رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل يُعيد الرئيس المُنتخب سِيرَته الأولى؟

إذا كانت فترة ولايته الأولى فى البيت الأبيض مؤشرًا على أى شىء، فمن المُرجح أن يُبقِى الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، الشرق الأوسط على رأس جدول أعماله.. لذلك، فإن مياه كثيرة تجرى هذه الأيام فى نهر الأحداث بالمنطقة، لكن من خلف الكواليس.. إذ يبدو أن الرئيس المنتخب لرئاسة الولايات المتحدة لفترة ثانية، لم ينتظر حتى العشرين من يناير المقبل موعد تنصيبه رئيسًا رسميًا لبدء نشاطه، خصوصًا فى القضايا التى أعلن خلال حملته الانتخابية عن أنه سيقتحمها، ومنها وقف الحروب، وخصوصًا فى الشرق الأوسط، وبالذات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وعودة المُحتجزين الإسرائيليين لدى حماس.
وإذا كنا نؤمن بأن وقف إطلاق النار ولو كان هشًا فى لبنان، جاء بجهود مشتركة من الرئيس الحالى، جو بايدن، والمنتخب دونالد ترامب، فلا بد من الوقوف أمام ما يحدث الآن فى غزة.. إذ قدمت إسرائيل لحماس مقترحًا مُحدَّثًا بشأن صفقة غزة.. وقال مسئولان إسرائيليان لباراك رافيد، محرر AXIOS، إن إسرائيل قدمت لحماس مُقترح صفقة لإطلاق سراح بعض الرهائن المائة المتبقين الذين تحتجزهم حماس، والبدء فى وقف إطلاق النار فى غزة.. وتأمل تل أبيب فى أن يوفر مقتل زعيم حماس، يحيى السنوار، ووقف إطلاق النار فى لبنان، والضغوط من جانب الرئيس المنتخب ترامب، فرصة لاستئناف المفاوضات التى وصلت إلى طريق مسدود منذ ثلاثة أشهر، علمًا بأن الإطار المُحدَّث للصفقة لا يختلف كثيرًا عن الاقتراح الذى تم التفاوض عليه فى أغسطس الماضى، ولم يتحقق.. لكن المسئولين الإسرائيليين قالوا إن التركيز الآن ينصب على محاولة تنفيذ المرحلة الأولى من تلك الصفقة مع بعض التغييرات، وقد أبدت حماس استعدادًا أكبر لإظهار المرونة، والبدء فى تنفيذ حتى الاتفاق الجزئى.
الإطار الإسرائيلى المُحدَّث، تم الاتفاق عليه فى اجتماع عقده رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، مع عدد من كبار الوزراء ورؤساء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.. وتم نقل مبادئ الإطار إلى كبار مسئولى الاستخبارات المصرية، الذين قدموها لممثلى حماس فى محادثات بالقاهرة، وقال مسئولون إسرائيليون إن مصر أصبحت الآن القناة الرئيسية للمفاوضات مع حماس، رغم أن قطر لا تزال مشاركة بعد أن تراجعت عن دورها كوسيط فى المحادثات، وأشاروا إلى أن المبادئ التى اقترحتها إسرائيل فى الإطار المُحدَّث مماثلة لتلك التى نُوقشت سابقًا، مع بعض التغييرات ومساحة للمناورة والمفاوضات.. إذ أبدت إسرائيل استعدادها للتفاوض على وقف إطلاق نار يستمر من اثنين وأربعين إلى ستين يومًا. وكان الاقتراح السابق يتضمن وقف إطلاق نار لمدة اثنين وأربعين يومًا فقط.. كما يتضمن الاقتراح أيضًا، إطلاق سراح جميع النساء الناجيات من الاحتجاز لدى حماس، وجميع الرجال الأحياء الذين تزيد أعمارهم على خمسين عامًا، والذين ما زالوا محتجزين رهائن، ويعانون من حالة طبية حرجة.
فى الماضى، طالبت إسرائيل بالإفراج عن ثلاثة وثلاثين رهينة على قيد الحياة من هذه الفئات، لكن إسرائيل مستعدة الآن للإفراج عن عدد أقل، وأحد أسباب ذلك، هو التقييم الذى يُفيد بأن بعض الرهائن من هذه الفئات لم يعودوا على قيد الحياة.. وكما اقتُرِح فى الإطار السابق، تقول إسرائيل إنها مستعدة للإفراج عن مئات السجناء الفلسطينيين مقابل الرهائن، الذين يقضى بعضهم أحكامًا بالسجن مدى الحياة بتهمة قتل إسرائيليين.. وقد أعلن ترامب عن أنه سيُعين آدم بوهلر الذى كان جزءًا من فريق البيت الأبيض فى التفاوض على اتفاقيات إبراهام خلال فترة ولاية ترامب الأولى مبعوثًا خاصًا لشئون الرهائن.. وسبق والتقى وزير الشئون الاستراتيجية الإسرائيلى، رون ديرمر فى واشنطن، الأربعاء الماضى، مع مرشح ترامب لمنصب مستشار الأمن القومى، مايك والز، وناقش معه صفقة إطلاق سراح الرهائن ووقف إطلاق النار.. وقال أحد مستشارى ترامب لوكالة AXIOS، إن الرئيس المنتخب يؤيد التوصل إلى اتفاق، إذا كان مقبولًا بالنسبة لإسرائيل، وأن الاتفاق أمر عاجل لأن «حياة الرهائن فى خطر.. ترامب يريد تنفيذ مثل هذا الاتفاق فى أقرب وقت ممكن ودون تأخير، قبل العشرين من يناير».
ولا يزال من غير الواضح، ما هو موقف حماس من الإطار المُحدَّث الذى اقترحته إسرائيل.. إلا أن مسئولًا إسرائيليًا قال: «نحن ننتظر أن نفهم من المصريين ما هو رد حماس.. وفى غضون أيام قليلة سوف نفهم، ما إذا كانت حماس مُستعدة للتفاوض فى الإطار الذى قدمناه أم لا».. وإذا قدمت حماس ردًا إيجابيًا، فسوف يُسافر وفد إسرائيلى إلى القاهرة لمحاولة الانتهاء من التفاصيل، كعدد أيام وقف إطلاق النار، وعدد الرهائن الذين سيتم إطلاق سراحهم، وعدد السجناء الفلسطينيين الذين سيتم إطلاق سراحهم مقابل كل رهينة.. والمرحلة المقبلة هى أن وفدًا من حماس يزور القاهرة غدًا السبت، لبحث أفكار مصرية جديدة بشأن اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة.
●●●
التوصل إلى اتفاق بشأن غزة كان إحدى أهم أولويات الرئيس الأمريكى الحالى، جو بايدن، خلال آخر شهرين له فى منصبه، لكن الافتقار إلى أى تقدم واضح فى الأسابيع الأخيرة، يشير إلى أن هذه المهمة قد تقع على «طبق» ترامب.. ويعتقد المسئولون الإسرائيليون أن إدارة ترامب قد تتبنى نهجًا مختلفًا تجاه غزة، وتحديدًا فيما يتعلق بالشكل الذى سيبدو عليه «اليوم التالى» للحرب.. لكن السيناتور ليندسى جراهام الجمهورى من كارولاينا الجنوبية، والذى يتحدث مع ترامب بشكل متكرر، ويقدم له المشورة بشأن السياسة الخارجية، وخصوصًا فى الشرق الأوسط قال فى مقابلة مع AXIOS، إن ترامب يريد التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب فى أقرب وقت ممكن، ويُفضل أن يكون ذلك قبل توليه منصبه، بالإضافة إلى تحرير مائة وواحد رهينة ما زالوا محتجزين لدى حماس فى غزة، بما فى ذلك سبعة مواطنين أمريكيين.. وتعتقد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أن نصفهم تقريبًا ما زالوا على قيد الحياة، وقال جراهام «ترامب عازم أكثر من أى وقت مضى، على إطلاق سراح الرهائن ويدعم وقف إطلاق النار الذى يشمل صفقة الرهائن.. إنه يريد أن يرى ذلك يحدث الآن.. أريد أن يعلم الناس فى إسرائيل والمنطقة، أن ترامب يركز على قضية الرهائن.. إنه يريد وقف القتل وإنهاء القتال».
جراهام قَدِم إلى الشرق الأوسط مرتين منذ أول هذا الشهر، التقى فى الثانية بولى العهد السعودى، الأمير محمد بن سلمان، ورئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو.. وأكد أن ترامب يحتاج إلى التوصل إلى اتفاق فى غزة، قبل أن يتمكن من التركيز على أهدافه الرئيسية فى السياسة الخارجية فى المنطقة، مثل التطبيع بين إسرائيل والسعودية والتحالف الإقليمى ضد إيران.. وخلال زيارته إلى إسرائيل، اعترض جراهام على المقترحات التى طرحها متشددون، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بشأن احتلال إسرائيلى غير محدد المدة لقطاع غزة، إذ قال سموتريتش فى وقت سابق من الأسبوع الماضى، إنه مع وصول ترامب، فإن إسرائيل لديها فرصة «لتشجيع الهجرة الطوعية»، وهو ما من شأنه أن يُقلل بشكل كبير من عدد السكان الفلسطينيين فى غزة.. إلا أن جراهام قال لسموتريتش: «أعتقد أنه يجب عليك التحدث إلى ترامب والاستماع إلى ما يريده.. إذا لم تتحدث معه، فلن أضع أنا الكلمات فى فمه».. وأضاف أن أى اتفاق سلام سعودى إسرائيلى، يتعين أن يتضمن مكونًا فلسطينيًا.. «إن أفضل سياسة تأمين ضد حماس، ليست إعادة احتلال إسرائيل لغزة، بل إصلاح المجتمع الفلسطينى.. والدول العربية هى الوحيدة القادرة على القيام بذلك».. وزعم جراهام أن الدبلوماسية فى المنطقة سوف تكون أسهل بسبب فوز ترامب، «لأن الناس يخافونه»!!.
●●●
بدأنا هذا المقال بعبارة «إذا كانت فترة ولايته الأولى فى البيت الأبيض مؤشرًا على أى شىء، فمن المُرجح أن يُبقى الرئيس المنتخب دونالد ترامب الشرق الأوسط على رأس جدول أعماله».. فكيف كان ترامب فى المرة الأولى؟.
خلال السنوات الأربع الأولى من ولايته، حقق ترامب إنجازًا تاريخيًا، باختياره المملكة العربية السعودية كوجهة لأول رحلة خارجية له، وحاول التوسط فى «صفقة القرن» بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وعزز التكامل الإقليمى للدولة اليهودية، وكثف الضغوط على إيران بشكل كبير.. لكن الشرق الأوسط تغيَّر بشكل كبير، منذ أن ترك ترامب منصبه عام 2021، ويراقب جميع الجهات الفاعلة الإقليمية باهتمام.. فكيف سيتعامل الرئيس الجديد مع هذه التحولات؟.
«إن عودتك التاريخية إلى البيت الأبيض تُقدم بداية جديدة لأمريكا، وتؤكد من جديد على التزامنا القوى بالتحالف العظيم بين إسرائيل وأمريكا.. هذا انتصار كبير!».. هذا ما كتبه رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، على موقع X يوم فوز ترامب.. كما رحبت دول الخليج العربية بفوز الرئيس المنتخب.. وهنأ العاهل السعودى، الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وولى العهد، الأمير محمد بن سلمان ترامب، وقالت الإمارات العربية المتحدة: «إن الإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة متحدتان فى شراكتنا الدائمة القائمة على الطموحات المشتركة للتقدم».. بينما قللت إيران من أهمية الانتخابات، قائلة إنه «لا يوجد فرق كبير» فى مَنْ يصبح رئيسًا فى الولايات المتحدة.. ونقلت وسائل الإعلام الإيرانية عن فاطمة مهاجرانى، المتحدثة باسم الحكومة، قولها إن «السياسات العامة للولايات المتحدة وإيران لم تتغير».. لكن بعد إعلان فوز ترامب، هل تصبح هذه هى الحقيقة؟.. تعالوا نرى كيف قد يؤثر انتخاب ترامب على اللاعبين الرئيسيين فى الشرق الأوسط، مع إقرارى المبدئى بأنه بالرغم من علانية ترامب وصراحته الفجة، إلا أنه من الصعب توقع خطوته التالية.
■ بالنسبة لإسرائيل والفلسطينيين.. قال محللون إن إنهاء الحروب فى غزة ولبنان ودمج إسرائيل فى الشرق الأوسط، من المُرجح أن يكونا على رأس أجندة الرئيس المنتخب فى الشرق الأوسط.. إذ يرى مصطفى البرغوثى، زعيم المبادرة الوطنية الفلسطينية، إن نتنياهو سيواجه رئيسًا أكثر صرامة مما اعتاد عليه، بمعنى «أننى لا أعتقد أن ترامب سيتسامح مع الحروب بالطريقة التى تحدُث بها»، مضيفًا أنه بالنسبة للفلسطينيين، لن يحدث هذا فرقًا كبيرًا «لأن الإدارتين كانتا متحيزتين تمامًا» تجاه إسرائيل.. وقال الدبلوماسى الإسرائيلى السابق، ألون بينكاس، لشبكة CNN، إن ترامب لا يريد أن تكون هذه الحروب «على مكتبه كقضية مُلحة»، عندما يتم تنصيبه فى العشرين من يناير، «سيقول: أنهوا الأمر؛ أنا لا أحتاج إلى هذا»، مضيفًا أن ترامب سيطلب على الأرجح من رئيس الوزراء الإسرائيلى «الإعلان عن النصر»، ثم التوصل إلى اتفاق من خلال وسطاء.
طوال حملته الانتخابية، لم يُحدد ترامب كيف سيتعامل مع الحرب بين إسرائيل وحماس إذا أُعيد انتخابه، أو كيف ستختلف سياساته عن سياسات سلفه جو بايدن.. فى أبريل الماضى، قال ترامب إن إسرائيل بحاجة إلى «إنهاء ما بدأته» و«إنهائه بسرعة»، مشيرًا إلى أنها «تخسر حرب العلاقات العامة» بسبب الصور القادمة من غزة.. وقال بينكاس إن ترامب «لا يهتم بالقضية الفلسطينية».. وخلال فترة ولايته الأولى، لم يُلق بثقله خلف الدعم الأمريكى الطويل الأمد لدولة فلسطينية مستقلة، قائلًا إنه يود الحل «الذى يُحبه الطرفان».. وقال البرغوثى إن هناك مخاوف من أن يسمح ترامب لإسرائيل بضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، وهو ما من شأنه أن يعنى «نهاية حل الدولتين».
خلال فترة ولايته الأولى، اتخذ ترامب عدة خطوات لصالح إسرائيل.. فى عام 2017، اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، مُنهيًا بذلك عقودًا من السياسة الأمريكية والإجماع الدولى.. كما اعترف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، التى استولت عليها من سوريا خلال حرب عام 1967.. ولكن، فى حين يزعم ترامب فى كثير من الأحيان، أنه الرئيس الأكثر تأييدًا لإسرائيل فى التاريخ الحديث، بل وحتى يتباهى بعلاقته الوثيقة والشخصية مع نتنياهو، فإن العلاقات بين الزعيمين لم تكن ودية دائمًا.. فى عام 2021، عندما كان كلاهما خارج السلطة.. اتهم ترامب نتنياهو بالخيانة، عندما هنأ نتنياهو بايدن على فوزه بالرئاسة عام 2020.. وبعد وقت قصير من الهجوم الذى شنته حماس على إسرائيل فى السابع من أكتوبر من العام الماضى، انتقد ترامب نتنياهو وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لعدم استعدادها، مُدعيًا أن الهجوم لم يكن ليحدث لو كان هو رئيسًا للولايات المتحدة.
وتأسيسًا على ذلك، رأى عضو الكنيست الإسرائيلى عن حزب الليكود، بوعز بسموت، إن انتخاب ترامب جاء فى «الوقت المناسب»، لأنه سيوفر فرصة لتوسيع اتفاقيات إبراهام، مع اقتراب الحروب فى غزة ولبنان من نهايتها.. وقال إن الاتفاقات وهى مجموعة من الاتفاقات التى سهَّلتها إدارة ترامب الأولى، والتى شهدت تطبيع إسرائيل للعلاقات مع أربع دول عربية وضعت احتمالات قيام دولة فلسطينية مستقلة على الموقد الخلفى!!، عندما تنتهى الحرب، ستكون هناك حاجة إلى إعادة تشغيل حقيقية فى الشرق الأوسط، وسيكون ترامب هو الشخص الأفضل لتحقيق «شرق أوسط جديد».. ورأى ناداف شتراوكلر، الخبير الاستراتيجى السياسى الذى عمل بشكل وثيق مع نتنياهو، إن انتخاب ترامب يبعث برسالة إلى أعداء إسرائيل فى إيران.. ومن المرجح أيضًا أن يكتسب رئيس الوزراء الإسرائيلى المزيد من الجرأة على المستوى المحلى، بعد إقالته لوزير الدفاع يوآف جالانت، على خلفية أشهر من الصدامات حول السياسة الداخلية وجهود الحرب الإسرائيلية.. إلا أن شتراوكلر عاد ليقول: «إنه سيحسب تحركاته التالية، ربما بشكل مختلف عما كان سيفعله لو انتخبت هاريس»، مضيفًا أن عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترامب، قد يعنى أنه سيكون هناك المزيد من الضغوط على إسرائيل لإنهاء الحروب فى غزة ولبنان، وربما إعادة تركيز الجهود لمواجهة إيران.
■ بالنسبة لإيران.. يقول الخبراء إن السنوات الأربع المقبلة قد تكون أكبر اختبار للجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها عام 1979، مع خضوع طهران لتدقيق ترامب، الذى من المُرجح أن يؤدى إلى عودة حملة «الضغط الأقصى» التى فرضها خلال رئاسته الأولى، والتى زادت من عزلة إيران وشلت اقتصادها.. لقد فشل ترامب، الذى يفتخر بأنه صانع صفقات ماهر، فى احتواء نفوذ طهران فى الشرق الأوسط، على الرغم من انسحابه من الاتفاق النووى لعام 2015 للحد من البرنامج النووى الإيرانى، وإعادة فرض العقوبات عليها، وحتى إصدار أمر باغتيال قاسم سليمانى، القائد العسكرى الذى أشرف على العلاقات مع وكلاء إيران فى المنطقة.. ومنذ مغادرة ترامب منصبه بعد 2020، كثفت إيران تخصيب اليورانيوم، وزادت صادراتها النفطية، وكثفت دعمها للجماعات المسلحة الإقليمية، وأرست سابقة بضرب إسرائيل فى هجوم مباشر مرتين.. ولكن مع استمرار إسرائيل فى إضعاف قدرات طهران الإقليمية، من خلال ضرب وكلائها، تجد إيران نفسها تخسر قوتها الرادعة فى مواجهة الاضطرابات الاقتصادية والسخط الداخلى الواسع النطاق.. وقال على واعظ، مدير مشروع إيران والمستشار الكبير فى مجموعة الأزمات الدولية، إن «الجمهورية الإسلامية تبدو هشة فى حين أن التهديدات ضدها هائلة»، مضيفًا أن المرشد الأعلى، آية الله على خامنئى البالغ من العمر ستة وثمانين عامًا لديه نطاق محدود للتعامل مع جميع الأزمات التى تحدث فى نفس الوقت.. 
وبينما يتأرجح الشرق الأوسط على شفا حرب أوسع نطاقًا، مع تهديد إيران بالرد على هجوم إسرائيل على أراضيها، هناك مخاوف من أن ترامب قد يُمكّن نتنياهو من ضرب المنشآت النووية الإيرانية، وهو الأمر الذى حذرت منه إدارة بايدن.. «هناك سيناريو واحد، وهو أن يطلب ترامب من نتنياهو إنهاء المهمة قبل توليه منصبه رسميًا، وهذا يعنى أننا قد نشهد تصعيدًا حادًا فى التوترات خلال هذين الشهرين، حيث تحاول إسرائيل إضعاف إيران ومحور المقاومة، قبل أن يتولى ترامب منصبه.. ثم يأتى ترامب وينسب الفضل إلى نفسه باعتباره صانع سلام».. إن هذا قد يتغير إذا قررت إدارة بايدن «سحب الفيشة» من قدرة إسرائيل على تصعيد التوترات فى الأشهر الأخيرة من ولايتها.. وقد مهدت الولايات المتحدة بالفعل الطريق لذلك، بإرسال خطاب إلى إسرائيل الشهر الماضى، تُحذر فيه من العواقب إذا لم تُحسِّن إسرائيل الوضع الإنسانى فى غزة.. وسيكون العامل المهم فى علاقة إيران بالرئيس الأمريكى المُقبل، هو كيفية رد ترامب على التقارير الاستخباراتية الأمريكية الأخيرة، التى تشير إلى أن طهران حاولت اغتياله، وهى المزاعم التى رفضتها إيران ووصفتها بأنها «لا أساس لها من الصحة وخبيثة».
لكن يجب أن يكون هناك تمييز واضح بين ترامب وإدارة ترامب، «ترامب قد ينجذب إلى جاذبية التفوق على الإيرانيين على طاولة المفاوضات، لأن ذلك سيكون بالنسبة له الاختبار النهائى لمهارته فى فن الصفقة»، وقد كان خلال فترة ولايته الأولى، منجذبًا إلى احتمال عقد صفقة مع إيران.. وكتب ترامب فى تغريدة عام 2020، «إيران لم تفُز بحرب قط، لكنها لم تخسر أى مفاوضات!».. إن إحياء نهج «الضغط الأقصى» الذى ينتهجه ترامب، قد يقترن بسياسة «الدعم الأقصى» للشعب الإيرانى، وهى سياسة مُحتملة لتغيير النظام، إلا أن هذا من شأنه أن يجعل من غير المُرجح أن تعود الدولتان إلى طاولة المفاوضات.
■ أما السعودية ودول الخليج.. وفى انتظار عودته المحتملة، واصلت هذه الدول التعامل مع ترامب بعد مغادرته منصبه.. ويقول المحللون إن هذا قد يكون مُثمرًا بالنسبة لهم.. ازدهرت العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة خلال ولاية ترامب الأولى.. فقد سجل تاريخًا باختياره الرياض كأول زيارة خارجية له كرئيس عام 2017 ووقف إلى جانب ولى العهد، الأمير محمد بن سلمان، خلال الأزمة المحيطة بمقتل كاتب عمود «واشنطن بوست»، جمال خاشقجى، عام 2018.. وهنا، يقول حسن الحسن، الزميل البارز فى سياسة الشرق الأوسط فى المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية فى البحرين، «إن دول الخليج تُولى أهمية كبيرة للقدرة على العمل مع زعيم متشابه التفكير وإدارة العلاقات من خلال الاتصال الشخصى.. وهذا يعكس الطريقة التى تدير بها أعمالها مع الدول الأخرى أيضًا».
خلال فترة ولايته الأولى، انخرطت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة فى حروب فى اليمن، وكانت علاقات البلدين مع إيران فى أسوأ حالاتها منذ عقود.. لكن دول الخليج عدّلت سياساتها الخارجية بشكل كبير منذ ذلك الحين، واختارت الحد من تدخلاتها العسكرية والتواصل مع أعداء سابقين مثل إيران، فى حين عملت على تنويع تحالفاتها فى عالم مُتعدد الأقطاب على نحو متزايد، وسط شكوك حول دور الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، «بالنسبة لإيران، هناك فرصة أن يعود ترامب إلى موقف الضغط الأقصى.. ونظرًا لتحسن العلاقات بين إيران ودول الخليج، فقد تتعرض لضغوط أكبر من الولايات المتحدة للالتزام بالضغوط القصوى».
إن أحد التحديات التى قد تواجهها القوى المتوسطة الناشئة، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة فى عهد ترامب، هو إدارة علاقاتها الوثيقة مع الصين.. فعلى مدى السنوات الماضية، وسَّعت الدول المنتجة للنفط علاقاتها التجارية والتكنولوجية مع الصين، على الرغم من المنافسة بين واشنطن وبكين.. وتمت دعوة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للانضمام إلى مجموعة «بريكس» للدول النامية، كما حصلت المملكة العربية السعودية على وضع شريك الحوار فى منظمة شنغهاى للتعاون، وهى كتلة أمنية واقتصادية آسيوية تقودها الصين.. لقد استخدمت الرياض وأبوظبى التكنولوجيا الصينية فى البنية التحتية الرئيسية، وعلى الرغم من التعهدات بالحد من نفوذ بكين على قطاعات الذكاء الاصطناعى الناشئة، فقد اعتمدت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بشكل متزايد على الخبرة الصينية.. والسؤال هو ما إذا كانت إدارة ترامب ستمارس ضغوطًا أكبر على دول الخليج لفك ارتباطها بالصين فى مجالات معينة؟.. ناهيك عن الحروب الجمركية والتجارية التى من المُرجح أن تتفاقم فى ظل إدارة ترامب، والتى قد يكون لها تأثير على الصادرات الخليجية أيضًا.. ويأمل ترامب أيضًا فى توسيع نطاق اندماج إسرائيل فى الشرق الأوسط، لكنه قد يواجه تحديًا فى رفض المملكة العربية السعودية تطبيع العلاقات مع الدولة العبرية، حتى ترى طريقًا لإقامة دولة فلسطينية، وهو ما رفضته إسرائيل.
وتبقى قطر، التى كانت من أوائل الدول التى هنأت ترامب، وأصبحت لا غنى عنها فى الجهود الأمريكية للتوصل إلى وقف إطلاق النار فى غزة، بسبب علاقاتها مع حماس، إلا أن هذه العلاقات قد تكون عبئًا فى ظل إدارة ترامب، و«ربما يشعرون فى الدوحة بقلق بالغ، بشأن ما قد يكون عليه ترامب الثانى»!!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.