التاريخ ينبض بالحياة.. "راكوتيس" تسترجع عظمة الإسكندرية البطلمية
في زمن تغلفه الأسطورة، ويمتزج فيه العلم والسحر، عادت الإسكندرية إلى أوج العصر البطلمي، حيث كانت المدينة تاج البحر الأبيض المتوسط، تزخر بالفكر والفن، ويمتد وهجها إلى قلوب العلماء والمبدعين من كل مكان.
ومع بزوغ شمس جديدة على الإسكندرية، ارتفعت حماسة غير عادية في أروقة الفن والثقافة؛ فقد قررت مجموعة من الفنانين والمثقفين والمترجمين والصحفيين أن تخوض تجربة فريدة، تتيح لهم الغوص في أعماق الزمن البطلمي، حين كانت الإسكندرية في ذروة مجدها.
استلهموا روح الماضي، فأحيت بين أيديهم ملامح مدينة كانت حينها ملتقىً للعلماء والمفكرين من مختلف أرجاء العالم، مدينة تعج بالمكتبات والمسارح وأسرار الحضارة؛ ليخوضوا رحلة خيالية تأخذهم إلى قلب تلك الحقبة التاريخية.
"راكوتيس".. أصداء الماضي تحيا من جديد
في أجواء مفعمة بالحماس، قررت المجموعة أن تسُلك أغوار الزمن، تخيلوا أنفسهم يعيشون في الإسكندرية القديمة، في زمن كان فيه بطليموس الأول يضع أساسات المجد، وتهدر قاعات المسرح الكبير بأصداء فنون خالدة، أخذتهم الفكرة إلى أبعد من مجرد محاكاة للماضي؛ لقد أرادوا أن يستشعروا الحياة وكأنهم هناك، في قلب التاريخ، يكتبون، يرسمون، ويستمعون إلى همس العلماء والفنانين العظماء.
بدت المجلة التذكارية "راكوتيس" وكأنها بوابة عبور إلى ذلك العصر الغابر، بين صفحاتها عاد القراء إلى زمن تأسيس البطالمة لمدينة عظيمة، زمن كانت فيه الإسكندرية تكتب تاريخها الذهبي، من بين الصفحات، تتراقص أسماء علماء مكتبة الإسكندرية الملكية، مثل الطبيب هيروفوليس الذي قيل إنه أول من اكتشف أن المخ هو مركز المشاعر، والعالم إراتوستينس، الذي وقف على سر كروية الأرض وحساب محيطها بدقة مذهلة عن طريق المسافة بين الإسكندرية وأسوان.
تضمن العدد التذكاري من المجلة عناوين كبرى تجذب العقول وتلامس الخيال: "انتصار البطالمة في معركة رافيا"، "مراسم تتويج بطليموس الأول سوتر"، و"العادات والتقاليد البطلمية"، وغيرها من المواضيع التي ربطت الماضي بالحاضر برؤية معاصرة.
لكن الأمر لم يقف عند سرد الأحداث التاريخية، بل تضمن العدد زاوية فريدة بعنوان "بريد القراء"، حيث تمت إعادة صياغة رسائل تاريخية حقيقية بين مواطني الإسكندرية القديمة، وكأنها تأتي من قراء معاصرين، لتُضفي سحر الحميمية على الزمن البعيد، وتفتح نافذة على نبض المجتمع البطلمي.
وسط طموح يستحضر عبق الماضي، تحدث إسلام كمال، المدير الفني لمشروع "راكوتيس"، عن المطبوعة التي تهدف إلى وصل الحاضر بجذور الإسكندرية القديمة، وأوضح قائلًا: "ركزنا على العصر البطلمي، لنكسر الصورة النمطية التي تضع التاريخ خلف حجاب من التعقيد الأكاديمي، التاريخ ليس ماضيًا بعيدًا؛ بل نحن امتداد لأولئك الذين عاشوا هنا قبل قرون."
جمع المشروع فريقًا من الفنانين والمخرجين والمصورين، حيث أثارت فكرة إحياء "التراث السكندري" شغف الجميع، واتفق المشاركون على إنتاج مطبوعة تعيد تشكيل صورة الإسكندرية اليوم، وتستعيد حيويتها الثقافية والاجتماعية، التي لا تزال آثارها تتردد في شوارع المدينة حتى الآن.
وعن هذا التعاون الفني، علق إدريس حفني، المدير التنفيذي للتجربة، قائلًا: "نحن 14 فنانًا وكاتبًا ومترجمًا، قررنا أن نروي حكاية الإسكندرية في عصورها الذهبية، حينما كانت منارة العالم." وأضاف أنهم قاموا برحلة عبر الزمن إلى العصر البطلمي، متجاوزين الزمن التقليدي للإسكندرية الحديثة، ليعيشوا تفاصيل الحياة اليومية في أزقتها ومعابدها ومكتباتها، حيث سافروا عبر مراجع تاريخية وأبحاث مكتبة الإسكندرية، وغاصوا في أعماق الماضي عبر زيارات إلى المتحف اليوناني الروماني.
وتابع حفني قائلًا: "خلال رحلتنا، تخيلنا إطلاق عدد تذكاري لمجلة "راكوتيس" بمناسبة مرور 300 عام على تأسيس الإسكندرية، يحوي مقالات وأعمالًا فنية تعكس تأثير العصر البطلمي على الفن والثقافة، أردنا أن يلامس القارئ هذا العصر العريق بنظرة جديدة."
وتحدث سرحان سنارة، صحفي مشارك في "راكوتيس"، عن عمق التجربة قائلًا: "عشنا مغامرة زمنية حقيقية، وكان لنا الشرف أن نكتب عن الإسكندرية التي ولدت عظيمة. مشروع "راكوتيس" لا يعكس تاريخ المدينة فحسب، بل هو بوابة لحاضر يجدد الإرث الثقافي، ضمن فعاليات أسبوع التراث الذي ينظمه المركز الثقافي الفرنسي بالإسكندرية."
ويُذكر أن اسم "راكوتيس" -أو "راقودة" باليونانية- كان الاسم القديم لمدينة الإسكندرية قبل أن يُعيد الإسكندر الأكبر بناءها في عام 332 قبل الميلاد.
أما محمد البدري، صحفي مشارك في "راكوتيس"، فقد سلط الضوء على الفكرة الأصلية للمشروع قائلًا: "انطلقت فكرتنا من مجموعة من الفنانين والصحفيين الذين قرروا العودة إلى العصر البطلمي بخيالهم، حيث كانت الإسكندرية مركزًا للفن والعلم والثقافة، ملتقى للعلماء والمبدعين، فقررنا أن نستحضر تلك الحياة التي ازدهرت بالمكتبات والمسارح والمعابد، ليشعر القارئ بعمق الجذور التي نستظل بظلها حتى اليوم".
"The Cadre Factory" تتعاون لإحياء التراث السكندري
وراء هذه العودة الساحرة إلى زمن البطالمة، يقف مشروع "راكوتيس" كجزء من الدورة الخامسة عشرة لأيام التراث السكندري، برعاية مركز الدراسات السكندرية، وبدعم من المعهد الفرنسي والقنصلية العامة الفرنسية، كان الهدف الأسمى هو إحياء ذكرى تلك الحقبة الذهبية، عبر معارض وفعاليات وورش إبداعية تلتقي فيها العقول التي تشكل امتدادًا لتاريخ المدينة الحي.
وسط الحضور، تناثرت الحوارات والملاحظات، العيون تتألق برؤية الإسكندرية كما لم تُرَ من قبل، والقلوب تنبض بذكريات لم يعيشها الجيل الحالي، لكنها تجسدت أمامهم في صفحات "راكوتيس" كأنها طيف من الماضي يعود ليحيا.
في نهاية هذه الرحلة عبر الزمن، وقف الجميع تحت سماء الإسكندرية المعاصرة، وهم يحملون بين أيديهم تذكارًا من زمن البطالمة، لحظة توقظ في النفوس شعورًا بأن التراث ليس مجرد ذكرى، بل هو قصة تتجدد وتُروى لكل جيل.
مروة عبد الجواد المنسق الإعلامي لفعاليات أيام التراث السكندري، أوضحت أن النسخة الخامسة عشر شملت تنظيم 34 فعالية متنوعة تجمع عناصر متعددة من التراث، وذلك عبر مجموعة من المحاضرات والزيارات والمعارض والفعاليات التي تلقي الضوء على التراث السكندري.
تكون فريق العمل من 14 فردا شملوا كُتابا منهم: "رولا عادل رشوان، هند جعفر، منة الله المشيرفي، مروة إسماعيل، أحمد عادل، سرحان سنارة، محمد البدري"
وشارك أيضا فنانون منهم: “محمد صبري، محمد وهبة، عمر بدران، شروق رأفت، نورهان عبد اللطيف”، وكان المدير الفني: إسلام كمال، والمدير التنفيذي: إدريس حفني.