رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وداعًا الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبوسنة

مر علىَّ، وعلى أبناء جيلى، اسم الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة «1937- 10 فبراير 2024» الذى تلقى تعليمه فى الأزهر الشريف، للمرة الأولى، ونحن طلاب فى آخر سنة فى المرحلة الثانوية، فى أثناء دراسة نص من النصوص الشعرية الدراسية، تحت عنوان «النسور»، يقدم فيه الشاعر رؤيته لصنفين من الناس؛ فأما الصنف الأول، فهم المتمسكون بالمبادئ والقيم، والساعون فى الوقت نفسه إلى تحقيق الأهداف وتحمل الصعاب، من أجل إدراك المنى وبلوغ الآمال، وهم المرموز لهم عنده فى قصيدته بـ«النسور»، واختياره للنسور بوصفها رمزًا للكبرياء والقوة والطموح والعزة والكرامة، وأما الصنف الثانى، فهم الكسالى الخاملون المستسلمون للدعة واليأس والجبن والماديات الزائفة الزائلة التى لا تصنع كرامة ولا تجلب عزًا، والمرموز لهم بـ«الأرانب»، التى من طبيعتها الخوف والفزع والاختباء والهرب وعدم الثبات والبحث عن الطعام لملء البطون، وشتان بين الصنفين، على كل المستويات، ويصف ذلك بسلاسة أسلوبه قائلًا:

النسورُ الطليقَةُ هائِمَة
فى الفضاءِ الرَّمادى                 
تَرْصُدُ مَوْقِعَها..
فى أعالى الجبال..
إنها تتَذَكَّرُ شكلَ السهول..
بخُضْرَتِها
بتَدَفُّقِ غُدرانِها..
والأرانبُ تقفز..
فى العُشْبِ مثلَ اللآل..
تتذكَّرُ والجوعُ يحرقُ أحشاءَها
فتُسَدِّدُ نظرَتَها للمُحالِ..
تتَعالَى تُحَلِّقُ مثلَ الشموسِ التى

أفلَتَتْ من مَداراتِها..

يصبحُ الأفقُ مِلْكًا لها..

والنجومُ مناراتِها..

والخلودُ احتِمالْ..

عندَها تأخُذُ الكبرياءُ..

التى قتَلَتْ جوعَها..

تتَمَدَّدُ … تنسَى..

ترابَ السهولِ..

اخْضِرارَ الحقول

انْبِساطَ الرِّمالْ

والمتأمل فى حديثه عن النسور، يستطيع أن يربط ذلك بحياة البشر الأحرار المتطلعين إلى المثل العليا، الطموحين فى تحقيق الذات، فى نزاهة وعزة وكرامة كالنسور الحرة الطليقة التى تعشق الحياة، وتسبح فى الفضاء، وتراقب مواقعها التى انطلقت منها، فى سكنها بأعالى الجبال، ولا تلقى بالًا للجوع الذى يؤلمها، ويحرق أحشاءها، فلا يشغلها إلا التطلع إلى المثل العليا والآمال البعيدة صعبة المنال، وربما السعى فى تحقيق المستحيلات، ويقرنها بـ«الشمس»، التى تحررت من مداراتها، فسلكت فى الفضاء على اتساعه، وبذلك فهى تسعى للبحث عن الخلود والكبرياء، متذكرة فى الوقت نفسه الجبال وما حولها من خضرة وزروع ومياه جارية متدفقة، يسكنها الخاملون القانعون الراضون بما يحصلون عليه، من شربة ماء وكسرة خبز، مثل «الأرانب» التى تقفز بين الأعشاب، وتختبئ طوال الوقت بعيدة عن الأنظار، تاركة الطموح والتطلع إلى ما هو أفضل؛ فالنسور منجذبة إلى أعلى، وكأنها تريد الإفلات من قوانين الجاذبية الأرضية؛ كى تحيا حرة طليقة، طوال الوقت، وعلى عكسها «الأرانب» المشدودة إلى الأرض وباطنها، الباحثة عن الاحتماء والاختباء بداخلها، لا تريد أن تخرج من أنفاقها، مفضلة الحياة فى الظلام الدامس حتى لا تتعرض لمكروه؛ ظنًا منها أنها فى أمان واستقرار بين تراب السهول وخضرة الحقول وامتداد الرمال، وهى فى الحقيقة فى انتظار مصيرها المدجج بالموت، تأكل الأعشاب، فى خوف وترقب، وتفر مسرعة إلى جحورها، عند الشعور بالخوف وعدم الأمان، كل منها يعرف النهاية؛ فالنسور، مثلًا، تعلم أن نهايتها شريفة مشرفة، ورغم كثرة المكائد والمكر للقضاء عليها، فإنها صامدة جريئة مقبلة غير مدبرة، لا تعبأ بما هو قادم، معتزة بنفسها، لا يغريها اخضرار السهول وخيراتها، ساعية إلى القمة والكمال، ولا تقول إن الوصول إلى الكمال أو الاقتراب منه محال؛ إذ يقول:

فى المضيقِ العميقِ الأرانبُ..
قابعةٌ فى انتظارِ المصيرِ المدَجَّجِ بالموتِ..
تأكلُ أعشابَها بالفِرارِ..
إلى الجُحْرِ..
ترجُفُ بالخَوْفِ بينَ الظلالْ..
النسورُ الطليقةُ فى الأفقِ..
تعرفُ مصرَعَها..
والعيونَ التى تتَرَصَّدُها..
والنِّصالَ التى تتعاقَبُ..
خلفَ النِّصالْ..
النُّسورُ الطليقةُ فى الأفقِ
تَرْفَعُ هاماتِهاَ وتحلِّقُ..
تَعْلُو وتخْفقُ بالزَّهو..
لا تتذكَّرُ خُضْرَ السُّهولِ..
بخْيراتِها.. تتعقَّبُ..
وَرْدَ الذُّرا..
فى الفضاءِ السحيقِ..
وحُلْمَ الكمَالْ..

وقد امتاز شعر إبراهيم أبوسنة، وهو من أبرز شعراء جيل الستينيات، ومدرسته الواقعية بملامح، عدت من باب التجديد فى الشعر؛ فمنها على سبيل المثال لا الحصر: وضع عنوان للشعر، واختيارات جديدة واقعية معاصرة من حياة الإنسان، والاعتماد على التفعيلة، والسطر الشعرى، دون الالتزام بعدد معين من التفعيلات، فى نطاق البيت الشعرى الواحد، وكذلك عدم الالتزام- غالبًا- والتقيد بقافية موحدة، والاعتماد على رسم صورة كلية للقصيدة، ومن ثم الاعتماد على الوحدة العضوية، بالإضافة إلى استخدام الرمز وتنويعاته المختلفة «النسور»، و«الأرانب».

جدير بالذكر أن المدرسة الواقعية التى ينتمى إليها شاعرنا الراحل، هى إحدى المدارس الأدبية والمذاهب الأوروبية التى تأثر بها الأدب العربى الحديث، التى تستمد عناصرها من الطبيعة، وتتمرد على النماذج الكلاسيكية؛ ولذا امتازت هذه المدرسة بالتركيز على الواقع، وتصويره بصدق، معتمدة على اتجاهات الواقعيات الأخرى: النقدية، والطبيعية، والاشتراكية، وهى فى الوقت ذاته مناقضة للمدرسة الرومانسية التى نزعت إلى الخيال، والأحلام، والهروب من الواقع، والابتعاد عن قضايا الإنسان المعاصرة وهمومه، والاتجاه إلى عالم متخيل غير واقعى، وربما هذا هو سبب نزوع المدرسة الواقعية إلى النثر، وتفضيله على الشعر، والاعتماد على اللغة السهلة القريبة من الواقع، والتعبير عن الإنسان وقضاياه، والغوص فى أعماق النفس البشرية وعللها وأسبابها، وربط العاطفة به.

وللراحل اثنا عشر ديوانًا شعريًا، مثل: ديوان «قلبى وغازلة الثوب الأزرق»، وديوان «أجراس المساء»، ومسرحيتان شعريتان: «حمزة العرب»، و«حصار القلعة»، وعشر دراسات أدبية، وصياغة شعرية لمائة قصيدة من الشعر الأرمنى عبر العصور، وترجمت العديد من أشعاره إلى لغات أجنبية مختلفة، منها: الإنجليزية، والفرنسية، والروسية، والإسبانية، والإيطالية، والألمانية.. إلخ. وقد حصل على عدة جوائز، منها جائزة أحمد شوقى الدولية من النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر، وآخر جائزة حصل عليها جائزة النيل فى الآداب 2024، وهو عضو لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة منذ عام 1980، كما أنه عضو مؤسس باتحاد الكتاب المصريين. رحم الله ابن مصر البار، النسر الذى حلق فى الفضاء، وأسكنه فسيح جناته.