وقف إطلاق النار فى غزة.. مُهدد بنوايا نتنياهو!!
قبل أن تبدأ إسرائيل تنفيذ المرحلة الأولى من صفقة الرهائن بساعات، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، مساء أمس الأول السبت، ليعلن إلى شعبه، «لقد غيرنا وجه الشرق الأوسط»!!.. وقال، إنه «من خلال هذه الكارثة الرهيبة، ظهرت القوة الهائلة لروح الشعب الإسرائيلى، كما ظهرت البطولة العليا لجنودنا، وهذا ما يقودنا بتصميم شديد لتحقيق جميع أهداف الحرب: إعادة جميع رهائننا، والقضاء على قدرات حماس على الحكم، وضمان أن غزة لم تعد تشكل تهديدًا لبلدنا».
وأشار إلى أن الحكومة ومجلس الوزراء الأمنى وافقا على الخطوط العريضة للصفقة.. لقد ظلت مهمة تحرير الرهائن عالقة فى ذهنى طوال الوقت.. ومع مواطنى إسرائيل والعديد من أنحاء العالم؛ وسنعيد الجميع إلى ديارهم».. وأكد أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب بمجرد انتخابه، حشد نفسه لتحرير الرهائن.. تحدث معى مساء الأربعاء.. رحب بالاتفاق، وأكد بحق، أن المرحلة الأولى من الاتفاق هى وقف إطلاق نار مؤقت.. هذا ما قاله «وقف إطلاق نار مؤقت» وأن ترامب وبايدن أعطيا دعمًا كاملًا لحق إسرائيل فى العودة إلى استئناف الحرب، إذا خلصت إسرائيل إلى أن مفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق غير مُجدية.
ولم ينس نتنياهو أن يُقدِّر «قرار الرئيس ترامب برفع جميع القيود المتبقية على توريد الأسلحة والذخيرة الأساسية إلى دولة إسرائيل».
كما حدد رئيس الوزراء الإسرائيلى فى خطابه بعض المبادئ، بما فى ذلك القدرة على العودة إلى القتال إذا لزم الأمر.. سيكون هناك زيادة كبيرة فى عدد الرهائن الأحياء الذين سيتم إعادتهم فى المرحلة الأولى.. وقال نتنياهو، إنه على عكس موقف حماس فى مايو، فإن عدد الرهائن الأحياء الذين كان من المفترض إطلاق سراحهم فى المرحلة الأولى تضاعف تقريبًا.. بالإضافة إلى ذلك، ستواصل القوات الإسرائيلية الحفاظ على موقعها فى ممر فيلادلفيا!!.. وقال إنه يخطط حتى لزيادة عدد القوات المتمركزة هناك!!.. فهل نحن أمام «وقف مؤقت للقتال فى غزة»، يعقبه حرب من جديد على القطاع؟.
سلطت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، الضوء على الفشل الإسرائيلى فى حسم الحرب على قطاع غزة، مؤكدة أن حركة المقاومة الإسلامية «حماس» ستظل فاعلة ومتجددة، حتى لو تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار واتفاق تبادل أسرى.. وفى مقاله، تطرق المحلل العسكرى، يوآف زيتون، إلى مؤشرات الفشل الإسرائيلى فى حرب الإبادة على غزة، والتى تتمثل فى عدم تحديد أهداف استراتيجية واضحة للحرب، مما يزيد من حجم الخسائر العسكرية، ويؤدى إلى استمرار الحرب دون أفق.. وأوضح أيضًا أن افتقار الحكومة الإسرائيلية للشجاعة السياسية، لاتخاذ قرارات حاسمة بشأن غزة، وغياب بديل حقيقى لحماس، يترك إسرائيل أمام تهديد مستمر قد يتفاقم فى المستقبل.
وقد بدأ زيتون مقاله بتقييم الجيش الإسرائيلى، بأن القتال ضد حماس سوف يُستأنف فى المستقبل المنظور، بمجرد الانتهاء من المرحلة الأولى من اتفاق تبادل الأسرى، لأن إسرائيل لم تتمكن من نزع سلاح الحركة، التى ستبقى تشكل تهديدا «يجب محاربته».. ونقل عن مصادره فى الجيش قولها: «حتى لو لم يكن هناك قتال على الأرض فى البداية، فإنه بعد المرحلة الثانية من الاتفاق، فإن الشريط العازل السميك حول القطاع، سيبقى موطئ قدم للجيش الإسرائيلى، وسيكون نقطة انطلاق للغارات فى عمق غزة إذا لزم الأمر».
كما يرى أن حماس ستظل تشكل تهديدًا عسكريًا على المدى البعيد، من خلال أنفاقها التى أصبحت جزءًا من بنيتها التحتية العسكرية، الممتدة لعشرات الكيلومترات تحت الأرض، حيث تعمل على تجميع الأسلحة وتدريب ناشطيها.. وحسب زيتون، فإن الأنفاق والتسليح سيجعلان من المستحيل القضاء على حماس بشكل كامل فى المستقبل القريب، وبالتالى سيتعين على الجيش الإسرائيلى مواصلة محاربتها، سواء من خلال العمليات العسكرية المباشرة، أو تنفيذ غارات فى عمق غزة حتى بعد توقيع أى اتفاق.
فى المقابل، نقل زيتون عن مصادر عسكرية قولها، إن الجيش الإسرائيلى يقاتل حاليًا فى غزة دون هدف حقيقى أو استراتيجى، لكنه فى الوقت نفسه يدفع ثمنًا باهظًا، من خلال زيادة عدد مقابره العسكرية كل يوم تقريبًا.. «إننا لا نتردد فى إرسال المزيد من الجنود إلى حتفهم فى معارك بلا هدف»، هكذا علق.. «إن كبار الضباط فى الجيش الإسرائيلى أضعف من أن يصرخوا، وأصبح السماح بالنشر أمرًا روتينيًا.
وعلى هذا النحو، فإن بيت حانون وجباليا ليستا سوى عرض ترويجى، لما سيحدث للجنود فى غزة وخان يونس»، فمنذ أكثر من ستة أشهر، لم يعمل الجيش الإسرائيلى على نطاق واسع فى خان يونس أكبر مدن قطاع غزة، وحماس لديها قيادات ذات خبرة هناك، مثل قائد لواء رفح، محمد شبانة، وحماس تسيطر على مدينة ضخمة مكتظة بالنازحين هناك، من النصيرات إلى دير البلح إلى مشارف رفح.
وفصَّل المحلل فى صحيفة «يديعوت أحرونوت» الفشل الإسرائيلى فى غزة، رغم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، قائلًا: «هذا، ولم يدخل الجيش الإسرائيلى بعد إلى مدينة غزة نفسها، بأحيائها الكبيرة، مثل الشجاعية والدرج والتفاح ومخيم الشاطئ وحى الصبرة والرمال وغيرها».. إن العملية المتكررة فى جباليا ومحيطها استمرت نحو أربعة أشهر، وأودت بحياة نحو ستين جنديًا فى البلدات التى سبق أن دخلها جيش الاحتلال نهاية 2023، وهناك عدد أكبر من السكان متبقين فى مدينة غزة، مقارنة بجباليا عشية العملية الحالية، والعملية العسكرية هناك ستكون أطول وأكثر صعوبة!!.
ورغم كل هذه الخسائر العسكرية التى يتكبدها جيش الاحتلال، يرى المحلل العسكرى، أن الجيش الإسرائيلى يواصل خوض معركة طويلة ومُكلفة فى قطاع غزة، فيما تواصل الحكومة الإسرائيلية المماطلة فى اتخاذ القرارات السياسية الحاسمة، التى قد تضع حدًا لهذه الحرب.. ونقل عن محللين عسكريين إسرائيليين قولهم، إن «الحكومة الحالية بقيادة وزراء مترددين، لا تملك الشجاعة لمواجهة التحديات الكبرى التى تفرضها حرب غزة، وبينما يواصل الجنود الإسرائيليون دفع الثمن فى معارك بلا أهداف واضحة، فإن الخسائر فى الأرواح تتراكم، دون رؤية استراتيجية تحقق الأمن فى المستقبل القريب.. وبدلًا من العمل على معالجة القضايا الأمنية الكبرى، يظل الوزراء مشغولين بأمور فورية، مثل توجيه الجيش لضرب غزة، إذا استأنفت حماس إطلاق الصواريخ، أو التعامل مع حوادث محددة فى مناطق أخرى مثل السامرة».
وفى رأيه، فإن وزراء الحكومة وعلى رأسهم رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو غير قادرين على طرح رؤية شاملة، حول كيفية إنهاء الحرب فى غزة بشكل فعال ومُستدام، وهذا يؤدى إلى إرسال الجنود إلى معارك مُكلفة لم تحقق نتائج ملموسة، دون أن تكون لديهم رؤية واضحة أو هدف محدد.. ناهيك عن الضغوط التى يتعرض لها الجيش، بسبب العمليات العسكرية المتعددة التى يخوضها على عدة جبهات، حيث يجد الجنود الذين يقاتلون فى غزة أنفسهم فى وضع صعب للغاية، ويضطرون لمواجهة تحديات متعددة فى نفس الوقت، منها نقلهم إلى العمليات الأمنية فى الضفة الغربية وسوريا، مما يعرضهم للإرهاق، وبالتالى يؤثر على قدرة الجيش على تحقيق أى نصر حاسم فى غزة، ويزيد من حجم الضغوط النفسية التى يعانى منها الجنود.
وحول عدم وجود رؤية لدى الحكومة الإسرائيلية لشكل الحكم فى غزة، يقول زيتون، «يطلب كبار المسئولين فى الجيش الإسرائيلى من القيادة السياسية خلف الأبواب المغلقة، تكليفهم بمهمة محددة لتحقيق هدف سياسى محدد لغزة، حتى لو كان إعادة التوطين وإلغاء الانسحاب منها أو أى هدف مؤقت، مثل تشكيل حكومة عسكرية إسرائيلية كما كانت موجودة فى الماضى، أو إيجاد حكومة محلية بديلة لحماس بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، ولكن الحكومة الحالية تخشى أن تقرر أو تناقش، وكل نقاش من هذا القبيل مؤجل».
ويقول، نقلًا عن كبار جنرالات الاحتياط، إنهم يعبرون عن شكوكهم فى أن الهدف الحقيقى للحكومة الإسرائيلية هو إعادة توطين غزة.. وقال الجنرالات إن الحكومة «ماكرة بما يكفى، لعدم الكشف عن هذا الهدف لعائلات المقاتلين والاحتياطيين»، لأن أى قرار سياسى بشأن غزة، يتطلب حملات إقناع داخل إسرائيل وخارجها، إلى جانب التخطيط المُطول، والميزانيات الضخمة، والثمن السياسى والاقتصادى الباهظ».. ولذلك يرون، أن «النتيجة هى التضحية بأرواح الجنود، إذ لا مشكلة فى التضحية بهم من دون مبرر من أجل الوزراء».
وفى محاولة لتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية، أطلقت الحكومة الإسرائيلية بعض المبادرات السياسية، مثل الإعلان عن خطط لتوزيع مساعدات إنسانية على سكان غزة، من خلال شركاء أمريكيين.. لكن هذه المبادرات فشلت على أرض الواقع بشكل واضح، وتبين أنها كانت مجرد محاولات لكسب الوقت والإيحاء بوجود خطة بديلة.. ليخلص زيتون أن «ترويج الحكومة لهدف انهيار حكم حماس المدنى والعسكرى، هو كذبة تم تسويقها للجمهور منذ الأسبوع الأول من الحرب، وهى لا تملأ الفجوة المطلوبة بشدة: من سيحكم المليونى شخص من سكان غزة بدلًا من حماس؟».. ولخص زيتون الأزمة التى تواجه الاحتلال بقوله، «تطورت حماس إلى قوة عسكرية ومنظمة، مدعومة بشبكة من الأنفاق والأسلحة، وما زالت تحتفظ بحضور قوى فى غزة رغم سنوات الحروب، وبالتالى فإن العمليات العسكرية التى تُنفذ ضد الحركة قد تستمر لسنوات طويلة»!!.
●●●
طريق نتنياهو للموافقة «الجبرية» على اتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، محفوف بالمخاطر التى قد تودى بحكومته، ومن ثم محاكمته على قضاياه الجنائية المنظورة أمام القضاء.. لعل واحدة من أبرز العقبات أمام الاتفاق، تتمثل فى موقف شركاء نتنياهو فى الائتلاف الحكومى، والحديث هنا تحديدًا عن بتسلئإيل سموتريش، وزير المالية، وعن إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي.
وقد اجتمع الحزب الدينى القومى، الصهيونية الدينية، الذى يتزعمه سموتريتش لبحث خطواته، بعد عدم التوصل إلى تفاهم بين سموتريش ونتنياهو فى لقاءاتهما هذا بشأن الصفقة مع حماس.. وفى بيان رسمى، أعلن حزب الصهيونية الدينية، أنه يعارض الصفقة بشدة، وأضاف أن «الفصيل يقف وراء مطالب رئيس الحزب، الوزير بتسلئيل سموتريش، من رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بضمان عودة إسرائيل إلى حرب تدمير حماس، وعودة كل المختطفين، مع تغيير مفهوم القرار والانتصار، مباشرة بعد انتهاء المرحلة الأولى من الصفقة، وذلك كشرط لبقاء الحزب فى الحكومة وفى الائتلاف».
وصرح عضو الكنيست تسفى سوكوت، من الصهيونية الدينية، «ليس لدينا فى الوقت الحالى وعود واضحة باستمرار هذه الحرب، ودون ذلك، لا أرى سببًا لبقائنا فى هذه الشراكة.. سنقف ضد من ينهى حدث السابع من أكتوبر بانتصار حماس.. إذا انتهت هذه الحرب بسيطرة حماس على كامل غزة، فهذا نصر واضح لها.. لا نريد تفكيك الحكومة، لكن إذا أدت هذه الحكومة إلى انتصار حماس فى هذه الحرب، هذا حدث سنقاتله!!».
ليس ذلك فحسب، بل إن هناك من يرى إطلاق سراح السجناء الفلسطينيين بمثابة كابوس للإسرائيليين، ومن هؤلاء، ستيفن فلاتو، رئيس الصهاينة المتدينين فى الولايات المتحدة. وهو والد أليسا فلاتو، التى قُتلت فى هجوم فلسطينى عام 1995، ومؤلف كتاب «قصة أب: كفاحى من أجل العدالة ضد الإرهاب الإيرانى».. يقول فلاتو، «كنت أعلم أن هذا اليوم سيأتى.. فمنذ بدأت إسرائيل فى إطلاق سراح السجناء كبادرة حسن نية وفى مقابل الرهائن، كنت أعلم أن الوقت سيأتى عندما يتم إطلاق سراح الإرهابيين الذين تلطخت أيديهم بالدماء!!»، حسب تعبيره.. وكأن نتيجة إطلاق سراح سجناء فلسطين فى 2011، مقابل إطلاق سراح الجندى الإسرائيلى، جلعاد شاليط، الذى ظل محتجزًا لدى حماس لمدة خمس سنوات، لم تكن بمثابة تحذير كافٍ، فإن الجولة التالية من عمليات الإفراج ستكون مزعجة بنفس القدر بالنسبة للإسرائيليين.
فى أعقاب مقتل ابنتى إليسا بستطرد فلاتو فى هجوم فى كفار داروم عام 1995، تمكنت إسرائيل من القبض على بعض المتورطين فى مقتلها وإدانتهم والحكم عليهم بالسجن مدى الحياة.. وبينما يجلسون اليوم فى سجن شديد الحراسة، بموجب أحكام بالسجن مدى الحياة، فأنا على يقين من أنهم يبتسمون أكثر من المعتاد، بسبب احتمال إدراجهم فى قائمة السجناء الذين سيتم إطلاق سراحهم قريبًا.. لا شك أن أسر الأسرى الإسرائيليين مسرورة للغاية باحتمال لم شملها مع أحبائها، الذين ظلوا محتجزين لأكثر من عام فى ظروف لا توصف تحت الأرض فى غزة.. وأنا مسرور أيضًا، لأن الأسر سوف تجتمع من جديد، ولكن فرحتى تتضاءل عندما أعلم أن هؤلاء الفلسطينيين أصبحوا الآن قادرين على ممارسة «الإرهاب» من جديد.
هذه ليست تجربتى الأولى فى التعامل مع إصرار إسرائيل على إطلاق سراح السجناء.. ففى مناسبتين سابقتين خلال الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، عندما كانت إسرائيل تنفذ عمليات إطلاق سراح السجناء، بحثت بلهفة عن قائمة السجناء الذين سيتم إطلاق سراحهم.. وحين حصلت عليها، بحثت بعناية فى قائمة الأسماء العربية المكتوبة بالأحرف العبرية، بحثًا عن أسماء نضال مصطفى بورى، وأحمد داود أبو داتشى، ومرام إبراهيم سلامة، والحليم صاحب عمر بلباسى، الذين يقضى كل منهم عقوبة السجن المؤبد، بسبب تفجير كفار داروم. وخلافًا للولايات المتحدة، لا تطبق إسرائيل عقوبة الإعدام على الإرهابيين.
ويرى فلاتو أن هناك أسباب وجيهة لعدم إطلاق سراح الفلسطينيين المدانين. ورغم أن مثل هذه القرارات غالبًا ما تكون مدفوعة باعتبارات دبلوماسية أو أمنية أو إنسانية، فإنها «تنطوى على مخاطر كبيرة وتداعيات سلبية.. والصفقة الحالية لإطلاق سراح السجناء ضارة بإسرائيل، وعلى المدى البعيد، بالمجتمع الغربى لعدة أسباب».. إن إطلاق سراح السجناء من شأنه أن يقلل من قدرة إسرائيل على الردع ضد المقاومة.
وإذا كانت سياسة إسرائيل تتلخص فى فرض عقوبات قاسية على أولئك الذين يرتكبون أعمالًا إرهابية، لردع المهاجمين المحتملين، فإن إطلاق سراح هؤلاء السجناء، من شأنه أن يقوض هذا الهدف، ويرسل إشارة إلى أعدائها، بأن حتى المسئولين عن مقتل المواطنين الأبرياء، قد يتم إطلاق سراحهم فى نهاية المطاف.. ومن ثم، فإن هذا من شأنه أن يضعف من إحساس إسرائيل بالمسئولية.
إن إطلاق سراح الإرهابيين يشجع جماعات مثل حماس والجهاد الإسلامى فى فلسطين، على ارتكاب الهجمات الإرهابية، معتقدة أن ثمن أفعالها قد لا يكون السجن الدائم.. وعندما يتم إطلاق سراح السجناء الملطخة أيديهم بالدماء، تحتفل المنظمات الإرهابية بذلك باعتباره انتصارًا.. وتصور هذه المنظمات مثل هذه الإفراجات باعتبارها دليلًا على قوتها وقدرتها على الضغط على إسرائيل.. والاحتفالات العامة والمسيرات وتمجيد السجناء المفرج عنهم، لا تعمل فقط على تعزيز الروح المعنوية لهذه المنظمات، بل وتعزز أيضًا مكانتها بين المؤيدين.. وهذا من شأنه أن يؤدى إلى زيادة التجنيد وجمع الأموال والنشاط العملياتى، وبالتالى تصعيد التهديدات للأمن الإسرائيلى.
إن إطلاق سراح السجناء، وخصوصًا أولئك المُدانين بالقتل، من شأنه أن يؤدى إلى تآكل ثقة الجمهور فى الحكومة والنظام القضائى، حيث يُنظَر إلى ذلك باعتباره تقويضًا لسيادة القانون.. ويشعر العديد من الإسرائيليين بأن مثل هذه القرارات تخون ذكرى الضحايا ومبادئ العدالة.. وكثيرًا ما تحمل الضحايا وأسر الضحايا ندوبًا تدوم مدى الحياة، سواء كانت جسدية أو عاطفية.. والغضب والألم ملموسان.. ونحن نشعر بأن معاناتهم ومعاناة أحبائهم قد تم تجاهلها من أجل تحقيق مصلحة سياسية.. ولعل العواقب الأكثر خطورة، المترتبة على إطلاق سراح السجناء الملطخة أيديهم بالدماء، تتمثل فى إمكانية تحفيز عمليات الاختطاف واحتجاز الرهائن.. فقد استخدمت المنظمات الإرهابية تاريخيًا الأسرى الإسرائيليين كوسيلة ضغط للتفاوض على إطلاق سراح السجناء.. على سبيل المثال، شكل تبادل أكثر من ألف سجين عام 2011، بما فى ذلك العديد من السجناء الملطخة أيديهم بالدماء، مقابل شاليط، سابقة مفادها أن مثل هذه التكتيكات قد تسفر عن نتائج مهمة.. على سبيل المثال: كان يحيى السنوار، مُدبر هجمات السابع من أكتوبر وما تلاها، يقضى عدة أحكام بالسجن المؤبد بتهمة تدبير عمليات قتل الإسرائيليين والفلسطينيين المتهمين بالتعاون مع إسرائيل.. وبعد إطلاق سراحه فى صفقة تبادل الأسرى شاليط، صعد إلى منصب قيادى داخل حماس، وأصبح زعيمها الفعلى فى غزة، حتى قتلته القوات الإسرائيلية العام الماضى.
●●●
إن الفرحة العارمة التى استقبل بها أهالى قطاع غزة نبأ الاتفاق على وقف إطلاق النار، رغم تصعيد الاحتلال الإسرائيلى هجماته قبل أربع وعشرين ساعة من دخوله حيز التنفيذ، وانتشار شرطة حماس فى القطاع ومعاودة نشاطهم، وعرض مقاتليها فى الشوارع، خلق غصة فى حلوق الإسرائيليين، الذين رأوا فى الاتفاق نصرًا لحماس، بينما لم تحصل إسرائيل على شىء لم تكن تمتلكه فى السادس من أكتوبر 2023، كما قالت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» التى رأت أن اتفاق السلام الذى أبرمته مؤخرًا مع حماس، كان فوزًا واضحًا لحماس وخسارة لإسرائيل.. ولا عجب إذن أن يهلل الناس فى غزة لهذا الاتفاق.. وتقول، إن ما انتصرت به حماس فى هذه الحرب هو، أنها قلبت الرأى العام العالمى ضد إسرائيل.. أنها تفاوضت على إطلاق سراح مئات السجناء الفلسطينيين، الذين حُكِم على العديد منهم بالسجن المؤبد.. وفى حين قُتل بعض قادتها، فسوف يتم استبدالهم بقادتها الجدد.. وفى حين قُتل العديد من مقاتليها، فقد أعادت حماس، وفقًا لتقارير صحفية، بناء جناحها القتالى، الذى يضم الآن اثنى عشر ألف جندى فى غزة.. لقد أثبتت حماس أن إسرائيل مستعدة للتخلى عن أشياء ضخمة للحصول على شىء صغير فى المقابل.. وتستطيع حماس أن تزعم بفخر أن هجوم السابع من أكتوبر 2023، جلب نتائج مذهلة.. والواقع أن إسرائيل أصبحت أضعف الآن مما كانت عليه فى السادس من أكتوبر.. إن الإفراج عن الرهائن أمر مربح حقًا.. وفى حين دُمر جزء كبير من غزة، فإن العالم على وشك توفير مبالغ ضخمة من أجل إعادة بنائه.. ومن المتوقع أن ينتهى المطاف بكمية كبيرة من هذه المبالغ بشكل غير مباشر فى خزائن حماس.. ستظل حماس تسيطر على غزة.. وستظل أونروا كما كانت.. خلقت الحرب صدعًا خطيرًا بين إسرائيل والولايات المتحدة.
وتستمر الصحيفة العبرية فى تعداد مكاسب حماس من وراء الاتفاق.. تؤكد، أنه فى البداية، لن تضطر حماس إلى إطلاق سراح سوى ثلاث رهائن.. وسيتعين عليها إطلاق سراح أربع رهائن آخرين بعد ذلك بفترة وجيزة.. خلال المرحلة الأولى من الصفقة، لن يتم إطلاق سراح سوى ثلاث وثلاثين رهينة.. قد تتاجر إسرائيل بمزيد من السجناء الفلسطينيين الذين تحتجزهم حماس مقابل المزيد من الرهائن بعد ذلك.. وبالتالى، فى نهاية المرحلة الأولى من الصفقة، ستتمكن حماس من الاستمرار فى احتجاز حوالى ثلاثين رهينة، وقد يكون بعضهم قد مات بالفعل.. فشلت إسرائيل فى تحقيق أهدافها كما ذكرت فى بداية الحرب، والتى تضمنت القضاء التام على حماس فى غزة.. من المفيد ارتكاب جرائم حرب، بما فى ذلك ليس فقط جرائم الحرب التى ارتكبتها حماس خلال السابع من أكتوبر، ولكن أيضًا بإطلاق آلاف الصواريخ على إسرائيل، وكلها جرائم حرب.. كانت التكلفة التى تكبدتها إسرائيل من هذه الحرب هائلة.. ولم تتمكن حماس من قتل أكثر من أربعمائة جندى إسرائيلى فى غزة منذ مذبحة السابع من أكتوبر فحسب وهذا رقم كاذب بل زاد الدين القومى الإسرائيلى بشكل كبير، وتضرر اقتصادها أيضًا.. وقد قُدِّر أن النشاط الاقتصادى الإسرائيلى انخفض بأكثر من 20٪ بسبب الحرب.. وفى حين ستحصل إسرائيل على بعض الراحة من قوات حماس فى غزة، إلا أنها لا تزال لديها الأجزاء المتبقية من محور المقاومة الإيرانى، بما فى ذلك الحوثيون وحماس فى الضفة الغربية، وإيران، للتعامل معها.. وستبدأ إسرائيل فى سحب قواتها من غزة، وفى الوقت الحالى، سيتوقف القتل.
إن الاتفاق يتألف من ثلاث مراحل.. ويبدو أن شروط المرحلة الأولى قد تم الاتفاق عليها.. أما المرحلتان الثانية والثالثة، فتتطلبان مفاوضات إضافية.. وقد ترفض حماس التفاوض على شروط معقولة خلال هذه المراحل، مع ضمان عدم منح إسرائيل أى شىء آخر.. ولن يتم إطلاق سراح جميع الرهائن.. وسوف تظل حماس قادرة على إعادة بناء نظام الأنفاق الذى لا يزال حوالى 40% منه قائمًا.. وهذه ليست المرة الأولى التى تخوض فيها حماس وإسرائيل حروبًا ويتم التوصل إلى اتفاق.. فى كل مرة تنتهك حماس كلمتها وتبدأ حربًا أخرى.. حدث هذا مؤخرًا عام 2021.. ومنذ ذلك الحين سمحت إسرائيل لقطر بجلب ملايين الدولارات كمساعدات لحماس مقابل السلام.. وخلال العامين التاليين، بنت حماس نظامها المعقد من الأنفاق وآلاف الصواريخ، أثناء الاستعداد للسابع من أكتوبر.. لا يوجد سبب للاعتقاد بأن حماس لن تنتهك كلمتها وتهاجم إسرائيل من غزة مرة أخرى.
هناك مفارقة فى كل هذا.. فقد باع نتنياهو روحه للأحزاب السياسية العنصرية المتطرفة دينيًا، واليمينية المتطرفة بقيادة سموتريتش وبن جفير، من أجل تشكيل ائتلاف يسمح له مرة أخرى بتولى منصب رئيس وزراء إسرائيل.. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، أعطى سموتريتش وبن جفير وزارات مهمة وسيطرة كبيرة على الضفة الغربية، مع الاحتفاظ بوزارة الخارجية ووزارة الدفاع لحزب الليكود.. وقد فعل ذلك معتقدًا أنه من الأهمية بمكان أن يكون رئيسًا للوزراء فى أى حرب قادمة، والتى كان من المتوقع أن تأتى خلال فترة ولايته الحالية.. ومن المؤسف، أنه بدلًا من أن يكون إرثه الرجل القادر على الدفاع عن إسرائيل، سيُسجل باعتباره أول رئيس وزراء إسرائيلى يخسر حربًا على الإطلاق.
●●●
لكل ما سبق، ونتيجة للضغوط التى يواجهها نتنياهو جراء هذا الاتفاق، نزولًا على رغبة الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، فإن مستقبل القطاع يظل مجهولًا فى ظل حجم المأساة التى تسببت فيها الحرب على مدار أكثر من خمسة عشر شهرًا، منذ نشوب القتال فى القطاع.
إذ يقول الكاتب باتريك وينتور، فى مقاله بصحيفة «الجارديان» البريطانية، أنه على الرغم من أن منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره، كانوا فى انتظار ذلك الاتفاق حتى يضع نهاية للكارثة الإنسانية التى مر بها سكان القطاع منذ اندلاع الحرب، فإن ذلك الصراع خلف آثارًا سلبية على الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى، لا يمكن تجاوزها بسهولة.. وأضاف أن الاتفاق لن يمحو من ذاكرة الفلسطينيين لسنين طويلة، المعاناة التى مروا بها خلال فترة الحرب، إلى جانب أنه لن يمحو كذلك الصورة السيئة التى تولدت لدى المجتمع الدولى عن إسرائيل لعقود طويلة، بسبب ممارستها أثناء الحرب.. ومن الجائز أن تكون عودة الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، للبيت الأبيض مرة أخرى، قد شكلت بعض الضغوط على الجانب الإسرائيلى، لقبول اتفاق وقف إطلاق النار، ولكنها لم تضمن على الإطلاق تحقيق السلام فى المنطقة.
ولفت إلى أنه ليس من المحتمل أن يتبنى الرئيس الأمريكى الجديد، مقترح وزير الخارجية فى الإدارة الأمريكية السابقة، أنتونى بلينكن، بأن تتولى السلطة الفلسطينية السلطة فى كل من الضفة الغربية وقطاع غزة تحت إشراف الأمم المتحدة، مشيرًا إلى أن الجانب الإسرائيلى يغامر كذلك بخلق فراغ داخل القطاع، بعد رفضه التعاون مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا».
وليس من الواضح بعد، ما إذا كانت القيادة الفلسطينية الحالية، لديها القدرة على تولى السلطة فى كل الضفة الغربية وقطاع غزة أم لا؟، فى ظل تقدم السن برئيس السلطة الحالية، محمود عباس، لافتًا فى نفس الوقت، أن السلطة الفلسطينية لم تتمكن من تجاوز خلافاتها مع حركة حماس، خلال المحادثات التى عقدت فى وقت سابق فى موسكو وبكين والقاهرة.. لكن بعيدًا عن كل هؤلاء، هل هناك قوى تريد إفساد الصفقة بين حماس وإسرائيل؟.. سنجيب غدًا، إن شاء الله.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.