نساء الجبرتى «٢»
لم تكن زينب البكرى وحدها هى التى تبرجت، وربما نلتمس لها العذر، فهى كانت وقتها فتاة صغيرة لم تتعدَ الستة عشرة عامًا، كانت هناك امرأة أخرى اسمها هَوَى كانت متزوجة من المملوك إسماعيل الكاشف المعروف بالشامى، فلما جاء الفرنسيون تبرجت مع المتبرجات، تعرفت على فرنسى اسمه نقولا وأقامت معه، وتخلت عن زوجها المملوك، وعندما بدأت بوادر هزيمة المصريين أمام الأتراك، وعرفت هَوَى أنه من الممكن أن ينتقم العثمانيون منها، تركت خليلها الفرنسى، نزلت من القلعة ممتطية حمارًا ومتاعها على حمار آخر، فنزلت عند العطف، واختفت بمصر، روى لنا الجبرتى قصة هروبها والبحث عنها، ويقول إن الفرنسيين أحضروا حكام الشرطة وطالبوهم بالبحث عنها، وألزموهم بإحضارها لخليلها نقولا، والذى يبدو أنه كان ذا حيثية فى الجيش الفرنسى. وقبض الفرنسيون على المكارية، فقالوا: لا نعلم غير المكان الذى أنزلناها فيه، وقبضوا على أهالى حارة العطف وحبسوهم، وأحضروا مشايخ الحارات وشددوا عليهم وعلى سكان الدور، وأعلموهم إن وجدت المرأة فى حارة من الحارات ولم يخبروا عنها نهبوا جميع دور الحارة وعاقبوا سكانها، وحصل للناس غاية الضجر والقلق بسبب اختفائها، وكان أحد أصحاب الشرطة، واسمه عبدالعال، أكثرهم حماسًا، فكان يلبس ملابس النساء ويدخل البيوت بغرض التفتيش عليها، فيزعج أرباب البيوت والنساء ويأخذ منهن مصالح ومصاغًا، ويفعل ما لا خير فيه ولا يخشى خالقًا ولا مخلوقًا. وفشلت الشرطة الفرنسية فى العثور عليها. ولما جاء العثمانيون بعد أسابيع كان معهم إسماعيل الكاشف زوج هَوَى، وتمكن من الاهتداء إلى مكانها، وهدأ من روعها وطمأنها، واستدرجها بالحيلة إلى منزله وأقامت معه أيامًا، واستأذن بعد الوزير العثمانى فى قتلها، وخنقها فى نفس اليوم الذى قتلت فيه زينب البكرية، وخنق معها جاريته البيضاء التى كان قد أنجب منها.
أما الجنرال مينو ثالث قواد الحملة الفرنسية، فقد أحب بنت صاحب حمام فى مدينة رشيد، واسمه على الرشيدين. وأعلن مينو إسلامه وسمى نفسه عبدالله مينو، وخلع البرنيطة وارتدى العمامة التى يلبسها شيوخ المسلمين، وتزوج من زبيدة. وكانت زبيدة شابة مغرية، أيقظت شهوات مينو الذى كان يقترب من الخمسين، وقد كتب لأحد أصدقائه يصفها ويقول: إنها طويلة القامة مبسوطة الجسم حسنة الصورة من جميع الوجه، ولها عينان رائعتان، لون بشرتها هو اللون المصرى المألوف، وشعرها طويل وفاحم، وهى لطيفة الطبع، ووجدتها تتقبل العادات الفرنسية بنفور أقل بكثير من المتوقع، وأنا لم ألح عليها فى الخروج سافرة على الرجال، فهذا يتأتى شيئًا فشيئًا، كما أننى لن أنتفع بما أباحه النبى «صلى ألله عليه وسلم» من الزواج بأربع نساء خلاف السرارى، فإن فى النساء المسلمات شهوة حارة عنيفة، وفى زوجة واحدة أكثر من الكفاية لى».
قامت النساء بمظاهرة فى مدينة رشيد طالبن فيها حاكم رشيد الجنرال عبدالله مينو أن يضغط على الرجال حتى يسمحوا لهم بالتردد على الحمامات العامة فى المدينة، وأن تخصص بعض تلك الحمامات للنساء. وقد أصبح على الرشيدى وزيرًا عندما تولى عبدالله مينو قيادة الحملة الفرنسية بعد مصرع الجنرال كليبر. ولا شك أن ثورة النساء فى رشيد ربما كان أحد دوافعها رغبة على الرشيدى ترويج بضاعته من الحمامات للحصول على الكسب.
وقد أورد كلوت بك فى كتابه لمحة عامة عن مصر، حكاية أوردها نابليون بونابرت فى مذكراته عن مؤامرة دبرت فى أحد الحمامات العامة بمدينة رشيد. فقد ذكر نابليون فى مذكراته التى نشرها المركز القومى للترجمة. أن الجنرال مينو تزوج بامرأة من رشيد وعاملها معاملة السيدات الفرنسيات، إذا كان يمد لها يده كلما همّ بالدخول معها إلى غرفة الطعام، ويتحرى لها أوفق المجالس، ويقدم إليها خير الأطعمة وأشهاها، وكان إذا سقط منديل الطعام على فخذيها بادر وتناوله وإعادته إلى مكانه، فلما حكت زبيدة تلك الأمور على صاحباتها فى الحمام، لاحت لهاته النسوة بارقة أمل فى تغيير أحوالهن وعاداتهن وحررن عرضًا قدمنه إلى السلطان الكبير بونابرت ليحمل أزواجهن على معاملتهن بمثل ما يعامل به الجنرال مينو زوجته. وعندما غادرت الحملة الفرنسة القاهرة أخذها مينو إلى باريس.
خلال إقامة الشيخ رفاعة الطهطاوى فى باريس عام 1826شاهد عدد كبير من نصارى مصر والشام الذين خرجوا مع الفرنسيين حين خروجهم من مصر، وهم جميعًا يلبسون لبس الفرنسيين، وندر وجود أحد من المسلمين الذين خرجوا مع الفرنسيس، فإن منهم من مات ومنهم من تنصر، خصوصًا المماليك الجورجية والشركسية والنساء اللواتى أخذهن الفرنسيون صغار السن، وقد شاهد الطهطاوى امرأة عجوزًا باقية على دينها، وقد سمع الطهطاوى هناك فى مرسيليا أن مينو رجع عن إسلامه إلى النصرانية، وأبدل العمامة بالبرنيطة، ومكث مع زوجته وهى على دينها عدة أيام، فلما وضعت ابنها أراد مينو أن يعمده على طريقة النصارى، ولكن زبيدة المسلمة رفضت، وقال لها الزوج: إن كل الأديان حق وأن مآلها واحد، ولكن الزوجة رفضت، ولم ترض بذلك، فقال لها مينو: القرآن ناطق بذلك وأنت مسلمة وعليك أن تصدقى بكتاب نبيك. ولكنها رفضت الفكرة كلها. فما كان من مينو إلا أن أحضر واحد من علماء «الإفرنجية» باللغة العربية هو البارون سلوستير دو ساسى الذى شاع فضله فى اللغة العربية، التى تعلمها بدون معلم، وهو من كبار العلماء المستشرقين، وطلب من زوجته أن تسأله، وأجابها دو ساسى بأنه يوجد فى القرآن قوله تعالى فى الآية «62» من سورة البقرة «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل عملًا صالحًا فلهم أجرهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، وعندها صدقت زبيدة، وأذنت لعبدالله مينو أن يعمد ولده، ويقول الطهطاوى: وبعد ذلك انتهى الأمر على ما قيل إنها تنصرت وماتت على دين المسيحية.