رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد عدوية والمثقفون

ذهب المغنى الكبير أحمد عدوية إلى ربه قبيل أن ينصرم عام 2024 بأيام قليلات «26 يونيو 1945 المنيا/ 29 ديسمبر 2024 القاهرة»، سبقته رفيقة عمره بشهور، وقد قيل إنه لم يعلم بوفاتها حتى لحق بها... عدوية هو أسطورة الأغنية الشعبية فى مصر، كل المغنين الشعبيين من جيله تعلموا من عبدالمطلب وأخذوا ما أخذوه من رشدى والعزبى والآخرين الذين تقدموهم فى ذلك المجال، ولكن عدوية بالذات تفوق على الجميع، ربما للظروف التى أحاطت بظهوره، وما أشد تعقيداتها فى الحقيقة، وربما لبحة فريدة حميمة كانت فى صوته، كانت هكذا «خلقة»، ولم تكن من داء ولا كثرة صياح ولا تصنع غناء.
اسمه الحقيقى أحمد محمد مرسى العدوى، كان قد صرّح بأن خطأ مطبعيًا تسبب فى تحوير الاسم من العدوى إلى عدوية، وهو الاسم الذى اشتهر به شهرة عريضة، جاوزت مصر الرائدة فى الفن إلى البلدان العربية الشقيقة برمتها، وفى السبعينيات، تحديدًا، كان عدوية سيد ساحة الغناء بلا منازع تقريبًا، الغناء على وجه العموم وليس الشعبى وحده، حتى إن مبيعات ألبوماته تخطت مبيعات ألبومات عبدالحليم حافظ نفسه فى 1976! 
استثمرت السينما نجاحه كالعادة، وشارك فى أفلام عديدة، استطاع من خلالها أن يوسع قاعدته تمامًا، وأن يرسخ أغانيه الخاصة فى ذاكرة الجماهير، وأن يضيف إلى حصائله الشعبية الوافرة حصائل جديدة مختلفة من خزائن السينما. 
الحادث الشهير الذى اعترض طريق عدوية، فى نهاية الثمانينيات، وعطّل مسيرته لحوالى عشر سنوات كاملة، ظل ملتبس التفاصيل حتى الساعة «هل كان اعتداء جنسيًا؟ هل كان محاولة قتل؟)، الله أعلم، ولا يعلم حقيقة ما جرى وقتئذٍ إلا قليلون يقينًا، وأظن الحادث سوف يظل ملتبسًا إلى الأبد، كالتباس علاقاته المتشعبة، كنجم فارق، بالآخرين عمومًا، وإنما أهمية تذكره تأتى من فرط تأثيره على تاريخ الرجل، أعنى هنا حجم نشاطه الفنى وانتشاره الإعلامى فى فترة من الفترات.
ظلت علاقة عدوية بالمثقفين، وهو ما أركز عليه هنا، مضطربة على الدوام؛ فقد كان لديهم، فى فترة طويلة من فترات حياته، لا سيما فى مراحله الأولى والمتوسطة، عنوانًا للتفاهة والهبوط، ومن يستمعون إليه من المثقفين كانوا يفعلون الأمر سرًا؛ فعلانية الاستماع إليه لم تكن تعنى وقتئذٍ سوى العزل من الدائرة الثقافية، بمنتهى الصرامة، حتى لو كان السماع تسلية عابرة!
لم يتغير عدوية، بأمداء مشاويره، بل ظلت كلماته هى كلماته وألحانه هى ألحانه، عامل شعراء كبارًا كمأمون الشناوى وآخرين ذاعوا بذيوعه كحسن أبوعتمان والريس بيرة، وعامل أساطين الموسيقى كسيد مكاوى وكمال الطويل وبليغ حمدى وهانى شنودة وحسن أبوالسعود، لكنه أذاب الجميع فيه وفرض عليهم أسلوبه ولم يذب فيهم ولم يخضع لأساليبهم، ولا أظن أحدًا ينسى له: السح الدح امبو، زحمة يا دنيا زحمة، سلامتها أم حسن، راحوا الحبايب، سيب وانا أسيب، يا ليل يا باشا يا ليل، يا بنت السلطان، كله على كله، عيلة تايهة، حبة فوق، كركشنجى دبح كبشه، ما بلاش اللون ده معانا، الناس الرايقة، وغيرها من الأغانى التى يحفظها الكبار والصغار، وذوو الذائقة الشعبية ونقائضهم فى الذائقة، ولقد غنى عدوية لطبقة معدمة لم يغنِ لها أحد فى تاريخ الغناء، مهما يكن، كالشحاتين مثالًا! 
لم يتغير هو، كما أسلفت، وإنما تغير المثقفون أنفسهم مع الوقت؛ صاروا مرنين ومتقبلين، وباحثين عن جماليات مختلفة فى الغناء بذاته وفى المغنى الذى شعروا بأنهم ظلموه ظلمًا فادحًا، وسرعان ما وجدوا فى الغناء خفة راجحة تغنى عن كل ثقل، ووجدوا فى عدوية صوتًا لا مثيل له فى جمع الناس من حوله والتغنى لهم بكلام بسيط يفهمونه، كأنهم منه وهو منهم، والأهم أنهم، أى المثقفين، وجدوا أن وقوفهم فى خانة العداء له كالوقوف فى خانة العداء لقطاعات شعبية عريضة، وذلك غباء جسيم، كما وافق إيمانهم المتأخر به إيمانهم بالرحابة والتنوع أكثر من ذى قبل؛ فالعالم صار رحبًا ومتنوعًا إلى درجة قصوى، ولعلهم، فى النهاية، نجحوا فى التفريق بين ما هو ركيك، وذلك كان اعتقادهم الأول المتشدد فى عدوية، وبين ما هو لطيف وظريف، بل يحتمل تأويلات فخمة أيضًا، وهذاك اعتقادهم الأخير اللين فيه «يرحمه الله»!