دكتور أيمن صابر يكتب: عبقرية الشخصية المصرية فى رواية "الوتد"
حين يقرأ القارئ، أو يستمع المستمع إلى أحد الأشخاص ينطق باسم «فاطمة تعلبة»، يتجه الذهن كلية، ودون تفكير إلى رائعة الكاتب المصرى الكبير خيرى شلبى «الوتد»، وهى إحدى القصص الأربع (الوتد، المنخل الحرير، العتقى، أيام الخزنة)، وسواء تعارف على هذه الشخصية من خلال قراءة الرواية أو مشاهدة مسلسل «الوتد» التى تدور أحداثها فى إحدى قرى الريف المصرى (قرية شباس عمير، مركز قلين، كفرالشيخ)، وما تتضمنه من بيوت وغيطان وطرقات ودكاكين، وأماكن للزرع، وأخرى للرعى... وقد جُسدت الشخصية الرئيسية الريفية الفريدة فى «الحاجة فاطمة تعلبة»، والتى كانت تعيش فى هذه القرية مع زوجها، أحد أفراد عائلة «العكايشة»، ولديها بنون وبنات، وعددهم سبعة، وكثرة الإنجاب فى الريف مكون من مكونات الفكر الأساسى عندهم؛ فهم العزوة والفخر والتباهى، يمثلون الشخصيات الثانوية (الراوى، درويش، عبدالباقى، الشيخ طلبة، صادق، طاهر، بهية، بسيمة، بهانة، سكينة، سميحة، مريم، زينب، هانم، عزيزة)، وتظهر فاطمة تعلبة فى شخصيات متعددة، تنطوى على مظاهر أمومة أكثر من التجسيد الأنثوى، فى صرامة طبيعية تقتضيها البيئة والظروف التى تعيش فيها، وتلتزم فى بيئتها بالضوابط الأخلاقية، والاجتماعية، وعدم مخالفة النظام العام الذى تفرضه الأعراف والتقاليد، على الرغم من أنها عقلية مختلفة ومتميزة فى آن واحد، بداية أنها كانت سببًا فاعلًا فى زيادة مساحات ملكية الأراضى الزراعية لعائلتها، وكذلك زيادة عدد المواشى وكثرتها، ونقلهم إلى حالة اقتصادية عالية، منحتهم هيبة واحترامًا بين كبار أهل القرية، ألم تصنع هى بنفسها شخصية ابنها الكبير «الحاج درويش»، وتجعله يتقدم الصفوف، وصاحب كلمة مسموعة داخل محيط الأسرة وخارجها، إلا أنه فى الوقت ذاته لا يجرؤ أن يرفع عينيه فى أمه «الحاجة فاطمة تعلبة»، ولا يتخذ قرارًا إلا بعد مراجعتها، ولأنها تعلم أهمية أن يظل ابنها مهيب الجانب، ما كانت تكسر شوكته أمام أبنائها أو أمام الناس، فكل منهما يستمد قوته وبقاءه من الآخر، وإن كانت هى الجذر الذى تتفرع عنه السيقان والأغصان والأوراق، خاصة فى ظل غياب أو تلاشى دور الزوج/ الأب، وإحلال الابن الأكبر محله، دون حدوث أى مشكلات بينهم، وربما هذا هو سبب تسمية الرواية بـ«الوتد»؛ فهى - داخل نطاق الأسرة- الزوجة والأم والحماة والمسئولة مسئولية كاملة عن الكبير والصغير، وفى كل شخصية يحالفها النجاح والتوفيق، فهى المفكر والمدبر وصاحبة المشورة، ولها الكلمة العليا بين أهل القرية، والمنظم للأمور المهمة مثل الانتخابات، وأهل ثقة لكل من حولها، شخصية أصيلة من طين هذه الأرض المصرية التى تضرب بجذورها فى أعماق الأعماق، مقرونة بالدين الحاضر فى المجال العام والمتجسد فى الممارسات الحياتية اليومية كسلوك مقبول متعارف عليه، دون تشدد أو تطرف، فدائمًا ما يرد فى الرواية القيام بأى عمل بعد صلاة الفجر، والنوم مبكرًا، بعد صلاة العشاء، وعدم السهر أو التأخر خارج البيت، أو حتى السهر داخل البيت للفجر، وهى المُحافِظة على نسيج الأسرة المصرية وتماسكها وتلاحمها كالجسد الواحد؛ ولذا ظهرت العقدة فى التحولات والتغييرات، فى أربعينيات القرن الماضى، التى شهدها المجتمع المصرى، فى الريف المصرى (عصر فاطمة تعلبة، وعصر ما بعد فاطمة تعلبة- إن جاز التعبير).
ومن ملامح عصر «فاطمة تعلبة» المحافظة على هذه العائلة وقوانينها، فعندما أراد عبدالعزيز أن يكون له مقعد خاص به، انبرت توضح القانون الخاص الذى سنته لهم، وعليهم اتباعه قائلة:
«اسمع يا ولد... من لا تعجبه العيشة... من لا يعجبه العيش مع الحاجة فاطمة تعلبة فليرحل هو... فليخرج من الباب بطوله... وحده... حتى بدون ثيابه... حتى بدون ولاده... فأنا الذى ربيت، وأنا الذى زوجت، وأنا الذى أكسو وأطعم... والأولاد أولاد الدار قبل أن يكونوا أولاد أحد منكم.. ولا أفرط فى ظفر واحد منهم، ولا أفرط حتى فى ظفرك أنت أيها الشايب العايب... ولكن من أراد أن يفرط فى الدار... فخير للدار أن تفرط فيه... إنه يصبح كعود جف ولا بأس من رميه بعيدًا عن الحزمة الخضراء... الدار هى دار العكايشة، ولقد تعبت فى الإبقاء عليها مفتوحة متكاملة ذات قوة وهيبة... ولست مستعدة للتخلى عنها على آخر الزمن... ولست أطيق أن أسمع مجنونًا مثلك يقول هذا الكلام الخائب العبيط... إن قتلك أهون عندى من سماع هذا اللغو...وأحس «عمى عبدالعزيز» بالإهانة، فحاول التمرد والخلاص من يديها بشىء من الخشونة لم تعهدها من قبل... واختطفت العصا من عمى درويش تريد أن تشج بها رأس «عمى عبدالعزيز» وظلت شهورًا لا تكلمه ولا يكلمها...».
ومن اللحظات الفارقة فى الرواية، لحظة مرض «الحاجة تعلبة»؛ نتيجة وعكة صحية ألمّت بها، وهى السيدة الصلبة التى لا تعرف التعب والشكوى ولا يعرف التعب لها بابًا، شعلة النشاط والحيوية، رغم تقدمها فى السن، وما كان أحد من أفراد أسرتها يخطر له على بال أن تمرض «الحاجة فاطمة تعلبة»، أيبرك الجمل؟ أينكسر عمود الخيمة؟ «ومهما تقوى الريح مش سهل تكسرها، ما دامت عفية وقادرة ع الأيام هتمشى مشوارها»، فلديها قوة شخصية جعلت المحيطين بها يرونها أقوى من الزمن، وأقوى من الظروف، وأقوى من الآثار الطبيعية لتقدم السن والأمراض؛ فهى أول من تصحو، وتوقظ كل من فى البيت، وتطلب من كل منهم أن يؤدى ما عليه من أعمال، فجأة يصاب البيت بحالة من الشلل، تتوقف الحركة، الحدث جلل، والحزن يخيم على بيت «الحاجة تعلبة»، الكل فى حالة ذهول، ولا أحد مستعد لسماع خبر سيئ، فنهايتها نهاية للجميع، ولما لم يجد درويش أى أمل سافر إلى دسوق ليحضر طبيبًا شهيرًا اسمه «ألبير فهمى» ولما سأله بعد الكشف قال: «مفيش داعى للغرامة... حنكتب علاج بس مفيش فايدة»، فرد عليه، ودموعه تغالبه: «يعنى مفيش فايدة»، قال الحكيم: «ربنا يريحها أحسن... خلاص... المسألة مسألة وقت... يعنى أيام معدودة»، وفى ظل هذه الحالة التى يصعب وصفها، ويقوم الحاج درويش بالاستعداد والتجهيز لما بعد مرضها؛ فيشترى أثواب الكفن من أجود الأنواع وأغلاها، ويجهز المقبرة، ويجهزها كأنها ضريح لأحد الأولياء الصالحين، فهذا القبر سيضم أمه «الحاجة فاطمة تعلبة»، والزائرون لا ينقطعون عن زيارتها، ولما عاد بعدما اطمأن إلى كل هذه الاستعدادات، ودخل غرفتها، وراح يقلبها، ويحاول محادثتها دون جدوى، دخل غرفته ونام، ولكن النوم طال، وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها، وشاءت الأقدار أن يرحل قبل رحيل أمه المريضة ثم هى تلحق به، وتنتهى رحلتها مع الحياة، مخلفة وراءها ذكريات لا تنسى سرجها لنا الراوى.
ولا شك أن شخصية «الحاجة فاطمة تعلبة»، شخصية متكررة فى الحياة المصرية، وإن اختلفت فى بعض الأمور؛ فمصر ولادة، وعبقرية شخصياتها لا تنتهى، ولن تتوقف ما دامت الحياة باقية.