رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نقر العصافير

كانت العصافير تحوم كل صباح مجتمعة فى غيمة ترفرف أطرافها بعشرات الأجنحة الصغيرة تصطفق فى الهواء. لم أكن أسمع صوت الرفيف وأنا داخل الزنزانة، لكنى كنت أتخيل ذلك الصوت الدقيق العذب، وأكاد أسمعه فى داخلى، وما تلبث الغيمة أن تهبط إلى قضبان الكوة العالية بجدار الزنزانة، وتبدأ بنقر القضبان نقرات متتالية وهى تعلو وتهبط، وأنا واقف داخل الزنزانة المحكمة البناء، لا أسمع الزقزقة ولا النقرات الخفيفة، لكن أصواتها تنبعث من داخلى وأنا أتطلع إلى الكوة العالية. 

وفى تلك اللحظات أشعر بغرابة أن يكون الإنسان مسجونًا، ينصت من داخله إلى نقر غيمة العصافير التى ما تلبث أن تحلّق عالية وتختفى، فلا يبقى طوال النهار سوى الصمت، صمت ممتد غريب وثقيل، يخيم على الرمال الصفراء التى تطوق الزنازين، صمت أقرب ما يكون إلى كائن ضخم من غبار وأتربة يدب ببطء ويصلنى وقع خطواته وهو يجرجر قدميه الثقيلتين، وهو يغمغم بشىء مبهم، مرعب، يتمطى بلا نهاية. 

ما بين غيمة العصافير فى الصباح وحتى الليل لا يبقى فى الصمت سوى أن أقطع أرض الزنزانة ثلاث خطوات حتى بابها وثلاث خطوات رجوعًا وأنا أكلم نفسى بلا هدف، وأدوس بقدمى على عمرى ذهابًا وإيابًا قاتلًا وقتيلًا. 

فى أيام الحبس الأولى شغلتنى مراقبة العصافير باهتمام وأمل، وفى صميم روحى وبدنى ظن أن غيمة الطير ستنقل إلىّ رسالة من العالم الواقع خلف الأسوار، وأنها ستحمل فى منقارها كلمة موجهة إلىّ، أو شعورًا، أو لهفة إنسان من الحياة التى لا أراها، لكن العصافير كانت تهبط كل صباح غيمة مرفرفة، تحط أولًا على الرمال وتنقر الأرض بحثًا عن قوت، ثم تحلّق مرتفعة وتقترب من كوة الزنزانة، وتبدأ فى نقر القضبان، وما تلبث أن تعلو وتختفى، فيشرع الصمت فى مشيته البطيئة مثل حيوان أسطورى وهو يخور بحنك مفتوح ليلتهم كل شىء. 

وطوت السنون عامًا بعد عام كل ذلك: الأبواب الحديدية المغلقة، خطوات الحرس، الصحف الممنوعة، الزيارات، شوق الأحبة الأهل، الأرق الليلى، الانتفاضة مع صوت اصطفاق الأبواب المفاجئ، الرسائل التى كتبها الخيال ولم يرها الورق، طوت السنوات كل شىء، وغمرته بأيامها ما عدا دبيب الصمت فى الرمال، وغيمة العصافير التى صارت الآن تهبط من وقت لآخر على شباكى فى بيتى، ترفرف بعشرات الأجنحة الصغيرة، تذكرنى بشىء لا أذكره، تسألنى عن شىء لم أعرفه، وتختفى عدة أيام ثم تعاود الظهور، تنقر شباكى وتحدق بى لعلنى أتذكر ما لا أتذكره، وأدرك ما لم أدركه عندما كانت العصافير تنقر القضبان.