الرَجُل
■ يوم ما.
لم يتزحزح.
ظل الرَجُل متجمدًّا فى مكانه لنصف ساعة أو يزيد، ولم يظهر الباص فى هذا اليوم. ربما أتى قبل موعده وانصرف مبكّرًا. لكنه لم يعرف ما حدث أبدًا.
■ يوم آخر.
لم يصل الرَجُل مكانه المعتاد فى موعده، فتوقّع أنه فقدَ الباص هذا الصباح، وبما أنه لم يكن مستعدًا لصراع مرورى غير مُتوقَع، أخذ يجر قدميه للأمام مرّة وللخلف مرّة. لكنه وجد الباص متوقفًا، فى انتظاره كما بدا، فتراجع عن التراجع.
صعد مستسلمًا، قد تدلّت ذراعاه على جانبيه، وتهدّلت أذناه حتى شعر بكِبرهما البالغ. جلس فوق مقعده صامتًا.
■ يوم متكرر.
إنه الموقع الأنسب لانتظار الباص، فمن المؤكد أنه سيعبر من هنا فى رحلته الصباحية الأولى.
خدعة بسيطة يمارسها الرَجُل، حتى يتلافى مفاجآت السائق متغير المزاج، يقف وسط التقاطع–المُطل على صينية الالتفاف الإجبارية- تمامًا.
الباص المقبل فى تباطؤ من يمين الشارع، يمنحه فرصة رؤيته من على بُعد مناسب. أشار للسائق، وهو منتصب فى الوسط تمامًا؛ فاضطر للتوقف.
ركاب هذا التوقيت الروتينى يعرفون بعضهم جيدًا، لكن لا أحد منهم يتحدث مع الآخر، أو ينظر فى عينيه، بل يمارس الجميع مراقبة الآخرين بنظرات جانبية مُكتَشِفة.
أربعة عشر راكبًا لا يُبدلون أماكن جلوسهم منذ الأزل، ورَجُلنا دومًا آخر الصاعدين.
ساعة كاملة تُؤكَل من يومه صباحًا، يستغرق خلالها فى تأملات عبثية، يراقب أرقام السيارات وحروفها، يصنع بينها علاقات رياضية، أو يخترع لكل راكب سواه، حياةً؛ تضعه دومًا بين زملاء طريق لا يعرفهم، ولا يعرفونه.
■ إنه اليوم المتكرر.
عيون الرُكاب متشابهة. لا أقصد من ناحية اللّون أو الاتساع والضيق، لكنها متشابهة فى هبوط الأجفان فوقها حتى المنتصف.
أذرعتهم متشابهة كذلك، كلها تتدلى فى استسلام وقت الصعود، ثم تتشابك فوق البطون- بعد الجلوس على المقاعد- لتُخفى شيئًا ما.
الرءوس وحدها تدور دورانات كاملة أو ناقصة، تبحث خلال ساعة الطريق المملّة، لكنّها لا تجد أبدًا ما تبحث عنه.
■ السائق.
نظراته نحو الركاب خلال مرآته الداخلية، غاضبة، منزعجة، تؤكد أنه يكره وجودهم.
ولا أحد منهم يُعيره اهتمامًا.