سوريا.. تحديات دولة ما بعد السقوط

سقط بشار الأسد، الرئيس الذى حكم سوريا لأربعة وعشرين عامًا، حكمًا قمعيًا.. وشاهد العالم، كيف أسقطته قوات المتمردين، بسرعة ملحوظة.. وفى الشوارع، احتفل الشعب السورى، الذى صمد خلال حرب أهلية، استمرت لأكثر من عقد من الزمان، فيما اعتبره البعض، أنه تطور إيجابى للشعب الذى يناضل من أجل حكومة أكثر ديمقراطية منذ عقود، بعد أن أدار بشار الأسد نظامًا قمعيًا، قام باعتقال شعبه وتعذيبه وقتلهم بشكل تعسفى.. وقد ظهرت وحشيته بالكامل خلال العقد الماضى، من خلال الأساليب التى استخدمها لسحق قوى المعارضة عسكريًا.. وهنا، فلن يفتقد أحد بشار الأسد، كما أن رؤية السوريين وهم يحتفلون بسقوطه، تبدو وكأنها طال انتظارها.. ومع ذلك، من المهم أن نخفف من توقعاتنا، مع حقيقة، أن دول ما بعد الصراع، تواجه تحديات ومخاطر جسيمة، وأن سقوط الأسد يترك فراغًا، من المرجح أن تقابله مصالح مُتضاربة، تهدد آفاق إقامة نظام مستقر وديمقراطى فى سوريا أحمد الشرع وهيئة تحرير الشام.
اندلعت الحرب الأهلية فى سوريا عام 2011، خلال ما أسمته الولايات المتحدة والغرب، وبعض المنتفعين بما يُسمى «الربيع العربى»، وهى لحظة فى التاريخ سادتها سلسلة من المظاهرات الشعبية فى معظم أنحاء الشرق الأوسط.. شهدت عدة دول، مثل تونس ومصر واليمن وليبيا، احتجاجات قوية مناهضة للحكومة، أدت فى كثير من الأحيان إلى صراعات أو سقوط الحكومات.. وخلافًا للحكومات الأخرى التى رضخت تحت ضغط الاحتجاجات، ظل نظام الأسد متمسكًا بالسلطة.. تدخلت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى لدعم الجماعات المتمردة، مثل الجيش السورى الحر لتغيير ميزان القوى.. ومع ذلك، حافظ الأسد على قبضته على السلطة، من خلال تحالفه مع روسيا وإيران.. بالإضافة إلى ذلك، بدأ الدعم الغربى للمتمردين يتلاشى مع ظهور تنظيم داعش، الذى حوَّل تركيز أمريكا أكثر نحو منع تهديد الإرهاب فى المنطقة، وضرورة حفاظها على ما تحت يديها من النفط السورى فى الشمال الشرقى من البلاد.. ومع تشبث الأسد بالسلطة طوال الحرب، بدا أن الأسد هو الذى انتصر.. كما يرى بن لونجو فى IEMed.
لكن سُرعان ما تغير ميزان القوى، حيث وجد حلفاء سوريا أنفسهم متورطين فى صراعات أخرى.. بدأت الموارد والدعم من روسيا تجف، مع انشغالها بتوغلها فى أوكرانيا.. وإدراكًا لمدى اعتماد الأسد على روسيا، طلب الروس من الأسد مغادرة البلاد، وعرضوا عليه اللجوء. فى الوقت نفسه.. وبدأ اعتماد الأسد على مقاتلى إيران وحزب الله فى لبنان يتضاءل، مع تكثيف إسرائيل حملتها العسكرية بعد السابع من أكتوبر 2023، فى قطاع غزة وجنوب لبنان، بعد أن كانت إيران وإسرائيل تخوضان حرب ظل لأكثر من عقد من الزمن، إلا أن سياسة الاغتيالات الإسرائيلية الأخيرة لقيادات حزب الله وحماس، أضعفت الجنرالات الإيرانيين، ودخلت الجهتان فى حرب مباشرة.. وما زاد الوضع تعقيدًا، انخفاض معنويات الجيش السورى، بسبب التدهور الاقتصادى وانعدام الثقة فى المؤسسات.. فبدأت قطاعات كبيرة من الجيش فى الانشقاق إلى العراق، عندما بدأ القتال مرة أخرى فى الداخل السورى.. هذه الظروف، غيرت ميزان القوى، وهيأت الظروف لجماعات المتمردين، لطرد الأسد من منصبه، فى الثامن من ديسمبر الفائت.. ليبقى السؤال حول ما سيحدث فى سوريا ما بعد الأسد، دون إجابات واضحة.
ومع ذلك، من المهم التعامل مع مثل هذه الأسئلة، مع إدراك أن سقوط زعيم قوى فى المنطقة، نادرًا ما يؤدى إلى الاستقرار الديمقراطى.. ولا يملك المرء إلا أن يتذكر كيف فشل «الربيع العربى»، المدفوع بالتطلعات الديمقراطية عمومًا، فى إنتاج ديمقراطيات مستقرة جديدة، حتى الطبيعة الديمقراطية لتونس تثير التساؤلات.. على سبيل المثال، لنتأمل الفوضى المصرية ضد الرئيس الراحل حسنى مبارك، التى بدأت فى يناير 2011.. فقد اتسم حكم مبارك لمصر، الذى دام ثلاثين عامًا، بالعديد من مظاهر الفساد والدولة البوليسية.. وتمكنت الاحتجاجات الحاشدة، من الإطاحة بمبارك فى فبراير من العام نفسه.. ومع ذلك، وقعت البلاد فى المحظور، واختطفتها جماعة الإخوان لمدة عام، قبل أن ينتفض الشعب المصرى ضدها، وتعود سيرتها الأولى.. وتلك واحدة من نوادر التاريخ، أن تنجو دولة من سقطة، كتلك التى حدثت بعد أحداث يناير 2011 فى مصر.
وتعتبر الاحتجاجات اليمنية المؤيدة للديمقراطية عام 2011 مثالًا آخر.. تلقى المتظاهرون دعمًا من الجيش، بعد وقت قصير من بدايتهم.. واندلعت أعمال العنف خلال الصراع، وأصابت الرئيس على عبدالله صالح، حتى غادر البلاد.. لكنه عاد بعد أربعة أشهر فقط.. ولدى عودته، وقَّع اتفاقًا لنقل السلطة إلى نائب الرئيس، عبدربه منصور هادى.. وباعتباره المرشح الوحيد خلال الانتخابات الرئاسية عام 2012، لم يتمكن هادى من اكتساب الشعبية اللازمة للحكم، وواجه حربًا أهلية عام 2014.. ومنذ ذلك الحين، انخرطت البلاد فى واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية فى العالم.
●●●
قد يرى البعض، أن الدعم الأمريكى يوفر المساعدة اللازمة لضمان الاستقرار.. ومع ذلك، تميل التدخلات الغربية إلى مفاقمة المشكلة التى تهدف إلى معالجتها.. ولنتأمل هنا الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية، التى اندلعت فى ليبيا ضد معمر القذافى عام 2011.. فمثلها كمثل بلدان أخرى خلال «الربيع العربى»، تصاعدت هذه الاحتجاجات بسرعة إلى صراع مُسلح.. أدى تدخل حلف شمال الأطلسى، بقيادة فرنسا والولايات المتحدة، إلى تحويل ميزان القوى لصالح المتمردين، الذين أسروا القذافى وقتلوه فى نهاية المطاف.. لكن إزاحته من السلطة لم تُنه الصراع.. بل تطورت إلى ساحة معركة خارج الحدود الإقليمية، حيث تتنافس القوى الأجنبية من أجل السيطرة على بلد يسبح فوق بحر من النفط والغاز.. وما زاد الطين بلة، أنه وسط ضجيج القتال، كان هناك انفجار للجماعات الأصولية، التى تسعى كل منها إلى تحقيق أجندتها السياسية الخاصة.
أحد العوامل التى تجعل المسألة السورية معقدة للغاية، هو تنوع سكانها الذى أصبح، بسبب الحرب الأهلية، أكثر انقسامًا على طول خطوط الولاءات المختلفة للجماعات المتنافسة.. وقد تؤدى التغيرات فى ديناميكيات السلطة، إلى تفاقم الأعمال العدائية وتهديد آفاق الاستقرار.. على سبيل المثال، يُشكل العلويون أقلية فى سوريا، لكنهم كانوا يتمتعون بسلطة أكبر فى جيش من الأغلبية السُنية.. وقد تتزايد التوترات تجاههم، مع اكتساب الجماعات العسكرية الإسلاموية المزيد من السيطرة.. وما يجعل الأمور أكثر تعقيدًا، هو كيف استغلت القوى الأجنبية، فى كثير من الأحيان، الانقسامات الطائفية لأغراضها السياسية الخاصة.. وتشمل الجماعات التى تقاتل من أجل السلطة فى سوريا الآن، المسلحين الشيعة الذين كانت تدعمهم إيران، والقوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، والمسلحين السُنة المدربين فى تركيا، والدروز وما إلى ذلك.. وتوفر هذه الانقسامات الطائفية القائمة، نفس الظروف التى تستغلها الجماعات المتطرفة، وقد تفعل ذلك للاستفادة من قاعدة سقوط الأسد. وهذا ما حدث أساسًا عام 2014، عندما سيطر تنظيم داعش على مساحات واسعة من سوريا والعراق، بسبب الاختلافات السياسية والعرقية فى هذين البلدين.
وما يزيد من حالة عدم اليقين فى مستقبل سوريا، النوايا غير المعروفة للجماعات المُتصاعدة.. العديد من الجماعات التى طردت الأسد ليست هى نفس الجماعات التى دعمتها الولايات المتحدة، مثل الجيش السورى الحر.. فى الواقع، لم يكن الجيش السورى الحر مُتحدًا سياسيًا أبدًا كما افترضنا.. الشىء الوحيد الذى كان يوحدهم هو معارضتهم للأسد، لكننا على الأقل عرفنا، أنه ليست لديهم مهمة دينية موحدة.. ومع ذلك، فإن الطبيعة الدائمة لهذا الصراع الذى طال أمده، قد أدت إلى ظهور قوى أكثر تطرفًا، مثل هيئة تحرير الشام، وهى تحالف أكثر من عشرين من الجماعات الإسلاموية المسلحة التى نشأت من جبهة النصرة، وهى فرع من المسلحين المنتسبين لتنظيم القاعدة.. وفى الواقع، أرسل زعيم داعش، أبوبكر البغدادى مقاتلين إلى سوريا عام 2014 ـ بمن فى ذلك أبومحمد الجولانى، الزعيم الحالى لهيئة تحرير الشام، وقائد الإدارة الجديدة فى سوريا ـ فى ذلك الوقت.. قام الجولانى بتشكيل جبهة النصرة، التى كانت تُعرف فى الأصل بأنها جبهة داعش فى سوريا، والتى شكَّل داعش من خلالها الخلافة الممتدة عبر العراق وسوريا.. ومع أن الجولانى، أو أحمد الشرع حاليًا، يتعهد بأن يكون معتدلًا، إلا أن التاريخ يحكى قصة أخرى.
ويزيد الأمور تعقيدًا فى سوريا الآن، حقيقة أن دمشق لعبت دائمًا موقعًا استراتيجيًا فى الشئون الدولية، وسيحاول اللاعبون الأجانب استغلال الوضع فى سوريا لتحقيق مكاسبهم الخاصة، فطالما كانت سوريا ملعبًا وليس لاعبًا.. وأوضح مثال على ذلك، هو إسرائيل التى نفذت بالفعل مئات الضربات فى أراضيها، واستولت على أجزاء كبيرة من مرتفعات الجولان وجبل الشيخ واحتلت محافظة القنيطرة، وتوغلت نحو العاصمة، إلى مسافة خمسة عشر كيلو مترًا بعيدًا عنها فقط.. وعلى جبهة أخرى، من المرجح أن تصبح تركيا أكثر انخراطًا فى سوريا، خصوصًا إذا أصبحت هيئة تحرير الشام أكثر قوة من الناحية السياسية.. فمن المرجح أن يحولوا تركيزهم على المقاتلين الأكراد فى الشمال، والذين من المحتمل أن تستهدفهم هيئة تحرير الشام أيضًا.. وبطبيعة الحال، فإن الصورة الأكبر، تضع تاريخ سوريا فى استراتيجية أكبر لمرحلة ما بعد الحرب الباردة.. فقد لعبت سوريا دورًا حاسمًا فى الأنظمة المدعومة من روسيا فى الشرق الأوسط.. ومن المرجح أن تنخرط الولايات المتحدة بشكل أكبر فى سياسات إعادة بناء سوريا، الأمر الذى من المرجح أن يؤدى إلى تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا.. وقد حولت هذه التوترات سوريا إلى حرب بالوكالة، بين القوتين العالميتين فى الماضى.. ودعونا نأمل ألا يحدث ذلك مرة أخرى.. وتعالوا ننظر إلى الأمام!!.. ماذا نرى؟.
هناك الكثير من الأمور التى قد تسوء، ولكن هذا لا يعنى أن مستقبل سوريا الغامض سوف يؤدى إلى الفشل.. ما نعرفه هو أن قدرة دول ما بعد الصراع على التحول إلى الديمقراطية، تعتمد على اللاعبين المحليين والأجانب.. فمن ناحية، سوف تحتاج سوريا إلى استعادة سلامة أراضيها، وهذا يتطلب من القوى الإقليمية، التضحية بأهدافها القومية والتعاون من أجل تأسيس الحكم الذاتى السورى.. بالإضافة إلى ذلك، ستحتاج الجماعات المتنافسة فى سوريا، إلى وضع أجندتها الخاصة جانبًا والعمل معًا، وإشراك الشعب السورى فى صياغة عقد اجتماعى جديد، يوفر الأمن والديمقراطية والفرص الاقتصادية.
والأهم من ذلك كله، أن نتذكر أن معظم العمل الشاق يجب أن يقوم به السوريون أنفسهم.. وهذه نقطة مهمة بشكل خاص، يجب على القوى الغربية أن تتذكرها.. هناك بالفعل دعوات للولايات المتحدة للعب دور رئيسى فى إعادة بناء سوريا.. بل إن البعض يضع إطارًا لضرورة التدخل الأمريكى، من حيث الكيفية التى سيخدم بها المصالح الأمريكية، وهذه وصفة لكارثة.. ويتعين على الدول الغربية أن تتذكر إخفاقاتها فى بناء الدولة فى العراق وأفغانستان على مدى العقد الماضى.. ونظرًا لشبكة المصالح الدقيقة فى المنطقة، فيتعين على الدول الغربية أن تُقصِر دورها على لعب دور داعم بشكل صارم.. السوريون الشرفاء وحدهم يعرفون سياساتهم جيدًا بما يكفى لإعادة بناء بلدهم.. وستُنبئنا الأيام بما كان خافيًا.. وإن كنا نراه مظلمًا.. ولذلك حديث آخر.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.