إلى أصحاب الفضيلة والمعالى المسئولين عن بعض مؤسسات مصر الدينية والتعليمية.. هو فى إيه؟!
«1»
أقر أنا المواطن فلان الفلانى أن سؤالى استفهامى، وأننى لا أهاجم أو أتهم أحدًا بشىء، وأننى أحترم جميع مؤسسات مصر، ولا أهدف من مقالى هذا إلى ازدراء أىّ منها أو أهدف إلى أى شىء سلبى مما ورد فى قوانين العقوبات المصرية، لذلك فإننى أتمنى أن يتجاوز أى مسئول عن تلك المؤسسات- إن حدث وقرأ أحدهم حديثى هذا- عن تلك الفكرة الاتهامية أو الوسوسة التى ربما يلقى بها الشيطان فى أذنه، وكُلنا عرضة لوساوسه لأننا بشر. ليس هذا فقط، بل إننى أطمع أن يقرأ هذا المسئول هذا الحديث- كما كتبه صاحبه- مخلصًا النية لوجه الله ولوجه هذا الوطن، وأن يقدم إجابات حقيقية عما سيرد به من تساؤلات.
فأنا صاحب مصلحة بشكل مباشر بصفتى مواطنًا مصريًا ممن خصهم السيد الرئيس فى معرض حديثه فى احتفال عيد الشرطة المصرية، حيث طمأننا الرئيس بألا نخاف على مصر، وأكد سيادته بعبارات مصرية أصيلة على حقنا المشروع فى القلق على بلادنا «الناس من حقها تخاف على بلدها». لقد خضنا نحن المصريين عبر العقد الأخير معارك شرسة ودفعنا أثمانًا كبرى للحفاظ على هذا الوطن، الذى أوضح الرئيس مشكورًا أنه بلد المصريين، وأن المؤسسات هى مؤسسات مصر والمصريين. وأنا أهيب بالسادة المسئولين التنفيذيين عن تلك المؤسسات التى أخصها بالذكر فى هذا المقال- وطبقًا للدستور المصرى وتأكيدًا لنص حديث الرئيس- بأن يضعوا تحت ضمير الهاء فى «بلدها» أكثر من مائة مليون خط.
بناءً على ما تقدم، فإننى أقول لأصحاب الفضيلة وأصحاب المعالى المسئولين عن بعض مؤسسات مصر الدينية والتعليمية إن كثيرًا من المصريين حائرون يتهامسون يتساءلون فى دهشةٍ ووجوم عما يحدث خلف كواليس تلك المؤسسات؟ وكيف يتم بداخلها اتخاذ تلك القرارات التى تفاجئنا من فترة لأخرى؟ وسأكون أكثر وضوحًا وأضيف عبارة.. خاصة منذ آخر تغيير وزراى. بل وسأكون أكثر تحديدًا وأقول.. فى وزارتى الأوقاف والتعليم ومؤسسة الأزهر الشريف.
«2»
سأبدأ من المشهد الأخير، وهذا التخبط المصاحب لخبر اعتزام جامعة الأزهر تعريب بعض العلوم مثل علوم الطب والصيدلة بداية بالطب النفسى. كان خبرًا حقيقيًا أثار ضجة مشروعة ورفضًا شعبيًا واعيًا أعقبه تراجع الجامعة وتأييد عميد كلية الطب البشرى بنين بجامعة الأزهر لوجهة النظر الرافضة والمستنكرة للقرار. سأتوقف عند نقطتين تكشفان منطقية القلق المصرى الحالى مما يحدث خلف كواليس هذه المؤسسات.
النقطة الأولى هو تصريح رئيس جامعة الأزهر د. سلامة داود، والمنشور عند اتخاذ ما يسمى بقرار التعريب، حيث قال عن علوم الطب والصيدلة نصًا: «إن هذه العلوم وضعت فى الأصل بالعربية وترجمها الغربيون نقلًا عن علماء المسلمين، وآن الأوان أن نستعيد مكانتنا بالعودة إلى هويتنا فى تلقى العلوم التى وضعنا نحن المسلمين أسسها، فابن سينا كتب الطب العربية وجمعه فى أرجوزة طويلة تبلغ ألف بيت كألفية بن مالك فى علوم النحو».
أنا شخصيًا أزمتى الحقيقية مع هذا الموضوع هو هذا التصريح لرئيس جامعة مصرية كبرى، لأن هذا التصريح يحتوى على عدة أخطاء علمية معلوماتية كارثية لا يصح إطلاقًا أن تصدر عن قيادةٍ أكاديمية تتبوأ هذا المنصب الرفيع، لأن الثابت علميًا وتاريخيًا فى تاريخ نشأة هذه العلوم- الطب والصيدلة تحديدًا- أنها لم يتم وضعها بالعربية فى نشأتها الأولى، ولا العرب هم من خلقوا هذه العلوم. ما حدث تاريخيًا- ويجب أن يدركه كل أستاذ جامعى كمعلومات ثقافية عامة حتى وإن لم يكن متخصصًا بها- أن المصريين القدماء هم أول من خلقوا هذه العلوم من العدم، وأنهم أول من كتب مؤلفات فى الطب والصيدلة، وأن جامعات مصر الطبية القديمة فى منف وأبيدوس وعين شمس والأقصر هى أقدم جامعات طبية فى التاريخ المكتوب الموثق. ثم قام اليونانيون والرومان بنقلها عن المصريين وترجموا هذه الكتب إلى اليونانية، وأنشأوا جامعاتهم الطبية نقلًا عن المصريين، قبل أن يعودوا بها إلى مصر بعد احتلالها ويقيموا جامعة الإسكندرية. ومن الإسكندرية- وبعد الغزو العربى- أخذت هذه العلوم بعلمائها إلى أنطاكية والرها ومنهما إلى بغداد بأمرٍ مباشر من الخلفاء العباسيين، بل وقبل ذلك ثبت تاريخيًا قيام الخليفة عمر بن عبدالعزيز بنقل علماء الطب المصريين من الإسكندرية إلى دمشق، واصطفى هو لنفسه أحدهم ليكون طبيبه الخاص.
فى تلك الفترة أضاف بعض علماء المسلمين- وغالبيتهم لم يكونوا من العرب- إلى تلك العلوم، لكن بقى الأساس مصريًا خالصًا مضافًا إليه إضافات يونانية، وفى هذه المرحلة نشطت حركة ترجمة الكتب إلى العربية، وبعض الخلفاء كان يدفع للمترجمين ذهبًا بما يوازى وزن ما قاموا بترجمته. ولن أخوض هنا فيما تعرض له العلماء المسلمون فى علوم الطب والصيدلة وغيرها من مآسٍ على أيدى رجال الدين جراء عملهم بهذه العلوم من تكفير أو اضطهاد، لكن المهم أن نعرف أنه وفى جميع مراحل الترجمة- سواء من المصرية إلى اليونانية، أو من المصرية واليونانية إلى العربية- بقيت غالبية المصطلحات العلمية الخاصة بأسماء العلوم والمواد المستخدمة بلغاتها الأصلية أو بلغة الأمة التى خلقتها وأهدتها للإنسانية. كانت الترجمة تنصب إلى خطوات الشرح والتوضيح لا إلى كنه العلوم ذاتها، لسبب بسيط أن هذه العلوم وهذه المواد لم يكن لها ما يقابلها فى لغات شعوب أخرى، فلم يكن هناك بُد من البقاء عليها كما هى واستحداث ألفاظ توضحها. فمثلًا كلمة فارمسى الإنجليزية ليست إلا كلمة يونانية «فارمكون»، وهذه الكلمة اليونانية ليست إلا كلمة مصرية هى «فارمكا» التى تعنى دواء أو عقار، لأن المصريين هم من وضعوا العلم ذاته، وهذه مجرد كلمة واحدة من آلاف الكلمات التى يعرفها أهل الصنعة.
ثم انتقلت تلك العلوم أخيرًا من دول وحواضر العرب إلى أوروبا، فأضاف لها الأوروبيون مصطلحات جديدة هم مَن وضعوها حتى وصل العالم إلى الاستقرار على هذه العلوم بشكلها المعاصر، والتى يتعلمها العالم كله بلغة واحدة مشتركة دولية تم الاتفاق عليها وهى اللغة الإنجليزية للشرح والتفسير، مع بقاء المصطلحات القديمة بلغات من ابتكرها. لذلك فإننى أتساءل بشكل حقيقى كيف ينسب رئيس جامعة الأزهر للعرب مرة وللمسلمين مرة أخرى فضلًا ليس لهم، وإنجازًا شاركت فى خلقه أممٌ وشعوبٌ أخرى سبقت وجود الإسلام ذاته بعشرات القرون؟! ثم كيف يعتقد أنه بمثل هذا القرار يحافظ على هويتنا؟ تاريخنا نحن المصريين يقول إن هويتنا تجمع كل ما سبق، وأن أسلافنا قبل المسيحية والإسلام هم من قدموا للبشرية هذه العلوم، فهل يريد سيادته سلخ المصريين من هويتهم الحقيقية الشاملة وتجريد مصر من تاريخ يمتد لأكثر من أربعة آلاف عامٍ قبل الغزو العربى لمصر؟! وإذا كان هذا تفكير رأس الجامعة، فما هو المتوقع من طلابها بعد تخرجهم؟!
وبعيدًا عن قصة الهوية تلك، والتى تبدو أنها مرتبكة فى عقل سيادته، وبشكلٍ علمى بحت أتساءل كيف لم يرَ أن مثل هذا القرار يعنى إخراج طلاب الأزهر فى كليات الطب والصيدلة من السياق العلمى الدولى وحصرهم فى غياهب المحلية، التى ولا شك ستكون عودة وتقهقرًا للظلام؟
«3»
أما النقطة الثانية المفزعة فى هذه القصة فهو ما حدث بعد ضجة الرفض والاستنكار. لقد فوجئنا بعميد كلية الطب بنين بجامعة الأزهر يصرح مؤكدًا صواب رؤية الرافضين والمستنكرين للفكرة. ثم يتم التراجع عنها. هل يعنى هذا أن قرارًا بهذه الخطورة لم يتم أثناء اتخاذه استشارة عميد كلية الطب التابعة للجامعة قبل صدوره للعلن؟ تسلسل ما حدث فى الساعات القليلة الماضية يؤكد هذا، أو يقودنا إلى احتمالات لا تقل عبثية عن هذا الاحتمال، فربما تم بالفعل استشارته ورفض، ولم يؤخذ رأيه بجدية، أو أنه وافق قيادات الجامعة ثم تراجع. فى أى حالة من الحالات الثلاثة فنحن أمام أزمة خطيرة فى آليات اتخاذ القرار فى مؤسسة الأزهر التعليمية. فمَن هو الذى يمثل عقل مؤسسة الأزهر ويقوم بالتفكير لها واتخاذ القرارات عنها؟ أو لنقُل مَن هذا الذى يفكر جديًا فى محاولة جر أقدام مصر فى هذا الاتجاه الانسحابى من مضمار سباق العلوم الدولية؟ مَن يفكر ومَن يقدم الأفكار ولمن يقدمها وكيف يتم التعاطى مع أفكاره؟ ومع هذا التضارب بين تصريحات رئيس الجامعة فى البداية، وبين تصريحات عميد كلية الطب بنفس الجامعة يكون التساؤل الأكثر حساسية مشروعًا.. ما هى مساحة التداخل داخل مؤسسة الأزهر التعليمية بين الشيوخ وبين الأساتذة الأكاديميين المتخصصين فى غير العلوم الدينية؟ وكما ذكرت فى مقدمة مقالى، فإن تساؤلاتى استفهامية لا اتهامية، وأعتقد أن لى مشروعية وحقًا أصيلًا فى توجيهها انطلاقًا من عبارة الرئيس بحق المصريين أن يقلقوا على بلادهم.. ونحن بصراحة قلقون جدًا من تراكم عدة مشاهد كان العامل المشترك الأكبر بها هو المؤسسة الدينية وتداخلها فى مساحات مؤسسات مصرية أخرى نرى أنها ينبغى أن تبقى بعيدة تمامًا عن هذا التداخل، الذى بدأ ناعمًا، لكنه قد يتطور إلى ما هو أكثر من ذلك.
«4»
من هذه المساحة التى تبدو الآن ضبابية ومثيرة للقلق، فوجئنا بقرار من وزير التعليم بإضافة درجات مادة الدين للمجموع فى بعض مراحل الدراسة قبل الجامعية. وما أثار القلق أن هذا القرار جاء تاليًا لاجتماعات بين وزير التعليم وبين قيادات بعض المؤسسات الدينية الرفيعة. لماذا؟ كانت هذه هى الكلمة الأولى التى نطق بها المصريون تعليقًا على القرار. وقيل فى معرض تبريره إنه فقط للحفاظ على القيم الأخلاقية وقيم الهوية المصرية وعمل توازن مع ما يتعرض له أبناؤنا من موجات استقطاب غير أخلاقية تتنافى مع قيم مصر ودياناتها. نصدق قطعًا حسن النوايا، لكن نرى أن ذلك التبرير غير منطقى وغير موضوعى ولن يحقق المرجو المعلن منه. أولًا فالطلاب- وكلنا أولياء أمور وندرك كيف يفكر أبناؤنا- سيتعاملون مع القرار على أنه عبءٌ لمادة دراسية جديدة. سيصبح الدين مجرد مادة دراسية يريدون الحصول فيها على أكبر قدر ممكن من الدرجات سواء بالاجتهاد من جانب البعض، أو الدروس الخصوصية من البعض الآخر، أو الغش من البعض الثالث.
ثانيًا، وبعد عامٍ أو أكثر على أقصى تقدير سوف تطل الطائفية البغيضة بوجهها القبيح على المشهد، وسيقوم بعض المعلمين المسلمين والمسيحيين بمنح الطلاب الدرجات النهائية كنوعٍ من المحاباة الدينية لكى لا تكون مادة الدين سببًا فى حرمان بعضهم من الالتحاق بأى مؤسسة تعليمية أخرى. وهذا سيكون نوعًا جديدًا من امتطاء الديانة لا الارتقاء بها والإعلان من شأن قيمها.
ثالثًا وهو الأهم، ما هى المؤسسة الأَولى بشكل حقيقى بتقويم أخلاق النشء، والتى لديها من اعتبارات الخوف والقلق على هؤلاء أكثر من غيرها؟ أليست الأسرة؟ أليست هى مؤسسة التربية الأهم وصاحبة الحق والواجب الأصيل فى ذلك؟ الحفاظ على الهوية لا يكون بالحفظ أو التلقين، كما لا يكون بالترهيب عبر درجات امتحانات، لأن لدى مصر تجربة قوية سابقة وأنا أتعجب من عدم دراستها حين تم اتخاذ هذا القرار. الترهيب الأخلاقى الدينى كان حاضرًا بقوة فى مصر فى أربعة عقود بالتمام والكمال. نعم لم تكن درجات مادة الدين مضافة للمجموع، لكن كان هناك ما هو أقوى من ذلك بكثير جدًا. كان لرجال الدين سطوة اجتماعية كبرى فى مصر من بعد نصر أكتوبر 73م وحتى يناير 2011م. هذه السطوة والحرية المطلقة وتملك المنابر بشكلٍ مطلق ولجوؤهم إلى استعمال خطاب دينى ترهيبى بامتياز، هل نجح كل ذلك فى تقويم السلوك المصرى الجمعى للنشء بقدر يتناسب مع تلك المساحة الهائلة الممنوحة لهم؟ الإجابة القطعية هى لا ضخمة بضخامة حجم الرشوة والفساد وانتشار المخدرات وكل ما نعرفه جميعًا والأخطر هو انتشار الإرهاب فكرًا أو انضمامًا تنظيميًا بين كثير من المصريين.
إن ما استقرت عليه نتائج العلوم الإنسانية المتماسة مع السلوك الإنسانى يقرر أن تهذيب الأخلاق أو الحفاظ على الهوية لا يمكنه التحقق بقرار مثل هذا، لكن هو مسئولية مجتمعية تضامنية بين عدة مؤسسات منها الأسرة والإعلام وأجهزته ونشر الفنون والرياضة بين الصغار، وسيادة خطاب دينى معتدل لا يخاصم الحياة أو تاريخ البلاد، ولا يكون خطابًا عبوسًا متجهمًا مفزعًا.
إن مثار القلق فى هذه القصة لدى بعضنا هو كيفية صدور القرار، والذى يوسوس لبعضنا- ونتمنى أن يكون حقًا من وساوس الشيطان لا من حقائق ما يجرى خلف الكواليس- بشىء آخر مختلف تمامًا عما أعلن من أهداف للقرار. هذا البعض يخشى أن يكون القرار هو نتيجة تداخل خشن من مؤسسات دينية فى مسار التعليم المصرى الحكومى المدنى الذى يجب أن يكون هو أول وأهم أسس أى دولة مدنية. ويخشى هذا البعض أيضًا أن تكون هذه مجرد مقدمة لما هو أسوأ وأخطر، وأنها نوعٌ من تطبيق نظرية «الهجوم خير وسيلة للدفاع». فبدلًا من أن نكون فى طريقنا لتنقية مقررات دراسية عتيقة فى مؤسسات دينية تعليمية، والتى ألقت بظلالها على مصر عبر العقود الماضية، فها نحن ننشغل بتلك القرارات المباغتة فنترك ما كنا فى طريقنا لتحقيقه! أى أننا أمام هجوم مدروس بدقة للالتفاف أو الانقلاب على ما حققته مصر بالفعل فى السنوات السابقة ووقف لباقى خطوات الدولة المصرية.
الدين ممارسة روحية فردية تبدأ فى المنزل والمسجد والكنيسة وفى ممارسات المجتمع العامة، أما ترويض السلوك الجماعى للصغار وتهذيب مشاعرهم بشكلٍ جماعى حقيقى يترك آثارًا حقيقية فى شخصياتهم، فهذا طريقه معروف ولقد حسمته علوم النفس والطب النفسى. تعليم الفنون والموسيقى وممارسة الرياضات المختلفة هى هذا الطريق. ليس من صالح هذه البلاد ومستقبلها أن نهمل هذا فى المدارس لصالح أدوار أكبر لرجال الدين.
«5»
تضج شاشات القنوات المصرية بإعلانات جمع الأموال أو التبرعات عبر جمعيات ومؤسسات خيرية مختلفة تتشابه جميعها فى مخاطبة الوازع الدينى للمصريين واستنفار قيم التراحم بينهم. وتتولى الإشراف عليها والترويج لها شخصيات دينية تحظى قطعًا باحترام وثقة قطاعات كبيرة من المصريين. وتقوم كل شخصية بتحديد أوجه إنفاق أموال المتبرعين والتى تنحصر- فى حالة المؤسسات التى تحظى بثقة هذه القطاعات- فى حالات توفير الطعام للفقراء أو المساهمة فى مستشفيات مختلفة التخصصات. على هذا الأساس يقوم ملايين المصريين بتوجيه جزء من تبرعاتهم لتلك المؤسسات ثقةً منهم فيمَن يتولى شئونها ويظهر علنًا على تلك الشاشات. يريد مواطن توجيه تبرعاته لمصارف بعينها دون غيرها. هذا يعنى أن تلك الأموال أمانة بين أيدى تلك الشخصيات وليس من حقها أن تقوم بإنفاقها فى غير ما أعلنته للناس. ومن باب الالتزام الأخلاقى قبل القانونى، يكون إنفاق بعضها أو كلها فى غير ما أعلن عنه هو خيانة صريحة للأمانة. فهذه الأموال ملكٌ لأصحابها أو ملكٌ بموافقتهم فقط للمستحقين الذين أعلن عنهم قبل تحصيلها، ولو أراد القائمون على جمع هذه الأموال تحديث أو إضافة مستحقين جدد، فعليهم تحديث إعلاناتهم وتوضيح هذه الأوجه الجديدة وهؤلاء المستحقين، وساعتها يكون للمواطنين كل الحق فى الاستجابة أو الرفض، ويتم فتح حسابات جديدة ويتم الفصل بين الأموال القديمة والجديدة. هذه أبسط القواعد الأخلاقية التى يجب الالتزام بها، لا أن يفاجأ المتبرعون عبر وسائل الإعلام بأن هذه المؤسسة أو تلك تقوم من تلقاء نفسها بتوقيع ما أسمته بروتوكولات تعاون بينها وبين مؤسسات دينية لتوجيه جزء من أموال المتبرعين لأوجه إنفاقٍ لم تتم استشارتهم بها وكأن أموالهم أصبحت ملكًا لتلك المؤسسة تتصرف فيها كيفما شاءت.
فى عقود الثمانينيات والتسعينيات اكتظت مصر بجمعيات خيرية تجمع الأموال للفقراء والمحتاجين، ثم فوجئ المصريون بعدها بسنوات بأن كثيرًا من أموالهم لم تذهب لا لفقراء ولا لمرضى، وإنما وُجهت لأنشطة سياسية كانت تصب جميعها فى صالح تعظيم قدرات جماعة الإخوان. حتى لو كان هناك فارقٌ بين الحالتين- بين تلك العقود وبين ما أتحدث عنه اليوم- لكن تبقى الفكرة الأم واحدة، وهى أنه لا يحق أخلاقيًا توجيه أموال المصريين التى تبرعوا بها لغير ما وافقوا عليه.
يقول الخبر المنشور إن وزارة الأوقاف المصرية وقعت بروتوكولًا لدعم مبادرة عودة الكتاتيب بمشاركة مسئولين عن مؤسسات مصرية خيرية تمت تسميتها فى الأخبار المنشورة صحفيًا.
«6»
مرة أخرى أجدنى مضطرًا لطرق باب الحديث عن هذه المبادرة- بعد أن أشرت إليها فى مقال سابق- وما هى بالضبط؟ صغار السن ربما لا يدركون ما هى منظومة الكتاتيب فى مصر. ولهؤلاء أقول إنها منظومة كانت موجودة فى مصر فى القرى والنجوع والمدن، وإن الغرض النظرى المعلن لها وقتها كان تعليم وتحفيظ القرآن الكريم للصغار، لكن قد تم استغلالها عبر عدة عقود كأماكن مثالية للسيطرة على عقول الملايين من أطفال مصر لغرس أفكار التطرف الدينى، ولدىّ تجارب شخصية سلبية حدثت قبيل أحداث يناير- وقد ذكرت بعضها فى نفس المقال السابق بعنوان رحلتى العقلية مع رجال الدين- يمكن الإشارة لبعضها مثل توزيع مطبوعات على الأطفال لتحريم مناسبات اجتماعية مصرية. سيطرت الجماعات المتطرفة المختلفة- فى نطاق سيطرتها على مساجد وزوايا مصر- على هذه الكتاتيب، وكونت لها بالفعل ظهيرًا شعبيًا من هذه الملايين بعد أن كبروا وأصبحوا أرباب أسر آباء وأمهات. هذه هى الحقيقة دون تجميل أو تهويل. الواقع كما عشناه وكنا شهودًا عليه وكتمه خيانة صريحة لأى شربة ماء نشربها أو كسرة خبز نطعمها من خير هذه البلاد.
منذ أشهر نشرت وزارة الأوقاف رسميًا خبر مبادرتها «عودة الكتاتيب»، وفى الواقع لم يحتوِ الخبر على تفاصيل كافية أو شروح وتفاسير حقيقية لما سيتم على الأرض. نعلم جميعًا ما قامت به مصر فى السنوات السابقة من جهدٍ كبير فى محاولة ترويض وتصويب الخطاب الدينى الذى بلغ ذروة انفلاته بعد أحداث يناير 2011م، ولقد قام وزير الأوقاف السابق د. مختار جمعة بجهدٍ عظيم فى سبيل تحقيق ذلك، وقام بالفعل بإعداد كوادر شبابية من علماء الوزارة الذين عملوا ككتيبة مصرية خالصة لمحاولة إعداد أئمة الأوقاف المصريين إعدادًا جيدًا علميًا وفكريًا، ولا يمكن أن ننكر جهد هذا الرجل وكتيبته من شباب العلماء وقتها. ورغم ذلك فلم تكن المحاولة سهلة إطلاقًا، وكان هناك تململٌ وأحيانًا رفضٌ وتمرد من جانب البعض تمسكًا من هذا البعض بالخطاب الدينى المتطرف. آلية الضبط فى المساجد تعتمد على فكرة المتابعة البشرية من قبل مفتشى وزارة الأوقاف على المساجد، ورغم أن هناك آليات أخرى أكثر فاعلية قمت باقتراحها منذ سنوات مثل كاميرات المساجد، لكن ما لا يُدرك كله لا يُترك كله، ولا بد من توجيه الشكر لقيادات الوزارة على ما قامت به فى تلك السنوات.
الآن لدينا مفردة جديدة موجهة لأطفال مصر وهى تلك المبادرة. استنادًا إلى تجربة وزارة الأوقاف التى أشرتُ إليها، واستحضارًا لتجربة مصر السابقة فى الكتاتيب، فإننى أتوجه لقيادة وزارة الأوقاف الحالية صاحبة المبادرة بهذه التساؤلات التى لا أدّعى أنها نابعة كلها من شخصى فقط، لكننى أحملها إلى الوزارة بعد أن قرأتها عن مصريين كثيرين.
ما هو الدور الذى وضعتموه لهذه الكتاتيب، وما هى المقررات التى وضعتموها لأطفال مصر إن كانت هناك مقررات بالفعل، أم أن الأطفال سوف يُتركون مرة أخرى للشيوخ ورؤية كل منهم لغرسها فى عقول هؤلاء الأطفال؟
هل سيقتصر دور الكتاتيب على تحفيظ القرآن الكريم، أم ستكون مؤسسة تعليمية منفصلة عن مؤسسات تعليم مصر الرسمية المدنية؟
مَن هؤلاء الشيوخ الذين سوف يوكل إليهم هؤلاء الأطفال؟ وعلى أى أساس تم اختيارهم؟ هل فقط الجغرافيا؟ أم تم عمل إعداد تأهيلى واختبارات لهم؟
إذا كانت الوزارة تقوم بعبء كبير وهو التفتيش على المساجد يوم الجمعة، لمتابعة ما يقال فوق المنابر، فما هى الآليات التى أعدتها الوزارة لضبط الكتاتيب ومتابعتها؟ كم عدد هذه الكتاتيب فى مصر حسب المبادرة؟ أم أنه قد تُرك لكل المساجد تنفيذ المبادرة بشكل منفصل؟ وفى هذه الحالة يكون السؤال الأقوى وكيف ستتابعون ما يحدث؟ هل سيكون فى كل مسجد مفتش تابع للوزارة كل يوم يكون هناك به دروس فى الكُتاب؟!
فكرة الثقة دون وجود آليات محددة معلنة هى فكرة مرفوضة تمامًا، لأن مصر لا تستحق أن نفعل بها هذا مرة أخرى. مساجد القرى والنجوع خاصة النائية منها سوف تصبح مرة أخرى مفارخ لأفكار التطرف والإرهاب. لا يوجد شىء اسمه أننا انتهينا بالفعل من تأهيل الأئمة ونثق بهم وسنترك لهم أطفال مصر وعقولهم، لأن كل التجارب المماثلة أثبتت العكس وأوجبت وجود آليات ضبط ورقابة معلنة ومعروفة ومقبولة مجتمعيًا. نريد من وزارة الأوقاف أن تعلن بالتفصيل إجابات هذه التساؤلات.
ولو أنها قد تسرعت فى إعلان المبادرة، وأنها لا تمتلك مقررات ولا آليات تحمى عقول الصغار، فإننى أخاطب ضمائرها الدينية والوطنية وأدعوها إلى التحلى بالشجاعة لإعلان ذلك وتجميد تلك المبادرة لحين القيام بما لم تقم بالاستعداد له. والأمر ليس سرًا أو معقدًا.. سؤال محدد يجب أن تسأله هذه القيادة لضمائرها.. هل سيكون هناك كُتاب واحد خارج نطاق آليات الوزارة؟ لو كانت الإجابة نعم فعليها أن تراجع نفسها وأن تتحمل مسئولياتها بما يتناسب مع ما قدمته هذه البلاد وشعبها من تضحيات وأثمان.
«7»
أحمل رسالة أو عتابًا من بعض الصديقات والأصدقاء لفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر. لن أخوض إطلاقًا فى مواقف أو رؤى فضيلته، وإنما فقط سأنقل له هذا العتاب الرقيق الذى حمّلتنى إياه بعض المصريات..
لاحظتْ بعضهن أن الكاميرات لم تنجح إطلاقًا فى التقاط أى صورة لفضيلته أثناء حضوره بعض الفعاليات المصرية الأخيرة وهو يبتسم. الشخصيات العامة قطعًا تختلف فى ردود أفعالها عن العوام ممَن هم مثلنا. وندرك أنهم يعلمون قطعًا ما تعنيه لغة الجسد وتعبيرات الوجه، وأنها ربما تُفسر صدقًا أو خطأ على أنها تعبيرٌ ضمنى عن مواقف لا يتلفظ بها اللسان صراحة.
لاحظتْ بعض سيدات مصر الفضليات أن فضيلته ولمددٍ طويلة جدًا امتدت لأعوام يضن على المصريين- أثناء حضوره بعض المناسبات المصرية الخالصة- بتعبيرات وجه راضية باسمة. وعلقت إحداهن مداعبة بروح مصرية خفيفة أن تبسمك فى وجه أخيك صدقة، فلماذا لا يتصدق علينا فضيلته؟!
لم أكن لأستجيب لنقل هذه الرسالة لو أعلم أن هذه هى عادة فضيلته طوال عمله العام، لكننا نملك لفضيلته مشاهد أخرى وثقتها لنا الكاميرات، رأينا خلالها تفاصيل وجهه باسمة ضاحكة مبتهجة، ولن أقول متى حتى لا يوسوس الشيطان فى أذن أحدٍ بما لا أقصده.
لكننى أقول إن بعضنا لم يلتمس لفضيلته مبرر أن الصرامة والجدية الشديدة البادية على ملامح فضيلته أثناء هذه الفعاليات المصرية القومية إنما هى انعكاسٌ لما تمر به المنطقة من كارثة إنسانية بجوار مصر، وذلك لأن مشاهد فضيلته الباسمة تم التقاط بعضها فى أوقاتٍ كانت مصر تمر بمحنٍ قاسية لم تمنع فضيلته من طمأنة مشاهديه ومحدثيه بابتسامته. أرجو أن يقوم مستشارو فضيلته بلفت نظر فضيلته لذلك، لأن المصريين يدققون كثيرًا فى تفاصيل وجوه الشخصيات العامة، وجميعنا نذكر قطعًا كيف احتفى المصريون بملامح وجه وزير الدفاع المصرى فى تلك اللقطة الشهيرة ومرسى يلقى خطابه الأخير.
«8»
فى نهاية حديثى أكرر أن مشاعر كاتب المقال تتفق مع مشاعر كثير من المصريين بالقلق مما تمر به مصر حاليًا من مشاهد كانت فيها تلك المؤسسات هى العامل المشترك الأكبر. وبعضنا يشعر بأنها ليست مصادفة أن تجتمع تلك المشاهد فى تلك الفترة الزمنية القصيرة. وأن تزامنها يوحى بأن هناك ما يجرى خلف الكواليس مما لا نعلمه لكن نشعر به. نتمنى أن يخطئ حدسنا، وأن تكون مجرد مصادفات وليست خطوات منظمة بدت ناعمة ثم لا تلبث أن تخشن وتسفر عما لا نحب أن نراه مرة أخرى من أحداث ومشاهد فى مصر.
أشارك مصريين كثيرين فى هذا القلق، وأشارك كل المصريين فى الحق فى التعبير عن القلق بما يكفله الدستور المصرى، وبما أكد عليه سيادة الرئيس بالأمس من أنه «بلدنا» ومن حقنا أن نقلق عليه. المؤسسات هى مؤسسات مصر والمصريين، تمثل مصر وشخصيتها وهويتها، وتقوم على تحقيق آمال وطموحات المصريين المشروعة فى بناء دولة مدنية عصرية قوية. ليس من حق قيادة أى مؤسسة مصرية تنفيذية دينية أو تعليمية أو ثقافية اتخاذ قرارات لا تعبر عن شخصية مصر أو طموحات المصريين، لأنهم- مهما كانت وظائفهم وألقابهم- موظفون يقومون بوظائف محددة لا تحتوى إحداها بندًا يمنحهم حق تغيير هوية مصر أو تغيير شخصيتها أو الضرب بعرض الحائط لطموحات المصريين المشروعة. بناء دولة وطنية مدنية قوية لا يعنى إطلاقًا- كما يتم الترويج خطأ- الانسلاخ من القيم الدينية، لكن أيضًا التمسك بهذه القيم الأصيلة لا يعنى إطلاقًا أن تتراجع مؤسسات تعليمية وتتنازل عن مساحات من تواجدها لصالح مؤسسات دينية أو لرجال الدين. المصريون مارسوا طقوس شعائرهم طوال تاريخهم باعتدال، وحين طغت سلطة رجال الدين على إدارات الدولة سقطت مصر، واقرأوا تاريخ نهاية الدولة المصرية الحديثة فى منتصف القرن الحادى عشر قبل الميلاد حين قفز رجال الدين إلى السلطة، فلم تقم لمصر بعدها قائمة حتى سقطت تحت الاحتلال الأجنبى الواحد تلو الآخر.
غايتى هى وطنى، ولن يمنعنى من الدفاع عن هذا الوطن التحرج الدينى، أو الخوف من تفسير الكلمات على أنها ضد الدين.. لا أعمل بالسياسة ولن أعمل بها، ولا غاية لى سوى أن أرى مصر تتبوأ ما يليق بها من مكانٍ ومكانة أو حتى أن تسير فى هذا الاتجاه.. ولن يتحقق ذلك سوى بأن يقوم كل منّا بما يتوجب عليه القيام به.. وأرى أن الدفاع عن مدنية مصر هو من تمام الدفاع عنها وأنه هو واجبى..
ولن يمنعنى عن القيام بهذا الواجب مانعٌ سوى توقف آخر نفس لدىّ.. أو الموت.