رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اشتباك مع أسئلة التحرر والاستقلال فى زمن الاحتلال (2)

«على مدار خمسة وسبعين عامًا، لم يترك الكيان الصهيونى المحتل قيمة أخلاقية إلا انتهكها، ولا مبدأ حضاريًا إلا خرقه، ولا قداسة إنسانية إلا داس عليها بأحذية جنوده الملطخة بدماء الأبرياء.. على أنه هذه المرة قرر أن يذهب أبعد فى طغيانه، مُستغلًا تواطؤ العالم وانحيازه».. هذا المُقتبس من بيان وقعه أكثر من ألفى مثقف عربى، وتُرجم للغات عدة، تحدث عن العدوان على المقدسات وتوسع الاستيطان، وتأجيج العنف فى نفوس المستوطنين وتسليحهم، وحصار قطاع غزة وتجويع أهله، وما أسماه البيان «التطهير العرقى المُمنهج» للشعب الفلسطينى، وأخرى تتمثل فى تمرير مشاريع التطبيع التى تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتجريد العرب من كرامتهم.. وفى البيان، تجاورت أسماء لها تاريخ من الخصومات السياسية والاختلافات الأيديولوجية المُعلنة وغير المُعلنة، لكن سقطت كل الخلافات من الحسبان أمام قضيتنا المركزية، إنسانيًا، وأخلاقيًا، وتاريخيًا، وثقافيًا.. ليبدو هذا التوافق ليس طارئًا، وهذا الاتفاق ليس مستغربًا، لأن هذه هى طبيعة فلسطين الجامعة.. ومما يلفت النظر فى البيان أسماء الموقعين عليه، فهم من طليعة المثقفين، كلٌ فى جنسه الأدبى أو حقله الإبداعى، كما أن الاختلافات الواضحة بين بعض هذه الأسماء فى الفكر والسياسة وغيرهما كبير.

 

توجه البيان بخطابه إلى أهل غزة وإلى الأمة العربية، شعوبًا وحكومات ومنظمات، وأحرار الإنسانية، وخص بالتحية من سماهم أصحاب الضمير الحى من الشركاء فى الإنسانية، كما أشار إلى مواقف بعض المثقفين الغربيين سلبًا وإيجابًا، ونعت الآلة الإعلامية الغربية بـ «آلة الكذب والتزييف»، إذ جاء فيه أن «صدمتنا ونحن نراها تحرق فى أيام قليلة ما راكمه الغرب خلال قرون طويلة من مبادئ وقيم، فى سبيل دعم الدعاية الصهيونية.. فى الأيام القليلة الماضية رأينا أعدادًا من سياسيى الغرب ومثقفيه وإعلامييه وهم يتدافعون إلى عارهم الأبدى».. البيان أيقظ السؤال المتكرر عن دور المثقف، «فالدور الحقيقى للكاتب قائم فى كل ما قدمه من إبداع مدافع عن الحرية ومُحتضن للقيم الكبرى قبل أى حدث كبير، وهذا ما تؤكده كتابات من رحلوا، مثل غسان كنفانى مثلًا، الذى نراه يقدم الكثير لشعبه اليوم، مع أنه لم يعد بيننا.. لا تصمد غزة وتقاتل بسلاحها وحسب، بل ببشر يملكون تاريخًا جماليًا وإنسانيًا عميقًا، رسخه على مدى عقود وعقود، مُبدعون ينتمون إلى روح هذا الشعب وقيمه.. فى حالات غير حالة غزة المحاصرة، كان يمكن أن يكون الكاتب واحدًا ممن يردون العدو بقتالهم».

 

● يعتبر الروائى الجزائرى، واسينى الأعرج، الأستاذ فى جامعة السوربون بباريس، ما يجرى فى غزة اليوم من قتل ودمار بمثابة «جريمة إبادة» لا يمكن تبريرها، مستنكرًا الموقف العربى الرسمى مما يحدث فى غزة.. ويقول صاحب رواية «حارسة الظلال»، إنه زمن متوحش جديد، وإنه متأثر جدًا كما جميع من فى قلوبهم بذرة من الإنسانية، فـ«ليس شرطًا أن يكونوا عربًا أو مسلمين أو مسيحيين، ولكن شرط الإنسانية الأدنى هو الذى يجعلنا نختلف عن الحيوانات الشرسة والمفترسة.. ما يجرى فى غزة من تدمير للبنى التحية وقتل للبشر، حالة غير مسبوقة من الجريمة وعدم الإحساس، أى أن الحس البشرى لم يعد موجودًا».. عندما كتبت فى تعليقاتى عن الحرب الروسيةـ الأوكرانية، قلت إننا نعيش زمنًا متوحشًا جديدًا، وبدلًا من العمل على إيقاف الحرب، هناك تشجيع على استمرار هذه الحرب والقتل وبيع الأسلحة، ووراء ذلك طبعًا بارونات مستفيدون من الصراعات المسلحة.. هكذا يضيف صاحب رواية «مملكة الفراشة»، الذى يؤكد أن ما حدث فى غزة «هو فى الحقيقة محصلة لسلسلة من الممارسات، لم تتمكن من إيقافها القوى الدولية»، ويدافع عن موقفه تجاه ممارسات إسرائيل وداعميها بقوله «لا أعتقد أن هناك صوتًا حقيقيًا يستطيع أن يعلو على الجريمة، لأن الجريمة عندها وكلاء، وهؤلاء الوكلاء أصبحوا يعلنون بشكل رسمى وواضح- وعلى رأسهم الولايات المتحدة طبعًا وبقية الدول الأوروبية- عن مساندتهم إسرائيل فى حربها على غزة».

 

● أظهرت عملية «طوفان الأقصى»، فى نظر الفيلسوف والمفكر المغربى، طه عبدالرحمن، «أن المقاومة الفلسطينية انتصرت على عقل الاحتلال الإسرائيلى كما انتصرت على أخلاقه»، وأن «هزيمة العدو السياسية مجرد تابع لهزيمته العقلية وهزيمته الأخلاقية»، وذلك على خلاف ما ترسخ فى الأذهان، من أن المقاومة تُوجب أولًا وقبل كل شىء إيقاع الهزيمة السياسية بالعدو.. وأوضح أستاذ المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، ومؤلف كتاب «روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية»، أنه «لما كان العقل والخُلق هما الصفتان المحددتان لكلية الإنسان، كانت هزيمة العدو فيهما هزيمة لذاته بأسرها، ومثل هذه الهزيمة لذات العدو لا يمكن أن تمحى من ذاكرته، فلا يستقيم له بعدها أمر، فيأخذ فى دوام الانهزام حتى الانقراض الكلى».. فى المقابل، فإن «انتصار المقاومة الفلسطينية عقليًا وأخلاقيًا، هو انتصار لكلية ذاتها، ومثل هذا الانتصار لا يمكن هو الآخر أن يُمحى من ذاكرة الأمة، فلا يعوجّ لها بعده طريق، فتأخذ فى دوام الانتصار حتى الانبعاث الكلى»، وفق تعبير صاحب كتاب «ثغور المرابطة.. مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية»، الصادر عام 2018.

 

وأشار الأكاديمى الذى درَّس الفلسفة واللغة فى جامعة محمد الخامس والسوربون- إلى أن الطوفان يفيد معنى «التجريف الذى لا يترك وراءه شيئًا، وأن حديث الطائفة المنصورة الذى أُشربت به قلوب رجال المقاومة الفلسطينية، كان له تأثير فى تسمية المقاومة لعمليتها فى السابع من أكتوبر، بطوفان الأقصى»، موضحًا أن المقاومة لم تحمل فقط أمانة تجريف الاحتلال ولا حتى مجرد الظلم، بل تجريف «الشر المطلق».. إن الناس «كانوا يتصورون الشر المطلق مفهومًا بعيدًا، ولا يعتقدون تحققه.. فإذا بهم اليوم يرونه رأى العين واقعًا حيًا.. فقد شاهدوا الصلاة فى بيوت الله تُقصف، والبراءة فى الطفولة تُزهق، والعافية من المستشفيات تُطرد، واللجوء إلى المآوى يُرهَب، وقس على ذلك ما شابهه.. رأوا بأم أعينهم احتضار كل قيم الخير التى خُلِق الإنسان من أجلها، وليس الشر المطلق إلا مَشاهد الموت الذى يأتى على كل القيم».

 

وتتخطى أبعاد «طوفان الأقصى»، فى رأى مؤلف «العمل الدينى وتجديد العقل»، الصادر عام 1989، الحدود الجغرافية والثقافية للأمة إلى العالم كله، لأن الفعل المُقاوِم بات يتطلب فى زمن ما بعد الطوفان الانتماء إلى العالم، و«أن يُنظر إلى الفعل المُقاوِم على أنه فعل عالمى صريح مُلزم لكل فرد من أفراد البشرية، حيثما حصل من بقاع الأرض وكيفما كانت الشرور التى يتصدى لها، وأنه يتعين على المُقاوِم العربى خصوصًا، أن يعى ويُوقن أنه يتصدى لشرور لا تقتصر آثارها على وطنه، وإنما تطال أقطار العالم كلها».

 

● لذلك، قال المفكر العربى  الكندى البارز، البروفيسور وائل حلاق، إن إسرائيل والولايات المتحدة والأوروبيين وغيرهم لا يستطيعون أن يُلجموا عنفهم ضد الآخرين، كما رأينا فى حرب فيتنام وأفغانستان والعراق وغزة، وليس فى منطق عدوانيتهم سوى الاستغلال المادى والهيمنة والميل إلى التدمير.. إن الأحداث التى بدأت بطوفان الأقصى، توضح تجليات الأزمة الأخلاقية فى الحداثة المتأخرة، وأن «الأحداث التى شهدناها فى القرون الثلاثة الأخيرة، تمثل الدليل الكامل على أن الحداثة الغربية منافقة وعنصرية حتى النخاع».. وأوضح أستاذ العلوم الاجتماعية فى جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة، أن تحليل أفعال طرفى الصراع فى قطاع غزة، إسرائيل وأمريكا والغرب من جهة، والفلسطينيين وحركة حماس من جهة أخرى، ليس بالأمر الشديد الصعوبة، بل الأصعب هو إدراك بنية الصراع المعرفية، «فحين نفهم هذه البنية، يمكن أن نحلل تداعياتها».. وذكر المفكر من أصل فلسطينى أن تعاطف الغربيين مع الفلسطينيين نابع من أمرين، الأول هو أن الفلسطينيين ضحية للمخططات الاستعمارية منذ عام 1917 مع وعد بلفور، والآن مع اعتداءات إسرائيل الشرسة على المدنيين الأبرياء الفلسطينيين، والأمر الآخر، هو أن حركة حماس أقرب إلى كونها ضحية من كونها جانية، رغم «أكاذيب إسرائيل اللا متناهية والتافهة فى الوقت نفسه»، كما أن «حماس كانت، كما يحب الغرب نفسه أن يقول، أكثر تحضرًا، من الهجمات البربرية التى قامت بها إسرائيل».

 

وبيّن صاحب كتاب «إصلاح الحداثة» أن الصراع بين حماس وإسرائيل يعود فى عمقه، إلى اختلاف نظرة الطرفين للطبيعة والحياة.. إذ إن الفلسطينيين وحماس ينطلقون من «مسئولية أخلاقية تقتضى استخدام العالم وإدارته باعتباره ملكوت الله، لا باعتباره ملكًا للبشر، فسيستخدمونه ويديرونه بشكل مقيد وبمسئولية حتى عندما يهاجمك بعض البشر ويريدون قتلك، فستستمر فى النظر إليهم على أنهم لا يساوونك فى قيمتهم الجوهرية فحسب، بل تكون أنت مسئولًا عنهم وعن إصلاحهم أخلاقيًا».. فى المقابل- يقول حلاق- تتصرف إسرائيل والغرب وفق منطق، أنه ليس وراء الكون أو الطبيعة مُسبِّب، فتكون النتيجة المنطقية أنه «لا قيمة لنا نحن البشر فى أنفسنا، إلا إذا أعطانا إياها أحدهم.. وبما أنه لا يمكن أن يكون هذا الشخص إلهًا، فإن إنسانًا يعطى هذه القيمة إنسانًا آخر، استنادًا إلى الذى يكون القرار بيده، وقوة القرار دائمًا ما تكون قوة بطشية، وهى قوة السيف.. فقرار الضعيف فى يد القوى، أى أن الأقوى بطشًا هو صاحب القرار».

 

● قالت المترجمة والأكاديمية البُلغارية، مايا تسينوفا، إن «قضية فلسطين تدافع عن نفسها بنفسها.. يكفى أن نعطيها الكلمة لتتحدث، رغم أن العالم المعاصر يُفضل أن يتناساها ويغض الطرف عنها.. وبهذه الطريقة جاء السابع من أكتوبر ولم يكن بداية».. وأضافت المحاضرة فى قسم اللغة العربية بجامعة صوفيا، قسم الدراسات العربية والسامية، أن بداياتها الشخصية مع القضية جاءت فى صيف 1976، عندما كانت فى نهاية سنتها الأولى لدراسة اللغة العربية فى جامعة صوفيا، وكانت تهتم بمتابعة أخبار مجزرة تل الزعتر فى لبنان، وانشغلت عن الامتحانات الصيفية الجامعية بإقامة مهرجانات التضامن مع فلسطين ولبنان.

 

واعتبرت تسينوفا أن اللغة العربية جاءتها بـ«قضية حياتها أو قضايا حياتها»، لأنها- باعتبارها مُترجمة- تستخدم الكلمات بمعانيها الدقيقة، ونوهت بدور الترجمة والتثاقف فى إقامة الجسور بين العرب والبُلغار، رغم أن البعض حريص على النأى والحياد، لكنى «أحاول دومًا إيجاد القيم الأخلاقية المشتركة، وأكثر ما يسعدنى أن يقول لى أحد القراء إن العرب مثلنا تمامًا».

 

● يرى المفكر والأكاديمى التونسى، أبو يعرُب المرزوقى، أن أغلبية المثقفين العرب «أبعد الناس عن المقاومة»، مؤكدًا أنهم «لو كانوا حقًا يؤمنون بالمقاومة التى تحقق تحرير الأوطان وتحرر الإنسان، لما كانوا أكثر المدافعين عن التبعية الحضارية».. واعتبر المرزوقى  الحاصل على إجازة الفلسفة من جامعة السوربون ودكتوراه الفلسفة العربية واليونانية 1991- أن «النظام الديمقراطى الغربى يجعل النجاح السياسى رهن المال الفاسد والإعلام المُضلِّل، وهم فى ذلك لا يختلفون عن الأنظمة الاستبدادية».. كما أنه «لا أحد اليوم فى الغرب- إذا ما استثنينا الرسميين، سياسيين ونخبًاـ ما زال يصدق سرديات إسرائيل، والتظاهر بكون إسرائيل رمز الحضارة والتقدم والديمقراطية، محاصرة بشعوب بدائية تهددها بهولوكوست ثانٍ، بعد أن نجاها الغرب من الأول، فى حين أنه هو مصدر كل الهولوكوستات التى مر بها اليهود».. لقد حرر «الطوفان شباب الغرب ونُخبة الحُرة من الابتزاز الصهيونى، بصنفية اليهودى والمسيحى فى الولايات المتحدة، خصوصًا وهى سر قوتهم، ذلك هو المغنم الأكبر لفاعلية الطوفان، إنه تسونامى خلقى بطىء الأثر، لكنه أكثر من زلزال كونى سيغير وجه الأرض كلها».

 

● المفكر الإسلامى، محمد سليم العوا، أكد أن نوافذ العالم العربى ولا سيما شبابه- قد انفتحت على حقل المقاومة الذى تتجه ثماره كلها نحو استعادة الحق الفلسطينى السليب بعد السابع من أكتوبر 2023.. ويؤكد أن كثيرًا من القوى الفاعلة فى المجتمعات العربية، قد تغيرت نظرتها إلى القيم الغربية تطبيقًا، «وتأكدت أنها مجرد شعارات للتصدير، أو على الأكثر للاستهلاك المحلى فى بلادهم، لكن إعمالها فى أى شأن يخص العرب أو المسلمين أو الأفارقة أو الآسيويين، بصرف النظر عن ديانتهم، أمر دونه خرط القتاد».. لقد «جاء طوفان الأقصى ليضع حدًا للأوهام المتعلقة بعملية السلام، وبالعلاقات الطبيعية بين الصهيونى المحتل وبين العرب جميعًا، مسلميهم ومسيحييهم».

 

ويتابع الفقيه القانونى، قائلًا «رأى العرب- كما رأى العالم- أن قهر العدو ممكن، وأن مواجهته بغير جيوش نظامية تُكبده خسائر فادحة لا قبل له باحتمالها، ومجرد وجود هذه الحقائق فى أذهان الشباب العرب، يفتح الأبواب لمرحلة ثقافية وسياسية، بل ووجودية جديدة».. وينتقد المواقف الرسمية العربية، «رأى المطبعون نتائج علاقاتهم مع العدو الصهيونى، وكيف أنها لم تجلب لأحد خيرًا قط، بل جلبت لهم نقمة الناس وكراهيتهم، وهى لم تحقق لهم أى مصلحة سياسية أو اقتصادية، بل جعلتهم فى النهاية أجزاء من رحى قطبها العدو الصهيونى، وهو المتحكم فيها، الذى لا يهتم إلا بمصالحه الذاتية، ويتخذ من الشعوب التى طبّعت حكوماتها معه، مجالات للتوسع الاقتصادى والثقافى والفكرى، أملًا فى محو الفكرة الإسلامية والشخصية العربية».

 

● يُعرفه القراء باعتباره ناقدًا ثقافيًا مرموقًا، ومؤلفًا حاصلًا على جوائز عدة، لكنه أيضًا مفكر صاحب نظر سياسى، وعالم اجتماع خبير بقضايا منطقة الشرق الأوسط، وكاتب مختص بالتاريخ الأخلاقى والسياسى والفكرى للمسلمين.. لكل ذلك، يحلل الأكاديمى والكاتب الإيرانى  الأمريكى، حميد دباشى، فى أعماله، موضوعات ثقافية عديدة بما فيها تاريخ إيران المعاصر، معتبرًا أن بلاده فى جدل مستمر بين رؤيتين متناقضتين للحداثة، إحداهما استعمارية والأخرى مناهضة للاستعمار.. وينظر دباشى إلى صعود التيارات الإسلامية كأحد أشكال «لاهوت التحرير»، مؤكدًا رفضه سردية حتمية التناقض بين مفهومى الإسلام والغرب، إذ قام بتفكيك العديد من مفاهيم المستشرقين والإسلاميين على حد سواء.. ويقول إن الأحداث الحالية التى بدأت مع «طوفان الأقصى» نقطة تحول فى تاريخنا الحديث، معتبرًا «إسرائيل حامية عسكرية ومستعمرة استيطانية اخترعتها إنجلترا، ودعمتها الولايات المتحدة، وسلحتها ألمانيا ودول أوروبية أخرى».. بل يُزيد بأن إسرائيل «أصبحت اليوم المستعمرة الاستيطانية الأكثر بُغضًا فى العالم، وليس هناك الكثير مما تستطيع جماعات الضغط الإسرائيلية فى الولايات المتحدة وأوروبا وكندا وأستراليا فعله لتغيير هذه الحقيقة»، ولا يمكن اليوم، لأى كفاح من أجل التحرر فى أى مكان- فى العالمين العربى والإسلامى على وجه الخصوص- أن يكون مشروعًا دون البدء أولًا من فلسطين ومن الفلسطينيين، كنقطة انطلاقه».

 

● يُعدُّ جوزيف مسعد، أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربى الحديث فى جامعة كولومبيا، من أهم المفكرين الذين اشتغلوا على تفكيك السرديات الاستشراقية والاستعمارية، التى تغذى كلًا من الفكر الغربى والصهيونية، طوال العقدين الأخيرين، وذلك من خلال كتاباته الأكاديمية الرصينة، التى سلطت الضوء على مدى أهمية القضية الفلسطينية، ومدى سعى الغرب والمشروع الاستيطانى الإسرائيلى لاستدامة الحرب على فلسطين والفلسطينيين، ومن بين هذه الكتب «ديمومة المسألة الفلسطينية»، و«الإسلام فى الليبرالية»، و«اشتهاء العرب».. وهو ما جعل كتاباته تكتسى أهمية كبيرة فى ظل ما أعقب «طوفان الأقصى»، أو ما بات يعرف بما بعد يوم السابع من أكتوبر، وفق السرديات الغربية التى عاشت فيها دولة الاحتلال الإسرائيلى ومناصروها عبر العالم، لحظات من اختلال التوازن وسقوط لسرديات القوة والهيمنة الاحتلالية، التى كان يتم الترويج لها فى السياق الغربى وصدّقها العالم العربى.

 

تميزت كتابات جوزيف مسعد بكونها تحفر فى جذور القضية الفلسطينية وتفكك المشروع الاستيطانى، وتُسبر أغواره وتبحث عن الجذور الرابطة بينها وبين المشروع الاستعمارى الكولونيالى الأوروبى الذى شهده العالم، وربط العلاقة العضوية بين الاستيطان الإسرائيلى والاحتلال الغربى.. ولا يتوقف تفاعل البروفيسور جوزيف مسعد عند هذا الحد، بل سبر أغوار المقاومة الفلسطينية والدروس التى يجب أن نتعلمها منها، والتى يجب أن تتعلمها من حركة التاريخ التى شهدت مقاومات أخرى قاومت الاحتلال الأجنبى، سواء فى نجاحاتها أو إخفاقاتها.

 

فى الجزء الأول من حوار مسعد مع الجزيرة، أظهر كيف يرتبط الاحتلال الاستيطانى الإسرائيلى بحركة الاستعمار الغربى، وقارن- على الجانب الآخر أيضًا- بين المقاومة فى فلسطين وتاريخ حركات المقاومة فى العالم، معتبرًا أن إسرائيل تبنت أبشع صور الحضارة الغربية، المتمثلة فى عنصريتها واستعلائها وتحيزها للعنف ضد المدنيين.. وفى الجزء الثانى من الحوار، شرح بنيوية العنف فى إسرائيل وعدم ارتباطه بحزب معين، وكيف أصبحت الجامعات الغربية تضيق الخناق على الأكاديميين الداعمين للقضية الفلسطينية!.

 

● إن من تجليات «طوفان الأقصى»، أنه قلب المعادلات وغيّر قواعد اللعبة، وأظهر حق الفلسطينى فى الوجود، من خلال إنجازات المقاومة المذهلة.. وأضاف عالم النفس والمفكر اللبنانى، الدكتور مصطفى حجازى، أن عملية «طوفان الأقصى» فتحت أعيننا على مسار تحرير حقيقى للقضية الفلسطينية خصوصًا، وقضية الاستقلال العربى عمومًا، لأن هذه العملية أذهلت القريب قبل البعيد، فى قوة التخطيط وتميزها فى الثورة وإبداعاتها فى التنفيذ، لاسترداد الحق فى الحياة والوجود و«يظل القهر والهدر عابرين مهما طال الزمن، وتقدم المقاومة فى غزة أبلغ الدروس فى ذلك».. إن الحركات التى تحولت إلى مسارات تفاوضية لا نهاية لها ولا ثمار منها، كما حدث للضفة الغربية بعد اتفاقية أوسلو، هى من نوع الأوهام بقيام دولة وكيان، حيث لم يتبق من الضفة سوى 20%.

 

والدكتور مصطفى حجازى، أكاديمى ومفكر لبنانى، حاصل على دكتوراه فى علم النفس من جامعة ليون بفرنسا، وعمل أستاذًا جامعيًا فى عدد من الجامعات العربية، وخبيرًا للعديد من المنظمات اللبنانية والخليجية والأممية.. واعتبر حجازى أن علماء الاجتماع العرب وسواهم، يلامسون سطح الواقع الفلسطينى، وينخرطون هم والمثقفون فى دراسة الفكر الغربى وقضاياه وأطروحاته، وكأنها اليقين العلمى الكونى، مع أن هذا الفكر قد تم تطويره لفهم واقع الإنسان الغربى.. ويرى أن طوفان الأقصى أثار فى نفوس جيل الشباب الغربيين الشوق إلى الحياة ذات المعنى، والبحث عبر قضية كبرى تملأ عليهم حياتهم، ومن هنا جاءت مظاهراته تأييدًا للحق فى الحياة والوجود للشعب الفلسطينى.. «إننا إزاء عنصرية متفوقة على من لم يبلغوا مستوى البشر بعد، ومن خلال هذه العنصرية يُعطى الغرب ذاته حق استعمار الشعوب واستغلالها، بزعم تمدينها وبزعم أن استغلاله لها هو ضمن واجبه لترقيتها».

 

● وأخيرًا، أطلق مغنى الراب البريطانى، لوكى ومواطنته المغنية، مى خليل، عملًا غنائيًا لافتًا بعنوان «فلسطين لن تموت أبدًا»، يجمع بين الغناء والراب والكلمات العربية والإنجليزية وفنون الكلام والشعر والنثر والأداء الغنائى.. قال لوكى إنهم استلهموا العمل من أعمال الفنان والمغنى والمؤلف الموسيقى اللبنانى، أحمد قعبور، المعروف بأعماله التى تحمل آمال الشعب الفلسطينى وآلامه، ومن أشهرها «أناديكم»، و«يا نبض الضفة» و«فى الضفة لى أطفال سبعة» وغيرها.. واعتبر لوكى أن الأغنيةـ التى تتميز بتعدد الإيقاع والشعرـ هى «مساهمتنا المتواضعة لهذه القضية العادلة، ومحاولة لتمكين الشباب فى الغرب، ممن لديهم شغف بتحرير فلسطين»، معتبرًا أن الكلمات أصابتهم بالقشعريرة، وهى تعكس الواقع الحالى، و«نتمنى أن تمنح الأغنية شجاعة وجرأة أكثر، لمن يتكلمون عن فلسطين فلا يخافون من مواجهة اللوبى الصهيونى فى بلدانهم»، معتبًرا أن الظروف التى ألهمت الأغنية، هى «الإحساس بالعجز والشلل السياسى، ومن حقنا فى الغرب التضامن مع شعبنا».

 

اختار لوكى المزج بين العربية والإنجليزية فى الأغنية، لأن ذلك المزيج «يعكس الواقع الذى نعيشه»، إنهم استلهموا كلمات تراثية لتفيد الأجيال الجديدة وتعمق صلتها بماضيها.. وعن استخدام الأجناس الموسيقية المختلفة فى أغنية واحدة، اعتبر لوكى أنهم أرادوا إثبات أن «العرب ليسوا فى حالة انفصام ثقافى، بالعكس تعرُّضُنا لفنون متعددة يؤدى إلى إثراء قدراتنا على توصيف واقعنا المرير».. وبيّن أن تاريخ الراب انبثق من معاناة الأمريكيين الأفارقة «بسبب التفرقة العنصرية»، وأنه يرى «الاحتلال الصهيونى فرعًا من الشجرة نفسها، يعنى أنه نظام عنصرى أوروبى، فُرِضَ على أناس من الجنوب العالمى».

 

حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.