رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السودان.. حريق فى حديقتنا الخلفية!

تحت دخان الأحداث المشتعلة فى فلسطين ولبنان ومؤخرًا سوريا، يدير العالم وجهه بعيدًا عن واحدة من أعظم الكوارث الإنسانية فى السودان. أرقام مُفزعة تعصف بالضمير: 150 ألف قتيل، 10 ملايين مشرّد، و16 مليونًا مُهددون بالمجاعة، فى مأساة تبدو بلا أفق لنهاية قريبة.

 

العاصمة الخرطوم، ومعظم مدن السودان التى تجتاحها المعارك، تحولت إلى مناطق أشباح، ركامٌ على ركام، وجثث متحللة تُترك فى العراء، بلا كفن ولا دفن. الأحياء المُدمَرة تعكس واقعًا مريرًا، بينما الملايين من السودانيين يُطاردهم شبح المجاعة.

 

الكارثة لا تقتصر على جرائم العنف بالقتل والتشريد. مقدرات السودان كلها وسيادته الوطنية تنسحق تحت سنابك خيول المتحاربين، النفط والذهب والموانئ وموارد الثروة الأخرى تذهب لقوى الاستعمار الجديد مقابل تمويل القتال. حتى المزارع والحقول التى تنتج غذاء السودانيين، طالتها نيران الحرب العبثية، ما يعنى أن شبح مجاعة بين ستة وعشرة ملايين سودانى يلوح فى الآفاق حسب تقديرات الأمم المتحدة. السودان بات بؤرة للموت والجوع والدمار ونهب الثروات، حيث المهجّرون فى مخيمات بائسة، والمقاتلون المرتزقة بين صفوف ميليشيات الدعم السريع يحوّلون البلاد إلى مسرح لجرائم القتل والنهب والاغتصاب الجماعى.

 

ما يجرى فى السودان يفوق بكثير مآسى سوريا وليبيا. إنها حرب إبادة بطيئة، تتداخل فيها أبعاد إنسانية وسياسية وأمنية. ولا ندرى كيف للعرب تحديدًا أن يغضوا الطرف عن جرح نازف كهذا فى سبيله لأن يتقيّح ويصيب باقى الجسد بالغرغرينة؟

 

السودان اليوم هو مفتاح لصراعات أكبر. البحر الأحمر، شريان الملاحة العالمى، أصبح ملعبًا للتنافس الدولى. روسيا وإيران تتطلعان إلى قواعد عسكرية، بينما مصر تراقب بقلق بالغ ما يحدث فى حديقتها الخلفية وتأثيره على أمنها القومى.

تعثر الملاحة عبر باب المندب، وتأثير ذلك على قناة السويس، موردنا الاقتصادى المهم، لا يقتصر على ما يجرى فى اليمن وحده، بل كل ما يحدث فى منطقة القرن الإفريقى وفى قلبها السودان، إلى جانب التوترات المستجدة بين إثيوبيا والصومال، وهذا حديث آخر.

منذ استقلاله عام 1956، والسودان يعانى من لعنة الانقلابات والصراعات. انفصال الجنوب فى 2011 فتح الباب على مصراعيه أمام نزعات الانفصال الأخرى. دارفور، النيل الأزرق، جنوب كردفان.. كلها مرشحة للانفصال، فالمؤشرات كلها تقول إن السودان يتجه بخطى متسارعة نحو التقسيم. قد تكون الخطوة الأخيرة المتمثلة فى إعلان بعض الحركات المسلحة حكومة فى الأراضى الخاضعة لسيطرة لميليشيات «الدعم السريع» أبرز تلك المؤشرات، لكنها ليست الوحيدة. فالخطر يتجاوز هذا الإعلان إلى سلسلة طويلة من الإشارات والسياسات التى تكرس لواقع التقسيم، بعضها واضح، وبعضها خفي، لكن كله يمضى فى الاتجاه نفسه.

 

ما يجرى على المسرح السودانى اليوم هو تجسيد لسيناريو قديم من تأليف المستشرق اليهودى برنارد لويس لتقسيم العالم العربي. مات لويس، لكن أفكاره تعيش وتتمدد، وتنخر فى جسد الدول العربية الواحدة تلو الأخرى.

 

أول ملامح النزعات الانفصالية كان سيادة الخطاب العنصرى والجهوى فى خطاب طرفى الصراع. أصبح كل طرف يحدد مناطق وقبائل بوصفها الحاضنة الاجتماعية للآخر، ويعتبرها بالتبعية أهدافًا مشروعة للقصف والقتل والتدمير. وسائل التواصل الاجتماعى التابعة لـ«الدعم السريع» تعج برسائل تهدد سكان وسط وشمال السودان باعتبارهم مسئولين عن مظالم تاريخية. فى المقابل، يتكرر تصنيف مناطق وقبائل بعينها باعتبارها الحاضنة الاجتماعية لـ«الدعم السريع» حتى على لسان شخصيات محسوبة على الجيش بغرض استهدافها.

 

هذا التصعيد لم يقتصر على الخطاب، بل تحول إلى سياسات وممارسات على الأرض، مثل تصنيف «الوجوه الغريبة» فى بعض الولايات، الذى أدى إلى ممارسات تمييزية خطيرة. ثم جاءت قرارات مثل تغيير العملة السودانية لتزيد الأمور تعقيدًا. الحكومة التى تتخذ من بورتسودان مقرًا لها فرضت تغيير العملة فى مناطق سيطرتها فقط، ما أدى إلى إخراج مناطق بأكملها، مثل دارفور وأجزاء من كردفان والخرطوم، من النظام الاقتصادى الرسمى.

 

تقسيم التعليم ملمح انفصالى آخر لا يقل فى خطورته عما يحدث بقوة السلاح. امتحانات الشهادة الثانوية تُعقد فقط فى مناطق سيطرة الجيش، بينما مئات الآلاف من الطلاب فى مناطق أخرى يواجهون مصيرًا مجهولًا، إما بسبب منع ميليشيات «الدعم السريع» لهم من الحركة، أو بسبب صعوبات أمنية ومادية تحول دون إجراء الامتحانات لعشرات الآلاف من الطلاب الذى بات مصيرهم مجهولا.

 

من ينظر إلى هذا المشهد من الخارج قد يتصور أن هناك حلًا ممكنًا لجمع الطلاب فى مراكز امتحانات محايدة، أو السماح بعبور العملة الجديدة بين المناطق المختلفة. لكن هذه التصورات المنطقية تصطدم بواقع سودانى معقد لا تحكمه قواعد المنطق.

 

هذه الديناميات تعمق الانقسام بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية، الإثنية والقبلية، وأخيرًا الجهوية والمناطقية، ومع إعلان الميليشيات المسلحة نيتها تشكيل حكومة فى المناطق التى تسيطر عليها، سيصبح السودان عمليًا أمام حكومتين منفصلتين جغرافيًا وعسكريًا وإداريًا، وستحظى كل منهما باعتراف دولى وإقليمى وفقًا لمصالح اللاعبين الخارجيين وممولى الصراع ومحركيه.

 

السودان اليوم ليس فقط على أول طريق التقسيم، بل على مشارف مأساة إنسانية عميقة، قد تكون نتائجها أبعد وأخطر مما يتخيله أى طرف فى هذا الصراع العبثي.

 

هذه حرب بلا سقف أخلاقى أو إنساني. المواطن فيها ليس سوى أداة يستخدمها طرفا الصراع لتسجيل النقاط ضد بعضهما البعض، دون أدنى اعتبار لمعاناته. هى حرب تُعرّى كل القيم، حرب «قذرة» يتسابق فيها المتحاربون لإبراز بشاعة الآخر، دون أن يلتفت أحد لمعاناة الوطن الذى يتهاوى تحت أقدام الغزاة الجدد.

 

إذا كانت المأساة السودانية تبدو بعيدة، فإن آثارها ستطرق أبواب الجميع قريبًا. تقسيم السودان ليس مجرد كارثة محلية، بل عدوى خطيرة قد تمتد إلى العالم العربى بأسره.

 

«سودَنة» العالم العربى ليست مجرّد احتمال، بل خطر داهم يدق ناقوس الخطر قبل تحويل المنطقة العربية إلى مجرد فسيفساء من الدويلات المتناحرة.

 

بتعبير مؤلم فى صراحته، فإن سياسة إطفاء الحرائق لم تعد قادرة على احتواء التهديدات المتنامية فى مجالنا الحيوى ناهيك عن خطوط الدفاع الأولى لأمننا القومى. السلطة فى مصر وهى تدرك أن ما يجرى على حدودنا فى كافة الاتجاهات الاستراتيجية ما هو إلا توطئة للتفرغ لأكبر جيش عربي، لا ينبغى لها أن تلتزم سياسة الصمت الاستراتيجى والنأى بالنفس أكثر من ذلك.