رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا مساومة أو تفريط... قانونيًا ودبلوماسيًا وأمنيًا.. كيف تحولت ثوابت مصر إلى كابوس لإسرائيل؟

معبر رفح
معبر رفح

منذ بداية الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة قبل أكثر من عام، وبعد أحداث ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، أظهرت المواقف المصرية ثباتًا على المبدأ، وحزمًا واضحًا على كل المستويات، الدبلوماسية والقانونية والأمنية، تجاه الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة بحق الفلسطينيين، وهو ما ظهرت دلائله فى كل الميادين، سواء فى الاتصالات المباشرة بين الجانبين أو فى العلاقات على الساحة الدولية وأيضًا فى دهاليز الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. 

ومع استمرار الحرب الإسرائيلية الغاشمة على قطاع غزة، وصلت العلاقات بين مصر وإسرائيل إلى مستوى هو الأدنى منذ عدة عقود، ما جعل السلام بين الجانبين، الذى يوصف عادة بأنه «بارد»، أكثر برودة بكثير، وفى ظل فقدان الثقة فى القيادة الإسرائيلية الحالية، ينذر الأمر بمزيد من التدهور فى العلاقات، الأمر الذى يمثل- حسب رأى العقلاء فى تل أبيب- «كابوسًا» لإسرائيل، فى ظل عدم القدرة على الاستغناء عن الدور المصرى فى اليوم التالى للحرب على غزة.

فضح ممارسات الاحتلال فى «العدل الدولية».. ودعم دعوى جنوب إفريقيا ضد الاحتلال

فى فبراير الماضى، أعلن مصدر مصرى رفيع المستوى عن أن مصر ستتقدم بمذكرتين لمحكمة العدل الدولية حول الممارسات الإسرائيلية فى الأراضى المحتلة، بعد أن شاركت فى الرأى الاستشارى الذى طلبته الجمعية العامة للأمم المتحدة من «العدل الدولية» حول الممارسات الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية منذ عام ١٩٦٧.

وبعدها، قدمت مصر مرافعتها فى جلسات علنية وتناولت التبعات القانونية الناشئة عن سياسات وممارسات إسرائيل فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وكشفت عن الانتهاكات الجسيمة والخطيرة التى ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلى ضد المدنيين الفلسطينيين داخل غزة.

وحينها، أعلن ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، عن أن المرافعة الشفهية المصرية تتضمن تأكيد اختصاص محكمة العدل الدولية بنظر الرأى الاستشارى، باعتبار الجمعية العامة للأمم المتحدة أحد الأجهزة المخولة، وفقًا لميثاق المنظمة، بطلب رأى استشارى من المحكمة، نظرًا لأن الأمر يتناول الأبعاد القانونية للمستوطنات الإسرائيلية غير المشروعة فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، المخالفة لمبادئ القانون الدولى وقرارات الشرعية الدولية.

وتضمنت المذكرة المصرية التأكيد على عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلى الذى دام لأكثر من ٧٥ عامًا، بالمخالفة لمبادئ القانون الدولى الإنسانى، وكذلك سياسات ضم الأراضى وهدم المنازل وطرد وترحيل وتهجير الفلسطينيين، بالمخالفة للقواعد الآمرة للقانون الدولى العام، ومنها حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى، وحظر الاستيلاء على الأراضى من خلال استعمال القوة المسلحة. 

وتضمنت المذكرة المصرية، أيضًا، رفض سياسات الاضطهاد والتمييز العنصرى وغيرها من الممارسات الإسرائيلية، التى تنتهك بشكل صارخ مبادئ القانون الدولى الإنسانى والقانون الدولى لحقوق الإنسان.

وطالبت بتأكيد مسئولية إسرائيل عن كل تلك الأفعال غير المشروعة دوليًا، بما يحتم انسحابها بشكل فورى من الأراضى الفلسطينية المحتلة، بما فى ذلك مدينة القدس، وتعويض الشعب الفلسطينى عن الأضرار التى لحقت به نتيجة تلك السياسات والممارسات غير المشروعة دوليًا، فضلًا عن مطالبة كل دول العالم والمجتمع الدولى بعدم الاعتراف بأى أثر قانونى للإجراءات الإسرائيلية، والكف عن توفير الدعم لإسرائيل، واضطلاع المنظمات الدولية والأمم المتحدة بمسئولياتها فى هذا الصدد.

وفى مايو الماضى، أعلنت مصر، فى بيان صادر عن وزارة الخارجية، عن اعتزامها التدخل رسميًا لدعم الدعوى التى رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية للنظر فى انتهاكات إسرائيل التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها فى قطاع غزة.

وأوضحت أن التقدم بإعلان التدخل فى الدعوى المشار إليها يأتى فى ظل تفاقم حدة ونطاق الاعتداءات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين فى قطاع غزة، والإمعان فى اقتراف ممارسات ممنهجة ضد أبناء الشعب الفلسطينى، من استهداف مباشر للمدنيين، وتدمير البنية التحتية فى القطاع، ودفع الفلسطينيين للنزوح والتهجير خارج أرضهم، ما أدى إلى خلق أزمة إنسانية غير مسبوقة، أدت إلى خلق ظروف غير قابلة للحياة فى قطاع غزة، فى انتهاك صارخ لأحكام القانون الدولى والقانون الدولى الإنسانى، واتفاقية جنيف الرابعة لعام ١٩٤٩ بشأن حماية الأشخاص المدنيين فى وقت الحرب.

وفى ذلك السياق، قال مسئول إسرائيلى كبير، حينها، إن الإخطار المصرى لـ«العدل الدولية» يعكس التدهور الذى وصلت إليه العلاقات بين البلدين، موضحًا أن الرسالة المصرية إلى لاهاى ليست هى ما يزعج تل أبيب، بل هى جزء من إشكالية كاملة لها عواقب على العلاقات بين الجانبين.

ووفقًا لمسئول إسرائيلى آخر، فإن «هذا شىء لم يحدث فى الماضى فى العلاقات مع مصر، وهذه خطوة صعبة، ومصر ستواصل الضغط سياسيًا، وهو أمر محزن ومقلق للغاية».

رفض تلقى اتصالات نتنياهو.. وجمود فى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين

لم يظهر الحزم المصرى فى التعامل مع الانتهاكات الإسرائيلية على الجانب القانونى فى الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية فقط، بل ظهر أيضًا فى المواقف الدبلوماسية والتعامل بين الجانبين.

وكشفت القناة الـ١٣ فى التليفزيون الإسرائيلى عن أن بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء دولة الاحتلال، حاول أكثر من مرة إجراء محادثات هاتفية مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، وهو ما رفضه الرئيس بحزم.

وحسب ما نشر خلال شهر يناير الماضى وبعده، فإن مجلس الأمن القومى الإسرائيلى حاول، بناء على طلب من نتنياهو، بدء المحادثة مع الرئيس السيسى، لكن القاهرة لم تستجب للطلب، خاصةً أن مصر عبّرت علنًا، وعبر قنوات رسمية، عن غضبها من التصريحات الإسرائيلية، ومزاعم إسرائيل بحاجتها إلى السيطرة على غزة ومحور فيلادلفيا، وأيضًا بسبب الافتراءات التى وجهها فريق الادعاء الإسرائيلى فى لاهاى إلى مصر بالمسئولية عن صعوبة إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع.

من ناحية أخرى، أكد مسئولون مصريون، فى تصريحات لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، فى وقت سابق، أن القاهرة تدرس بجدية تخفيض العلاقات مع إسرائيل، مع اتخاذ خطوة سحب السفراء، فى ظل الانتهاكات الإسرائيلية المتزايدة خلال حربها ضد غزة.

وأثارت هذه الخطوة مخاوف كبيرة فى أوساط داخل إسرائيل، خاصة مع الانقسام الواضح بين مواقف المستويين الأمنى والسياسى حول مستقبل غزة ووجود إسرائيل هناك بعد انتهاء الحرب، إذ تعانى الحكومة الإسرائيلية حاليًا من شلل فى استراتيجيتها، خاصة أن المستوى السياسى، بقيادة نتنياهو، لم يقدم أى صيغة واضحة لإنهاء الحرب حتى الآن، ما أدى إلى تفاقم الأزمة فى العلاقات.

وتشير تقديرات فى إسرائيل إلى أن تحرك مصر لدعم المواجهات القضائية فى المحافل الدولية، وسحب السفراء، واحتمالات تجميد اتفاقية السلام، يمثل «كابوسًا» لإسرائيل، وانتكاسة مؤسفة وكبرى فى العلاقات بين الجانبين.

وفى الإطار نفسه، أنهت أميرة أورون، سفير إسرائيل لدى القاهرة، مهامها وعادت إلى تل أبيب فى أواخر شهر أغسطس الماضى، بعد انتهاء المدة الرسمية لمهام منصبها، بينما لم تقرر مصر- حتى الآن- تسلم أوراق السفير الإسرائيلى الجديد أورى روثمان.

وكشفت قناة «i24NEWS» الإسرائيلية، فى شهر سبتمبر الماضى، عن أن السفير الإسرائيلى الجديد لم يحصل على موافقة مصر حتى الآن، وذلك فى ظل التوترات بين إسرائيل ومصر على خلفية المطالبة بإبقاء قوات الجيش الإسرائيلى على طول محور فيلادلفيا الحدودى بين مصر والقطاع، وهو ما رفضته القاهرة بشكل قاطع، مع التمسك بموقفها بانسحاب الجيش الإسرائيلى بالكامل منه.

وقال مصدر إسرائيلى مطلع على التفاصيل، لـ«i24NEWS»: «المصريون يمضون وقتًا بهدف معاقبتنا، ولم يتخذوا قرارًا بتسلم خطاب ترشيح السفير الإسرائيلى الجديد للمنصب».

لا تعاون فى إدارة معبر رفح.. وتمسك بالانسحاب الكامل من محور فيلادلفيا

فى مايو الماضى، قالت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية، إن مصر أوضحت للإدارة الأمريكية معارضتها القاطعة لسيطرة جيش الاحتلال على الجانب الفلسطينى من معبر رفح البرى، وبعد ثلاثة أيام من بدء الجيش الإسرائيلى عملياته العسكرية فى مدينة رفح الفلسطينية، طالبت مصر الإدارة الأمريكية بممارسة ضغوط على إسرائيل لإنهاء عملياتها والعودة إلى المفاوضات الجادة.

وحسب الصحيفة العبرية، حينها، فإن مصر فكرت فى تجميد اتفاقية السلام مع إسرائيل، بعد تشديدها على أن سلوك تل أبيب وتيار اليمين الإسرائيلى المتطرف والانتهاكات الواضحة فى قطاع غزة تهدد الاتفاقية، التى صمدت لنحو ٤٥ عامًا، مشيرة إلى أن أحدًا فى إسرائيل لم يتوقع أن تصل العلاقات مع مصر إلى هذه الدرجة من التوتر.

وأفادت بأن المحددات المصرية كانت واضحة فى الرد على تل أبيب، مؤكدة أن اتباع سياسة «حافة الهاوية» لن يجدِ نفعًا، بل سيعرض المنطقة لخطر كبير.

وفى الإطار نفسه، أعلنت مصر بشكل رسمى وعلنى، وحتى خلال جولات المباحثات، عن أنها لن تقبل بوجود القوات الإسرائيلية على الجانب الفلسطينى من معبر رفح البرى، وأن المعبر هو فلسطينى- مصرى خالص، متمسكة بموقفها بعدم التعاون مع إسرائيل فى إدارته، وتأكيدها ضرورة الانسحاب الكامل للاحتلال منه، وتسليمه إلى طرف فلسطينى. 

ومع ذلك، حاول الجانب الإسرائيلى التلاعب بطرح سيناريوهات للمشاركة فى إدارة المعبر، وهو ما ردت عليه مصر بأنه أمر غير قابل للتنفيذ، مجددةً تأكيدها أن معبر رفح «فلسطينى- مصرى» ولن تشهد إدارته أى تغيير.

وفى مقابل ذلك، حاولت إسرائيل المساومة بأن التعاون مع مصر فى فتح معبر رفح يقابله السماح بإعادة فتح معبر كرم أبوسالم لإدخال شاحنات المساعدات الإنسانية، فيما رفضت مصر بشكل قاطع هذه المساومة، وأكدت شرطها بالانسحاب الإسرائيلى الكامل من المعبر وتسليم إدارته للفلسطينيين.

وكذلك، تمسكت مصر بموقفها الخاص بانسحاب القوات الإسرائيلية إلى خارج محور صلاح الدين، «فيلادلفيا»، بالكامل، وهو ما أعلنته رسميًا عبر قنوات مختلفة، سواء عبر وزارة الخارجية أو الحكومة، أو حتى على مستوى الدبلوماسية الرئاسية، وشددت على أن موقفها راسخ تجاه هذا الأمر، وأنها لن تقبل بأى وجود إسرائيل تحت أى مسمى داخل نطاق المحور.

وفى ظل الخطوات المصرية القوية فى وجه إسرائيل، أكد كثيرون فى تل أبيب ضرورة تجنب استمرار تدهور العلاقات مع القاهرة، وأهمية الحفاظ على السلام القائم معها منذ أكثر من ٤٥ عامًا.

وأوضحت التقديرات الإسرائيلية أن العلاقات مع مصر حجر الزاوية لعلاقات إسرائيل داخل الشرق الأوسط، ولذا يجب على تل أبيب تجنب إثارة المشكلات مع القاهرة، لأن تدهور العلاقات معها قد يؤدى أيضًا إلى الإضرار بالعلاقات مع «الدول العربية المعتدلة».