الناقد د. أيمن صابر يكتب: التماسك الأسرى فى رواية «الوتد»
كان من الطبيعى جدًا، أن ينبهر كل باحث عن القيم والمبادئ والأخلاقيات، بشخصية الحاجة فاطمة تعلبة، ربما ذلك عائد إلى افتقادنا هذا الجانب الذى تزداد الحاجة إليه، فى ظل تغليب الحياة المادية على الجوانب المعنوية، حتى انتشرت بين الناس مقولة: «معاك كام تسوى كام»، ولكن مع مرور الوقت يدرك المرء منا، أن المال مهم، والأخلاق والقيم أيضًا مهمة، ولا يمكن أن تندثر أو تختفى أو تستبعد من حياتنا.
شخصية «الحاجة فاطمة تعلبة» جمعت بين كل هذه الأمور؛ فهى بجانب حفاظها على القيم والمبادئ والأخلاق، والتزامها بالعادات والتقاليد، صنعت جيلًا يملك أراضى زراعية، ومواشى كثيرة، وأموالًا طائلة؛ فلم تغفل جانبًا على حساب آخر؛ وقد كشفت بنفسها عن كيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه قائلة: «كنتم تلوموننى وتنحلون وبرى بينكم وبين أنفسكم.. وتتهموننى بادخار عرقكم فى دولابى.. وإننى لا أصرف عليكم إلا بحساب شديد.. وربما كان ذلك صحيحًا.. ولكنكم الآن، تملكون عشرين فدانًا، كلها من حسن تدبيرى وشطارتى.. وفوق هذا تملكون ما هو أهم، تملكون جماعتكم، تملكون كنزًا كبيرًا هو كونكم جماعة يغلق عليكم باب واحد، ويرعاكم قلب واحد، مثلما الرب واحد، وطالما أنتم هكذا تكفيكم اللقمة، ولو كانت كسرة، والهدمة ولو كانت واحدة...». ولكن كل ذلك يتم فى جو من السيطرة الحاكمة، والالتزام بقواعد وقوانين سنتها بنفسها، وجعلتها ميثاقًا بين أفراد الأسرة، وغير مسموح لأحد، أيًا ما كان أن يخرج على هذا النهج، وإلا يتعرض لغضبها، وربما إخراجه هو فقط من بيتها؛ فهى من ربت وأطعمت وكبّرت وزوّجت، وكذلك يتعرض لعقاب الأخ الأكبر الحاج درويش، بوصفه السلطة الثانية، فى البيت، بعدها، ويدها الباطشة فى إرساء قواعد التأديب والتهذيب والعقاب.
وهناك ملمح مهم فى شخصية الحاجة تعلبة، الذى انعكس على حياتهم الأسرية بالإيجاب، وهو العزيمة وقوة الإرادة والطموح؛ سواء لتحقيق أهداف خاصة بها أو بأولادها، رغبة فى الوصول بأسرتها إلى القمة، وإثباتًا لذاتها؛ فقد تحملت المسئولية فى سن مبكرة، واقترنت بالعكايشة، وهذا بالنسبة لعائلتها المتواضعة شرف كبير، وربما هذا ما جعلها فى صراع مع نفسها، فى محاولة دائمة لتصحيح نظرة العكايشة لها ولعائلتها؛ ومحاولة إجبارهم على الاعتراف بأن الزواج منها هو الخير كل الخير، ليس هذا فحسب، بل حاولت جاهدة الإضافة إليهم، والرفعة من شأنهم، فتحكى عن هذا قائلة: «لقد دخلت هذه الدار وهى مجرد حيطان.. ولم يكن أبوكم يملك أكثر من ثلاثة أفدنة هى كل نصيبه من تركة جدكم.. العكايشة طول عمرهم هبل.. كانوا لا يوافقون على زواج أبيكم منى.. وكنت وحيدة أبوى.. ومات أبى وأنا طفلة، فكان علىّ أن أقوم بالسهر على فدانين.. ولم أكن فلاحة.. فزرعتها أشجارًا وخضروات.. وقال جدكم لأبيكم تتزوج بنت أرملة ولا عائلة لها؟.. وقد غاظتنى هذه الكلمة.. وكنت أنوى معاتبته بشدة وقسوة.. لولا أن الله رحمه منى وافتكره قبل أن أدخل بأبيكم.. وقد سامحته..فقد كان صادقًا.. فمن يجىء بالعكايشة بجلالة قدرهم للثعالبة الغلابة؟»، وهو ما يؤكد أن تعلبة كانت على قدر كبير من الفطنة والذكاء، وأنها قبلت تحدى إثبات الوجود، منذ الصغر، فكان النجاح حليفها.
ومن عوامل النجاح الأسرى حرص الحاجة تعلبة على عدم تخلف أحد عن أداء دوره، بنظام وإتقان، دون كسل أو إهمال؛ فهى كتلة نشاط، ولا علاقة لها بالمتكاسلين، ولا بالتماس الأعذار، «وهى أم وماشية ما بتكل، لا عمرها بتشكى ولا بتمل، ماشية فى عز الشمس.. فى حضنها ولادها.. فيه الضعيف بيضل»، فحين تنتقد أبناءها وزوجاتهم، كانت تعول على هذا قائلة: «أليست تعرف أن اليوم يومها فى كنس الدار، وهذا الولد الشملول أليس الدور عليه ليسرح بالبهائم؟ وهذا الطويل الهايف أبونبوت ولاسة، هل نسى أنه المكلف بانتظار المياه فى الترعة الشرقانة؟، وهذا العيان بكيفه أليست وراءه ساقية سوف تدور فى الحوض الجديد؟.. فليدر عليكم الزمن جميعًا ويدوخكم طول حياتكم يا أبناء بطنى لتكن هذه نومتكم الأخيرة بإذن الله..»، وقد تعود أهل بيتها على مناكفتها، والاستماع إلى أوامرها طوال الوقت، ولم يتوقف هذا إلا بمرضها، وهو ما أصاب الجميع بالصدمة، فكما يقولون «القط لا يحب إلا خناقه».
ومن الأمور التى قد تبدو غريبة فى شخصية الحاجة تعلبة، علاقتها بالمرأة داخل محيط أسرتها، وخوفها عليها وحرصها على أن تكون فى أحسن صورة، فهى تدرك أن نجاح البيت تابع لنجاح المرأة، ولها دور كبير فى تحقيق هذه النتائج الإيجابية؛ ولذلك قد تبدو علاقتها مع زوجات أولادها غير سوية، فى بعض الأحيان، ولكن القائد الناجح الذى يسعى إلى القمة، ليس لديه وقت لتحسين صورته أمام الآخرين، وتبرير أفعاله طوال الوقت؛ فهو المسئول وعليه تقع التبعية، ويظهر ذلك من خلال بعض أقوالها المتمثلة من مثل: «هل من طبعنا أن تركبنا نسوان الدار؟ هل خلفت رجلًا لينام فى حضن امرأة؟»، أو تعودها على أن تقوم زوجة ابنها الكبير بدعك رجلها، ولا ندرى أكان ذلك بدافع التعب فقط أم أنه رسالة ضمنية منها لمن فى البيت، بدافع السمع والطاعة وعدم التمرد؟: «أمال بنت أم صفيحة مجاتش لى عشان تدعك لى رجلى»، أو حين ينهر «طاهر» زوجته «بهانة»، وأنها بخفتها وعدم تحشمها فى اللبس قد تتعرض للمعاكسة، وعلى الرغم من أنها توضح له فى حضور الحاج درويش أنه لا يجرؤ أحد على معاكسة امرأة متزوجة من ابن الحاجة تعلبة وأخو الحاج درويش، فإنها حين تنفعل عليها تسبها صائحة: «آه يا مرة ياللى معندكيش خشا ولا وقار.. ياللى عمرك ما تعرفى الحشمة..يا صفرة يا مسلوعة.. يا ريتنى كنت صدغت وشك بالشبشب بدال ما ألبسك طرحة الفرح»، وكذلك حديثها عن العفة والطهارة مع «هانم» زوجة ابنها «صادق» الذى يجوب الأسواق ويتحمل الشقاء، عاقدة مقارنة بين التى تحفظ زوجها فى غيابه وبين النساء اللاتى انتهزن فرصة غياب أزواجهن فسرن على حل شعرهن، وافتضح أمرهن بين الناس، وكيف عوض الله الرجال الشقيانين بالنساء الصالحات العفيفات، على حين وقعت النساء السيئات فى شرور أعمالهن، وانقلبت أحوالهن. وهى بذلك تجعل من المرأة محورًا أساسيًا من عوامل نجاح الأسرة واستقرارها وتماسكها.
إن تماسك الأسرة وترابطها، وجعلها لُحمة واحدة، وجسدًا واحدًا، لا يكون سهلًا إلا فى وجود قيادة حكيمة وواعية تمتلك الإرادة والقوة والعزيمة والطموح والتوجيه والتعديل وحسن التدبير والتخطيط، وإيثار غيرها على نفسها.
نحن لا نرتد إلى الخلف كلية، ولا نطالب بمحاكاة الشخصية وتقليدها، فى كل شىء؛ فالزمان قد تغير، والمكان قد تبدل، والظروف قد تحولت، وصارت فى اتجاهات مختلفة، ولكن نريد العودة إلى الأصل والقيم والمبادئ والأخلاق، ولتكن «فاطمة تعلبة» مواكبة للقرن الحادى والعشرين، ولديها مقومات حديثة، متسلحة بالعلم والتكنولوجيا والنظريات التربوية، تجيد اللغات، وتتقن الكلمات، ولها باع فى الاختراعات، ومواكبة التطورات، كل هذا وذاك بشرط يعضد من التماسك الأسرى، والمرأة إذا أرادت خططت ونجحت؛» فهنيئا للشخصية المصرية العظيمة بفاطمة تعلبة، وبناتها، وحفيداتها. «ولسة فوق نفس الطريق بتمد وتخطى.. وكل من له فيها شىء بحنانها متغطى.. مهما السنين عدت هوا وشابت.. لساها جوه الأرض عود ثابت، مرفوعة راسها لفوق.. ولا عمرها توطى».