رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإسلام السياسى.. وجهتا نظر إسرائيليتان

تتبنى الدولة العبرية منهجين، تنظر بهما إلى الجماعات الإسلاموية، وكلا المنهجين مُغاير للآخر.. فبينما تدعو إلى معاملة هذه الجماعات فى الدول العربية التى يُقيمون فيها، بالاحتواء والتبنى، سبيلًا لمنع عنفها، من خلال مشاركتها السياسية فى هذه الدول، وهى هنا أى إسرائيل نحتاج إلى الإسلام السياسى، ليس من أجل إشاعة الأمن والاستقرار فى مجتمعاتها، بل لتكون شوكةفى خاصرة الوطن العربى.. وعلى الجانب الآخر، ترى تل أبيب، أنه من الضرورى كسر شوكة مثل هذه الجماعات بالعنف، خصوصًا فى الدول المتاخمة لإسرائيل.. لقد أرجأ الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى أبريل 2017، خلال فترة رئاسته الأولى، تنفيذ أمر من شأنه أن يصنف جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية.. ساعتها، كتب الكاتب الإسرائيلى، شلومو بن عامى، وزير خارجية إسرائيل الأسبق، ونائب رئيس مركز توليدو الدولى للسلام ومؤلف كتاب «أنبياء بلا شرف: قمة كامب ديفيد عام 2000 ونهاية حل الدولتين»، Prophets Without Honor: The 2000 Camp David Summit and the End of the Two-State Solution، أنه ينبغى لترامب أن يترك الأمر على هذا النحو إلى الأبد.. لأنه يرى أن الحكومات الشاملة التى يُنظَر إليها باعتبارها تُمثل المجتمعات الإسلامية المتدينة فى العالم العربى، تشكل ترياقًا حيويًا للجهادية العالمية.. وقال إنه «من المؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين لم تُجسد القيم الديمقراطية بشكل كامل دائمًا.. ففى مصر، على سبيل المثال، تعاملت حكومة الرئيس محمد مرسى مع الديمقراطية، باعتبارها اقتراحًا يقتنص فيه الفائز كل شىء»، قبل أن يطيح بها الشعب، بعد أكثر قليلًا من عام.
ولكن معالجة مثل هذه النواقص، من خلال نبذ الخيارات الدينية السياسية المشروعة، لا تؤدى إلا إلى تعزيز حُجة المجندين الجهاديين، بأن العنف هو السبيل الوحيد لمسيرتهم.. وهذا ما حدث عندما ثار الشعب المصرى على حكم جماعة الإخوان، عام 2013، وقرر أن يعتمد على مبدأ «المحصلة صفر» فى التعامل معها.. لقد أظهرت الأحزاب الإسلامية، حيثما حصلت على مساحة للعمل السياسى، عدم قدرتها على الاستفادة من هذه المساحة، وكثيرًا ما دُعيت إلى المشاركة السياسية باعتبارها بديلًا أفضل من العنف، لكنها فضلت «المُغالبة» بديلًا عن المشاركة.. إن السياسة، على النقيض من الدين، ليست عالمًا من الحقائق الأبدية، بل عالمًا من الحسابات العقلانية.. ولكى يحكم المرء بفعالية، فلا بد أن يبنى تحالفات وائتلافات، بما فى ذلك مع الأحزاب العلمانية والليبرالية.. ونظرًا لهذا، فإن المشاركة السياسية تميل بطبيعة الحال إلى دفع الأحزاب نحو الاعتدال، لكن الإخوان لم يستطيعوا العيش وفق هذا المبدأ.
فى المغرب، عندما دخل حزب العدالة والتنمية إلى الساحة السياسية عام 1997، كان «الأسلمة» فى صميم برنامجه الانتخابى.. وعلى نحو مماثل، تشكَّل حزب النهضة فى تونس، على إرث الثورة الإيرانية وفكر المنتقدين الإسلاميين المتطرفين للقيم الغربية، مثل سيد قطب، أحد أبرز منظرى جماعة الإخوان فى الخمسينيات.. ولكنّ حزبى العدالة والتنمية والنهضة اللذين وصلا إلى السلطة فى بلديهما عام 2011 كانا يتجهان نحو الاعتدال، بل وحتى العلمانية.. وقد قللا من أهمية بعض مبادئهما المتطرفة من أجل استيعاب المبادئ الأساسية للديمقراطية العلمانية، مثل التعددية الثقافية وحرية التعبير.. كانت هذه مجرد مناورات تكتيكية، كان من الممكن أن تؤدى إلى تحولات استراتيجية وحتى أيديولوجية.. إلا أن سرعان «ما عادت ريما لعادتها القديمة».
فى الجزائر، سلك الإسلاميون مسارًا مختلفًا بعض الشىء، فخففوا من حدة سياساتهم بعد هزيمتهم فى الحرب الأهلية المدمرة، التى شهدتها البلاد فى تسعينيات القرن العشرين.. ورغم أن ذكرى تلك الحرب الأهلية بدأت تتلاشى الآن، فإن مثال الصراعات فى سوريا وليبيا إلى جانب المشاركة السياسية للأحزاب الإسلامية، مثل حركة مجتمع السلم كان كافيًا لدفع أغلب الشباب الجزائريين بعيدًا عن الجهادية.. وكما أن المشاركة السياسية «قد» تشجع الاعتدال، إذا توافرت النية لدى الجهاديين لاستغلال هذه المشاركة، فإن الإقصاء السياسى قد يُعزز التطرف، ما لم يكن العنف منهجًا.
كل ما سبق تراه إسرائيل مسلكًا محمودًا، طالما لا يتقاطع مع أمنها ومصالحها.. أما فى حالة حماس، التى ليست حركة جهادية عالمية، بل هى منظمة إسلامية قومية.. ترى إسرائيل، أن البعض «قد يزعم»، أن رفض المجتمع الدولى الاعتراف بانتصار حماس، عندما وصلت إلى السلطة فى انتخابات عام 2006، كان سببًا فى إحباط قدرة الحركة على الاعتدال.. فخلافًا للجماعات الجهادية العالمية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة، كثيرًا ما كانت حماس تُغازل، ولو بشكل غير مباشر، نهجًا أكثر تصالحية تجاه إسرائيل، فى وقت حرَّض فيه نتنياهو على مثل هذا الغزل.. وحتى فى غياب الاعتراف السياسى، فقد قررت حماس، على ما يبدو، إصدار ميثاق جديد يخلو من العنف فى الميثاق الحالى.. وهناك أيضًا ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن حماس سوف تقبل بحل الدولتين، وتُعلن استقلالها عن جماعة الإخوان، من أجل تيسير المصالحة مع القاهرة وغيرها من الدول العربية الرائدة.. وقد غاب عن قادة الدولة العبرية، أن «مقاومة» حماس وليس عنفها، سلوك دفعت إليه تراكمات حصار الاحتلال لقطاع غزة على مدى أكثر من سبعة عشر عامًا، كادت فيها تموت القضية الفلسطينية، بالضربة القاضية.
●●●
فى سوريا، بعد سقوط نظام بشار الأسد، على أيدى المتمردين الجهاديين العنيفين، لم يرَ فيهم قادة إسرائيل، الفصيل الذى يجب منحه الفرصة، خصوصًا وقد أعلن تنظيم هيئة تحرير الشام، عدم قدرته على خوض حرب ضد إسرائيل، بل إنه أعلن، على لسان محافظ دمشق، المنتمى للهيئة، أنهم يرغبون فى سلام مع تل أبيب.. وهنا، يكتب نفتالى بينيت، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، فى «الواشنطن بوست»، إن الحرب كانت قريبة جدًا، لدرجة أننا كنا نكاد نلمسها.. كانت مقاطع فيديو قطع الرءوس، التى نشرها تنظيم الدولة الإسلامية، والتى صدمت العالم، أقرب إلينا بكثير من معظم الدول الغربية.. كان تنظيم الدولة الإسلامية من بين الجماعات التى كانت تقاتل، ولا تزال، هناك فى ساحتنا الخلفية. إذا لم نهتم نحن فى إسرائيل بأمننا، فإننا نعرف ما سيأتى بعد ذلك.
ومع سقوط بشار الأسد، تواجه إسرائيل لحظة محورية من الخطر والفرصة.. وأيًا كانت التحولات التى تحدث الآن، فمن المرجح أن تؤثر على المنطقة بأكملها لعقود من الزمن.. ولمواجهة هذا الواقع الجديد، تبنت إسرائيل استراتيجية ذات شقين: أولًا، القضاء على التهديدات المباشرة.. ثانيًا، الاستفادة من الفرص الناشئة «لتعزيز موقفنا الدفاعى».. إن كلا وجهى هذا النهج ضروريان لتجاوز الفوضى الحالية، وضمان الاستقرار على المدى الطويل.. ويرى بينيت، أن الأولوية المباشرة للحكومة الإسرائيلية هى سلامة مواطنيها، وخصوصًا أولئك الذين يعيشون بالقرب من مرتفعات الجولان.. ويتضمن ذلك تحييد القدرات العسكرية السورية المتقدمة، قبل أن تقع فى أيدى الجهاديين، وإنشاء منطقة عازلة إقليمية لحماية المجتمعات الإسرائيلية من الاضطرابات المجاورة.. وكلاهما مسائل تتعلق بالسلامة الأساسية.
خلال الأسبوعين الماضيين، أفادت التقارير، أن القوات الجوية الإسرائيلية دمرت ما يصل إلى 80% من الأصول الاستراتيجية للجيش السورى، بما فى ذلك مستودعات القوات الجوية والبحرية والأسلحة الكيميائية بأكملها تقريبًا.. إن النجاح الساحق الذى حققته هذه العمليات ضد ما كان يعتبر أحد أقوى الجيوش فى المنطقة يعد بمثابة نعمة ليس لإسرائيل فحسب، بل للعالم أجمع أيضًا.. إن وجود أسلحة خطيرة فى أيدى الجماعات الجهادية، من شأنه أن يُشكل تهديدًا كارثيًا للأمن العالمى.. فسوريا دولة مُمزقة، مُقسمة بين فصائل متشابكة ومعقدة، التى تشكل فى حد ذاتها تحالفات من فصائل أصغر، يجب على اللاعبين المهيمنين التفاوض معها.. وبرزت هيئة تحرير الشام، باعتبارها القوة السائدة، على الرغم من أن عدد مقاتليها قليل للغاية، بحيث لا يمكنهم السيطرة على البلاد بمفردهم.. فى الشمال، احتلت تركيا لسنوات، جزءًا كبيرًا من الأراضى السورية، دون أى شكاوى دولية من «الاحتلال»، ويستغل أتباعها فراغ السلطة لمهاجمة عدوهم، الأكراد، المتحالفين مع الولايات المتحدة، لأنهم ماهرون فى قتال تنظيم الدولة الإسلامية.. ووسط كل هذا، تعتبر تركيا والولايات المتحدة حليفتين فى حلف شمال الأطلسى.
فى الوقت نفسه، فى الجنوب، يعمل الجيش السورى الحر كتحالف فضفاض من المتمردين السُنة.. وتؤكد الطبيعة المُرقعة لهذه الجماعات، عدم وجود حكومة سورية فاعلة، قادرة على ضمان الاستقرار أو الالتزام بالاتفاقيات الدولية.. ويستدعى صعود زعيم هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، المعروف سابقًا باسمه الحركى أبو محمد الجولانى، تدقيقًا خاصًا.. إنه «تاليران» سورى، وكثيرًا ما غيّر مواقعه لصالح البقاء السياسى.. ولمن لا يعرف تاليران، فإنه تاليران واحد من الشخصيات التى ثارت حولها الشكوك فى التاريخ، إذ يرجع أصله إلى أسرة معروفة بخدماتها العسكرية.. كان الشرع عضوًا فى تنظيم القاعدة فى العراق، تحت قيادة الإرهابى أبومصعب الزرقاوى، ثم خدم تحت قيادة خليفته، وزعيم تنظيم الدولة الإسلامية المستقبلى، أبوبكر البغدادى، قبل أن ينفصل ويُشكل تنظيمه الخاص، فرع القاعدة، جبهة النصرة.. ومنذ ذلك الحين، حاول إعادة تصنيف نفسه على أنه معتدل، ولعب اللعبة الدبلوماسية داخل سوريا، وارتدى ملابس حديثة، وأنشأ وظائف شبه حكومية فى أراضيه، وتخلص من اسم تنظيم القاعدة لصالح هيئة تحرير الشام.
هذا التحول، هو على الأرجح حيلة محسوبة.. من شبه المؤكد، أن الشرع «أو الجولانى»، كما يسميه العديد من الذين تابعوا مسيرته المهنية، لا يزال جهاديًا سلفيًا لم تتغير أيديولوجيته الأساسية مع أن الولايات المتحدة رفعت للتو المكافأة بقيمة عشرة ملايين دولار لمن يأتى برأسه، وما زال على القائمة، إن هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية فإن الثقة فى نواياه ستكون ساذجة بشكل خطير.. ويجب على إسرائيل ألا تسمح له بأى مجال.. وأى عمل عدائى تجاه إسرائيل، يجب أن يُعاقب عليه بسرعة وبشكل غير متناسب.. والوقت وحده سيكشف عن ألوانه الحقيقية.
يؤكد بينيت، أن الردع الصارم ضرورة بالنسبة لإسرائيل، خصوصًا فى ضوء انهيار اتفاق وقف إطلاق النار مع سوريا عام 1974.. وهذا الإطار الذى كان يشكل حجر الزاوية فى الاستقرار على طول الحدود الإسرائيلية السورية، أصبح الآن ميتًا.. قبل أيام قليلة من سقوط نظام الأسد، هرع جنود إسرائيليون لمساعدة موقع قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، عندما تعرض لهجوم من قبل مسلحين مجهولين.. ومع عدم وجود سلطة موثوقة فى سوريا، ومع غياب آلية التنفيذ، تبخر الإطار العملى لاتفاق وقف إطلاق النار.. وبالتالى، فإن إنشاء منطقة عازلة مناسبة، يُشكل ضرورة دفاعية لحماية المجتمعات الإسرائيلية، من امتداد حالة عدم الاستقرار فى سوريا.. ولتحقيق هذه الغاية، سيطرت قوات الكوماندوز الإسرائيلية على جبل الشيخ الاستراتيجى السورى، وتحتفظ وحدات الجيش الإسرائيلى بما يكفى من الأراضى لحماية حدود إسرائيل.
ثم هناك مكان سوريا فى الشرق الأوسط الكبير.. لقد أدى سقوط نظام الأسد، إلى جانب التدهور الشديد الذى أصاب حزب الله فى لبنان خلال الأشهر القليلة الماضية، إلى تدمير «الهلال الشيعى»، الممتد من إيران إلى البحر الأبيض المتوسط.. وكانت سوريا هى طريق الإمداد الرئيسى بالصواريخ المتقدمة لحزب الله، وكانت هى نفسها دولة عميلة لإيران.. ومع انهيار النظام، وقيام إسرائيل بإزالة أنظمة الدفاع الجوى الروسية الصنع فى سوريا، أصبح بوسع الطائرات المقاتلة الإسرائيلية الآن، أن تطير إلى إيران دون عوائق تقريبًا، مع عدم وجود تهديد بدفاع جوى معادٍ أو انتقام بالوكالة الإيرانية.. لقد تم تدمير «حلقة النار» الإيرانية، الأمر الذى أدى إلى تجريد المنشآت النووية وغيرها من المنشآت.. وهذه فرصة يكاد يكون من المؤكد أنها لن تتكرر أبدًا.
لقد أدى تفكك نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى، إلى ترك خريطة الشرق الأوسط فى حالة تغير مستمر.. تتآكل الحدود والترتيبات التى فرضها الاستعمار، والتى حددت المنطقة خلال القرن الماضى؛ لا أحد يعرف كيف ستبدو الخريطة عندما يهتز كل هذا.. وبدلًا من الالتزام بالهويات الوطنية المفروضة، من المرجح أن يكون النظام الإقليمى الجديد عضويًا من الناحية الاجتماعية، على أسس عرقية ودينية وقبلية وطائفية.. وبينما يتشكَّل الشرق الأوسط الجديد، لا يجوز لإسرائيل أن تقف مكتوفة الأيدى.. «يجب أن نحمى مصالحنا ونُبعد أسوأ الجهات الفاعلة».. يقول بينيت، الذى يُضيف.. أن مقاطع الفيديو المروعة التى خرجت من سوريا من عمليات الإعدام الانتقامية، بإجراءات موجزة للعلويين على يد السنة، إلى الفظائع التى تم الكشف عنها فى سجن صيدنايا خارج دمشق تذكرنا بالمعاناة الإنسانية الرهيبة فى سوريا.. ولكننا شهدنا أيضًا دعوات الجهاديين المتمردين لاحتلال القدس!!.. بالنسبة للإسرائيليين، كل هذا يثير التعاطف، ولكنه يجبرنا أيضًا على تبديد أى أوهام.. بعد سقوط الفاشية، حُوصر قسم كبير من أوروبا المحررة خلف الستار الحديدى للشيوعية.. هناك العديد من المجموعات فى سوريا، ذات أهداف متناقضة، مما يجعل من الممكن أن تلعب نفس الديناميكية دورًا مستقبلًا.. ولهذا السبب، طلبت مجموعة مثل دروز السويداء من إسرائيل الاستيلاء على أراضيهم وجعلها جزءًا من إسرائيل. إلى أن يمكنهم رؤية ما قد يأتى.. ولكن إسرائيل لم ننتظر لنرى، ما إذا كانت مجموعات، مثل هيئة تحرير الشام، ستعتدل أم لا.. وبدلًا من ذلك، هدفت إسرائيل إلى تحييد التهديدات قبل أن تظهر، حتى صارت هيئة تحرير الشام، طائر بلا جناح، وأصبحت سوريا، أرض بلا سلاح!!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.