الصليبيون والصهيونية ومعاداة السامية
بمتابعة واسعة للغاية، تفوقت على أعلى نسبة من قبل، فى قياسات المشاهدة عبر وسائل الإعلام، ظهر لاعب البوكر الأمريكى، الأقوى تأثيرًا فى وسائل التواصل الاجتماعى، دان بيلزيريان، فى برنامج Piers Morgan Uncensored Show يوم الثلاثاء الماضى، حيث أدلى بالعديد من التصريحات التحريضية والمثيرة للجدل حول حماس الإسرائيليين.. إذ وصف بيلزيريان حماس بأنها «حركة مقاومة»، ووصف زعيمها الراحل، يحيى السنوار، بأنه «بطل».. كما قال إن التقارير عن العنف الجنسى من قِبل حماس تم دحضها، وعندما سأله مُقدِم البرنامج، بيرس مورجان، كيف تم دحضها؟، قال: «لقد رأيت مقالات تقول إن هذا لم يحدث».. كما جاء فى صحيفة «جيروزالم بوست» العبرية.
واصل بيلزيريان حديثه عن أن اغتيال الرئيس الأمريكى الأسبق، جون كينيدى، عام 1963، كان عملية نفذها الموساد الإسرائيلى، كما قال إن إسرائيل قتلت الزعيم الليبى معمر القذافى عام 2011، وإن الموساد دبر قضية جزيرة جيفرى إبستين، وهى قضية أخذت اسم صاحبها الملياردير ورجل الأعمال الأمريكى، جيفرى إبستين، المتهم بإدارة شبكة للدعارة، واستغلال منازله وجزيرة كان يملكها لارتكاب جرائم جنسية ضد فتيات قاصرات، وتجنيد أخريات لتوسيع شبكته.. وقد ظهرت القضية للعموم عام 2005، عندما حوكم إبستين بتهمة ممارسة الدعارة مع قاصر، وتم الكشف عن وثائق أثبتت تورطه، رفقة شخصيات سياسية وفنية أمريكية وعالمية فى شبكة للدعارة واستغلال القاصرين.. وعلى الرغم من انتحاره عقب اعتقاله للمرة الثانية عام 2019، فإن القضية بقيت متفاعلة بعده، وأحدثت ضجة فى المجتمع الأمريكى.. صحيح، أن بيلزيريان أجاب ببساطة، «لم أكن هناك، ولكن كل ما رأيته من أدلة، يشير إلى إسرائيل»، ويعتقد أن إسرائيل تسيطر على الحكومة الأمريكية، وأنها ابتزت السياسيين وسيطرت عليهم.
وعندما سأله المذيع، بيرس مورجان، عما إذا كان اليهود على حق فى الشعور بأنهم ضحايا بسبب الهولوكوست، رد بيلزيريان قائلًا: «أعتقد أن التفوق اليهودى هو التهديد الأعظم للعالم اليوم.. إن معظم المشاكل اليوم سببها التفوق اليهودى».. إن عدد اليهود الذين قتلوا أثناء الهولوكوست قد «خضع للمراجعة».. وعندما واجهه مورجان بهذا التصريح، قال له إنه «يراهن بثروته الصافية بالكامل على أن هذا الرقم أقل من ستة ملايين»، مؤكدًا أن «علم الرياضيات لا يعمل عند هؤلاء».. وقد أثارت تصريحات بيلزيريان الجدل، عندما قال إن اليهود قتلوا مسيحيين أكثر من ستة ملايين، وإنهم هم الذين «اخترعوا الإبادة الجماعية».
ولم يجد مورجان مفرًا، لإنقاذ نفسه من مأزق الحوار الصعب، إلا باتهام بيلزيريان بمعاداة السامية، ولكن بيلزيريان يعيد التأكيد على اعتقاده بشأن المخاطر المفترضة لـ«التفوق اليهودى»، وأن اليهود «يسيطرون على وسائل الإعلام»، ويروجون علنًا لأيديولوجيات التحول الجنسى.. مؤكدًا أنه يعارض كلمة «معاداة السامية»، واصفًا الفلسطينيين بـ«الساميين الحقيقيين».. ثم قال إن جميع اليهود الإسرائيليين هم يهود أشكناز من أوروبا الشرقية، وإنهم «لا يحملون الحمض النووى العبرى الحقيقى».. هنا، رد مورجان عما اعتبره معاداة للسامية التى أظهرها بيلزيريان خلال حلقة البرنامج، «لقد صُدمت من مدى وقاحتك.. إنك تلوم اليهود حرفيًا على كل ما حدث فى العالم ولا يعجبك.. وهذا هو التجسيد الأكثر نقاءً لمعاداة السامية».. ليرد عليه بيلزيريان قائلًا: ««إن اليهودية تشجع القتل والاغتصاب، وتسرق من الآخرين طالما أنهم ليسوا يهودًا»، ووصف إسرائيل بأنها «تجسيد لذلك».. وبعد فترة توقف طويلة، يصف مورجان بيلزيريان بالنازى، ويقول له: «ما تقوله هو حرفيًا ما قاله النازيون فى الحرب العالمية الثانية؛ لقد عبروا حرفيًا عن كراهيتهم للشعب اليهودى، وأسباب ذلك بالطريقة نفسها التى فعلتها للتو.. لقد قضيت حرفيًا آخر عشرين دقيقة، فى خطاب نازى معادٍ للسامية».
●●●
فى نفس ذلك اليوم، الثلاثاء، الثالث عشر من نوفمير الجارى، يكتب الصحفى الأمريكى، توماس فريدمان، من تل أبيب، لصحيفة «نيويورك تايمز»، قائلًا: «عندما تقرأ التقارير الإخبارية عن العنف المروع ضد مشجعى كرة القدم الإسرائيليين فى أمستردام بهولندا، ليس هناك شك فى أن الكراهية القوية والقبيحة المعادية لليهود كانت تعمل هناك.. إنكار ذلك، هو وضع رأسك فى الرمال، لكن الاعتقاد بأن هذا هو كل ما يدور حوله، أمر خطير للغاية بالنسبة لإسرائيل والشعب اليهودى».. أحد أكثر الأشياء إثارة للدهشة حول وجودك فى إسرائيل الآن، هو إدراك كيف أن اليهود الإسرائيليين العاديين قد شاهدوا عددًا قليلًا جدًا من الصور، التى تُنشر كل يوم على وسائل التواصل الاجتماعى لبقية العالم، التى تُظهر رجالًا ونساءً وأطفالًا فلسطينيين قتلوا وجرحوا وشوهوا، كأضرار جانبية فى حرب إسرائيل على حماس، التى قتلت هى نفسها، وجرحت وشوهت واختطفت إسرائيليين فى السابع من أكتوبر من العام الماضى.
أنا لست قاضًيا، يقول فريدمان.. لا أعرف ما النسبة «العادلة» من أرواح المدنيين الفلسطينيين، ومنازلهم التى قد تقول قوانين الحرب، إنه من المقبول أن تدمرها إسرائيل، ردًا على السابع من أكتوبر، مقابل كل يهودى إسرائيلى ومنزل دُمر فى ذلك اليوم.. ولكننى هنا لأقول، إنه مهما كان العدد، فإن إسرائيل تجاوزته الآن.. وحقيقة أن هذا التدمير لغزة، مستمر كل يوم من قِبل حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة، لا تزال بعد حوالى أربعة عشر شهرًا من بدء الحرب ترفض تقديم أى خطة لحكم فلسطينى لائق فى غزة، ليحل محل حماس، وهو أمر من شأنه أن يقول لأصدقاء إسرائيل وأعدائها: «نعم، هذه الحرب تكلف خسائر فادحة»، ولكنها تسعى إلى مستقبل أفضل للإسرائيليين والفلسطينيين، «يحوِّل الدولة اليهودية إلى دولة منبوذة».
فى صباح يوم الأربعاء، تناولت الإفطار فى تل أبيب مع رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق، إيهود أولمرت، وانحرفت محادثتنا إلى هذا الواقع.. ثم مد أولمرت يده إلى حقيبته وقرأ لى بصوت عالٍ ملاحظاته المكتوبة بخط اليد، من مقال كان يستعد لتقديمه إلى الصحافة العبرية حول أمستردام.. يقول فى بعض المقتطفات، إن ما حدث فى أمستردام هو فى المقام الأول انعكاس لكراهية العديد من المسلمين دولة إسرائيل ومواطنيها، بسبب ما يحدث فى منطقتنا.. إنه ليس استمرارًا لمعاداة السامية التاريخية التى اجتاحت أوروبا فى القرون الماضية، التى مصدرها التعصب الدينى المسيحى، وعدم التسامح مع الشعب اليهودى بشكل عام.. الحقيقة، هى أن الكثير من الناس فى العالم، غير قادرين على الإذعان لتحويل إسرائيل غزة، أو الأحياء السكنية فى بيروت، إلى العصر الحجرى، كما وعد بعض قادتنا بذلك.. ناهيك عما تفعله إسرائيل فى الضفة الغربية من القتل وتدمير الممتلكات الفلسطينية.. هل نحن مندهشون حقًا من أن هذه الأشياء تخلق موجة من ردود الأفعال العدائية، عندما نستمر فى إظهار عدم الحساسية تجاه البشر، الذين يعيشون فى وسط ساحة المعركة، والذين ليسوا إرهابيين؟
استمدت الأحداث فى أمستردام جذورًا عميقة فى ماضى الشعب اليهودى.. لكنهم اعتمدوا أيضًا على سيل لا ينتهى من صور وسائل التواصل الاجتماعى، للدمار الذى لحق بغزة دون أى خطة إسرائيلية، تقدم طريقة أفضل لليهود والفلسطينيين للعيش جنبًا إلى جنب.. إن التركيز بالكامل على الأول وتجاهل الثانى تمامًا، يتعلق بأخطر شىء يمكن أن يفعله اليهود فى كل مكان اليوم.
●●●
وفى مقال قديم، يعود تاريخه إلى الحادى عشر من أكتوبر 2014، كتب أورى أفنيرى، مقالًا بعنوان «أوجه التشابه بين الصليبيين والصهاينة»، يقول فيه، إنه فى الآونة الأخيرة، أصبحت كلمتا «الصليبيين» و«الصهاينة» تظهران بشكل متزايد كتوأم.. فى فيلم وثائقى عن داعش شاهدته للتو، ظهرت الكلمتان معًا فى كل جملة تقريبًا، ينطق بها المقاتلون المتأسلمون، بما فى ذلك المراهقون.
وكاستطراد لازم، فإن أورى أفنيرى، الذى عاش من العاشر من سبتمبر 1923 إلى العشرين من أغسطس 2018، وُلِد فى ألمانيا، حيث حمل اسم هلموت أوسترمان، وقد هاجر إلى فلسطين عام 1933.. هو صحفى إسرائيلى، وأحد أشهر ناشطى اليسار فى إسرائيل، كما أنه عضو كنيست سابق.. وكان سابقًا عضوًا فى الحركة الصهيونية التعديلية.. كما انخرط فى صفوف ميليشيات الإرجون الإرهابية، وهو فى سن الخامسة عشرة.. وقد شارك لاحقًا فى حرب 1948.. اشتهر أفنيرى بمقابلته ياسر عرفات فى الثالث من يوليو 1982، أثناء حصار بيروت، ليكون بذلك أول إسرائيلى يقابل عرفات شخصيًا.. وقد تحول أفنيرى بعد ذلك نحو اليسار الإسرائيلى، وأنشأ عام 1993 حركة كتلة السلام، أو «جوش شلوم» بالعبرية.. ويُعرف عن أفنيرى كونه يهوديًا علمانيًا معارضًا لنفوذ اليهود الأرثوذكس على الحياة السياسية فى إسرائيل.. كما كان من الناشطين سياسيًا، الداعين لحل الدولتين «دولة فلسطينية وأخرى إسرائيلية، تعيشان متجاورتين بسلام كحل للقضية الفلسطينية».. وقد عمل على الترويج لأفكاره عبر العديد من النشاطات التى قامت بها حركته، وعبر العديد من المقالات التى كتبها.. ومن أقواله: «أنت لا تستطيع أن تحدثنى عن الإرهاب، فأنا كنت إرهابيًا».
يقول أفنيرى، قبل حوالى ستين عامًا كتبت مقالًا، كان عنوانه بالضبط، «الصليبيون والصهاينة».. ربما كان أول مقال حول هذا الموضوع، أثار الكثير من المعارضة.. فى ذلك الوقت، كان مقالًا صهيونيًا.. لقد رويت بالفعل القصة عدة مرات، عن تعلقى بتاريخ الصليبيين، لكننى لا أستطيع مقاومة إغراء سردها مرة أخرى.
خلال حرب 1948، كانت وحدتى الكوماندوز تقاتل فى الجنوب.. وعندما انتهت الحرب، ظلت منطقة ضيقة من الأرض على طول البحر الأبيض المتوسط فى أيدى المصريين.. أطلقنا عليها اسم «قطاع غزة» وبنينا حولها مواقع استيطانية.. وبعد بضع سنوات، قرأت كتاب ستيفن رانسيمان الضخم «تاريخ الحروب الصليبية».. ولفت انتباهى على الفور مصادفة غريبة: بعد الحملة الصليبية الأولى، تُرِك شريط من الأراضى على طول البحر فى أيدى المصريين، ويمتد بضعة كيلومترات خارج غزة.. بنى الصليبيون سلسلة من التحصينات لاحتوائها.. كانت فى نفس الأماكن تقريبًا مثل مواقعنا الاستيطانية.. وعندما انتهيت من قراءة المجلدات الثلاثة، فعلت شيئًا لم أفعله من قبل أو منذ ذلك الحين: كتبت رسالة إلى المؤلف.. بعد الإشادة بالعمل، سألته: هل فكرت يومًا فى التشابه بينهم وبيننا؟
وصلت الإجابة فى غضون أيام.. لم يفكر فى الأمر فحسب، كما كتب رانسيمان، بل كان يفكر فيه طوال الوقت.. ولقد أراد أن يسمى الكتاب «دليل للصهاينة حول كيفية تجنب القيام بذلك».. ولكنه أضاف قائلًا: «نصحنى أصدقائى اليهود بعدم القيام بذلك».. وطلب منى، أنه إذا أتيحت لى الفرصة فى أى وقت بالمرور عبر لندن، فسوف يسعده أن أزوره.. وكنت فى لندن بعد بضعة أشهر واتصلت به.. فطلب منى أن آتى إليه على الفور.. وأجاب ستيفن رانسيمان بنفسه، وهو رجل بريطانى طويل القامة يبلغ من العمر نحو خمسين عامًا.. ولأننى من عشاق إنجلترا الذين لا يمكن شفاؤهم، فقد سحرنى أسلوبه الأرستقراطى المهذب.. وانغمسنا فى مناقشة التوازى بين الصليبيين والصهاينة، وفقدنا كل إحساس بالوقت.. وظللنا لساعات نقارن الأحداث والأسماء.. فمَن هو هرتزل الصليبى «البابا أوربان»؟، ومَن هو بن جوريون الصليبى؟.. «جودفرى؟.. بالدوين؟»، ومَن هو الصهيونى رينالد شاتيلون «موشيه ديان»؟، ومَن هو الإسرائيلى ريموند طرابلس، الذى دعا إلى السلام مع المسلمين؟ «أشار رانسيمان إلىّ بلطف».
وبعد سنوات، دعانى رانسيمان وزوجتى إلى إسكتلندا، حيث أنتقل للعيش فى برج مراقبة قديم بالقرب من لوكربى، بُنى للدفاع ضد إنجلترا.. وخلال العشاء الذى قدمه خادم وحيد، تحدث عن الأشباح التى تُطارد المكان.. وقد ذُهلت أنا وراشيل، عندما أدركنا أنه يؤمن بها حقًا.. لقد كان هناك ما لا يقل عن ستة قرون من الزمان تفصل بين الحركتين التاريخيتين، وكانت خلفياتهما السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية مختلفة تمامًا بالطبع.. ولكن بعض أوجه التشابه واضحة.. فقد غزا الصليبيون والصهاينة، وكان الفلسطينيون هناك من قبلهم فلسطين من الغرب.. لقد عاشوا وظهرهم للبحر وأوروبا، فى مواجهة العالم العربى الإسلامى.. لقد عاشوا فى حرب دائمة.. فى ذلك الوقت، كان اليهود يتماهون مع العرب.. ولا تزال المذابح الرهيبة التى ارتكبها بعض الصليبيين فى حق المجتمعات اليهودية على طول نهر الراين، فى طريقهم إلى الأرض المقدسة مطبوعة بعمق فى الوعى اليهودى. لقد ارتكب الصليبيون جريمة شنيعة أخرى، عندما احتلوا القدس، فذبحوا كل سكانها من المسلمين واليهود، رجالًا ونساءً وأطفالًا، وخاضوا «الحرب حتى رُكبهم فى الدماء»، على حد تعبير أحد المؤرخين المسيحيين.
●●●
أما حيفا، إحدى آخر المدن التى سقطت فى أيدى الصليبيين، فقد دافع عنها سكانها اليهود بشراسة، وقاتلوا جنبًا إلى جنب مع حامية المسلمين.. لقد نشأت على كراهية الصليبيين، ولكننى لم أكن أدرك الكراهية الشديدة التى كان المسلمون يكنونها لهم، حتى طلبت من الكاتب العربى الإسرائيلى، إميل حبيبى، أن يوقع على بيان يدعو إلى شراكة إسرائيلية فلسطينية بشأن القدس.. وفى البيان، ذكرت كل الثقافات التى أثرت المدينة فى الماضى.. وعندما رأى حبيبى أننى أدرجت الصليبيين فى البيان، رفض التوقيع، وقال فى دهشة: «كانوا مجموعة من القتلة!».. واضطررت إلى حذفهم.. فعندما يربطنا العرب بالصليبيين، فإنهم يريدون بوضوح أن يقولوا إننا أيضًا دخلاء أجانب، وغرباء عن هذا البلد وهذه المنطقة.
إن المقارنة هنا خطيرة للغاية.. فإذا كان العرب يحملون مثل هذه الكراهية العميقة للصليبيين بعد ستة قرون، فكيف لهم أن يتصالحوا معنا؟.. وبدلًا من إضاعة وقتنا فى المناقشة، حول ما إذا كنا متشابهين أم لا؟، فمن الأفضل لنا أن نتعلم من تاريخ الصليبيين.. إن الدرس الأول يتعلق بمسألة الهوية.. فمن نحن؟، وهل نحن الأوروبيين الذين نواجه منطقة معادية؟، وهل نحن «جدار ضد البربرية الآسيوية»، كما أعلن تيودور هرتزل؟، وهل نحن «فيلا فى الغابة»، وفقًا للمقولة الشهيرة لإيهود باراك؟.. وباختصار، هل نرى أنفسنا ننتمى إلى هذه المنطقة؟، أم أننا أوروبيون هبطوا عن طريق الخطأ على القارة الخطأ؟
فى اعتقادى، يقول أفنيرى، أن هذا هو السؤال الأساسى الذى تطرحه الصهيونية، التى تعود إلى يومها الأول، وتُملى كل ما فعلته حتى يومنا هذا.. وفى كتيب «الحرب أو السلام فى المنطقة السامية»، الذى نشرته عشية حرب عام 1948، طرحت هذا السؤال فى الجملة الأولى.. إن الصليبيين لم يكونوا يتساءلون عن هذا الأمر على الإطلاق.. فقد كانوا زهرة الفروسية الأوروبية، وقد جاءوا لمحاربة المسلمين.. وقد عقدوا هدنات مع الحكام العرب، وخصوصًا أمراء دمشق، ولكن محاربة الإسلام كانت سبب وجودهم.. أما دعاة السلام والمصالحة القلائل، مثل رايموند الطرابلسى، فقد كانوا غرباء مُحتقرين.
إسرائيل فى وضع مماثل.. صحيح أننا لا نعترف أبدًا بأننا نريد الحرب؛ ونقول بأن العرب هم الذين يرفضون السلام دائمًا.. ولكن منذ يومها الأول، رفضت دولة إسرائيل تحديد حدودها، وكانت مستعدة دومًا للتوسع بالقوة، تمامًا مثل الصليبيين.. واليوم، بعد ستة وستين عامًا من تأسيس دولتنا وقت كتابة أفنيرى لمقاله فإن أكثر من نصف الأخبار اليومية فى وسائل إعلامنا، تتعلق بالحرب مع العرب، داخل إسرائيل وخارجها.. وتعانى إسرائيل شعورًا عميقًا بعدم الأمان الوجودى، الذى يجد تعبيره فى أشكال لا حصر لها.. ولكن لماذا لم يكن هذا الشعور بالأمن سببًا فى إثارة الدهشة؟.. إننى أعتقد أن جذور هذا الشعور تكمن فى الشعور بعدم الانتماء إلى المنطقة التى نعيش فيها، وبأننا مجرد فيلا فى الغابة، ما يعنى فى واقع الأمر أن نكون أشبه بجيتو مُحصن فى المنطقة.. وربما نستطيع أن نقول إن هذا الشعور طبيعى، لأن أغلب الإسرائيليين من أصول أوروبية.. ولكن هذا غير صحيح.. ذلك أن عشرين فى المائة من المواطنين الإسرائيليين عرب.. وما لا يقل عن نصف اليهود جاءوا إلى هنا، هم أو آباؤهم، من بلدان عربية، حيث كانوا يتحدثون العربية ويستمعون إلى الموسيقى العربية.. فهل كان الصليبيون أقلية أرستقراطية صغيرة فى دولتهم، كما يزعم المؤرخون الصهاينة دومًا؟.. هذا يتوقف على الطريقة التى نحسب بها الأمور.
فعندما وصل الصليبيون الأوائل فلسطين، كانت أغلبية السكان لا تزال مسيحية من مختلف الطوائف الشرقية.. ولكن الغزاة الكاثوليك نظروا إليهم باعتبارهم غرباء أدنى منزلة.. وكان البولانيون، كما كانوا يسمونهم، موضع احتقار وتمييز.. لقد شعروا بأنهم أقرب إلى العرب من «الفرنجة» المكروهين، ولم يحزنوا عندما طُرِدوا منها فى النهاية.. وقد اعتنق أغلب هؤلاء المسيحيين الإسلام فى وقت لاحق، وكانوا أجداد العديد من الفلسطينيين المسلمين اليوم.
إن الدرس الآخر الذى يجب أن نتعلمه من هذه الحرب، هو التعامل مع الهجرة بجدية.. ففى المجتمع الصليبى كان هناك ذهاب وإياب مستمر.. والآن يدور نقاش محتدم حول الهجرة فى إسرائيل.. فالشباب، ومعظمهم من المتعلمين، مع أطفالهم، يغادرون إلى برلين، وغيرها من المدن الأوروبية والأمريكية.. وفى كل عام ينظر الإسرائيليون بقلق إلى الموازنة: كم عدد الذين دفعتهم معاداة السامية إلى إسرائيل؟، وكم عدد الذين دفعتهم الحرب والتطرف اليمينى إلى العودة إلى أوروبا؟.. لقد كانت هذه مأساة بالنسبة للصليبيين.. ومن بين الأسباب الرئيسية وراء رفض الصهيونية للمقارنة بالصليبية، نهايتهم المؤسفة.. فبعد ما يقرب من مائتى عام فى فلسطين، مع العديد من الصعود والهبوط، أُلقى آخر الصليبيين حرفيًا فى البحر من رصيف عكا.. وكما كان رئيس الحركة السرية ورئيس الوزراء الأسبق، إسحاق شامير، يحب أن يقول، «البحر هو نفس البحر والعرب هم نفس العرب».. وبطبيعة الحال، لم يكن لدى الصليبيين قنابل نووية ولا غواصات ألمانية!.. هل فهمتم؟
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.