية شاملة لتضميد الجراح، تشارك فيها المؤسسات التعليمية والتربوية والدينية والسياسية، ويشارك فيها رجال الفكر والأدب والفنون.. ويكون للدين قوة إيجابية فى انتشال الإنسان العربى من الهوة السحيقة التى تردى فيها، ليستعيد ذاته السليبة، ويشارك فى صنع الحضارة الإنسانية، بعد قرون من السبات والغفلة والاغتراب.
■ أستاذ بجامعة قناة السويس