دهب وفضة
كان يا ما كان، فى سالف العصر والآوان، فى إحدى القرى الصغيرة والتى تتبع إمارة الشمس،
هناك حيث البيت الريفى الجميل بحديقته الغناء، تعيش أم وابنتها «فضة» مع «دهب» ابنة زوجها وشقيقة فضة من ناحية الأب. لم تكن حياة دهب سعيدة بأى حال، فقد تعمدت زوجة أبيها إذلالها، وكانت تكلفها بإنجاز كل المهام، التى تتعلق بالمنزل أو خارجه.
فى كل صباح يستيقظ الجميع، ولا أحد ينهض من سريره غير «دهب»، حيث يكون عليها إعداد الفطور لشقيقتها وزوجة أبيها، ثم تقوم بكنس ومسح البيت وكذلك غسل الصحون، وعليها أيضًا أن تروى الحديقة، وأخيرًا تحمل جرتها وتذهب لتملأها من البئر البعيدة هناك على أطراف القرية، وحيث يكون الغروب قد حان.
ذات مساء، وبعدما فرغت دهب من أعمال المنزل، حملت جرتها وتوجهت فى طريقها إلى البئر، وكانت تلقى السلام على كل من يقابلها فى الطريق، والجميع يردون تحيتها بكل مودة وحب، عندما وصلت دهب إلى البئر، كان المكان يبدو على غير عادته، وكأن شيئًا ما قد تغير، لكن دهب لا تعرف ما الذى تغير على وجه التحديد، أنزلت دهب جرتها من على رأسها ووضعتها فى البئر، وأخذت تدليها حتى وصلت إلى العمق، لكنها التفتت فجأة على أثر صوت يحادثها، ولم تكن صاحبة الصوت سوى امرأة عجوز تتكئ على عصاها، بادرت دهب العجوز قائلة: كيف أساعدك يا أمى؟، ابتسمت العجوز وقالت: أسعدك الله يا ابنتى.. نال العطش منى ولا يقوى ظهرى على الانحناء حتى أملأ جرتى من البئر، قالت دهب: أخدمك بعيونى يا أمى.
ثم رفعت جرتها وملأت كوبًا منها وأعطتها للعجوز لتشرب، ثم تناولت جرة العجوز وملأتها، وقالت لها: سأحملها عنك حتى تصلين لبيتك، شكرتها العجوز وقالت: ما أجملك يا ابنتى وما أحلى لسانك، ما اسمك يا صغيرتى؟ فأجابتها: اسمى دهب، قالت العجوز: يليق بك الاسم يا صغيرتى، وأحتار بعد جميلك معى بماذا أهديك؟، سأمنحك هدية تجعل كل من يلتقيك يهيم فيك وبكِ، وستصيرين كلما تفتحين شفتيك بالكلام يخرج من بينهما ورود وفراشات وألوان جميلة وعطر نادر وأنيق.
شكرت «دهب» العجوز على هديتها، وأثناء عودتها كان الباعة بالسوق يصفون بضاعاتهم ويغلقون محلاتهم، فبادرتها سيدة تبيع الخضر والفاكهة: مرحبًا دهب، ليس هذا موعد عودتك من البئر فلماذا تأخرت؟
قالت دهب: لقد التقيت سيدة عجوز وتأخرت معها بعض الوقت، كانت دهب تتحدث بينما تطير من بين شفتيها فراشات بأزهى الألوان وورود كثيرة خلابة ورائحة ذكية لم يسبق أن اشتمها أحد، والناس كأن على رءوسهم الطير، مسحورون بدهب ويتبعونها حتى وصلت إلى البيت.
كانت الأم تجلس بعصاتها الغليظة أمام باب المنزل، تنتظر دهب التى تأخرت كى تعاقبها، لكنها رأت كل أهل القرية يتبعون دهب وكأنها أميرة فى موكبها، فتظاهرت بالرضا مؤقتًا حتى يذهب الجميع، ثم انفردت بدهب واستجوبتها عن سر تأخرها، حكت دهب بكل صدق ما حدث لها، وهنا تفتق ذهن الأم عن حيلة تحاول من خلالها أن تحصل ابنتها فضة على ما حصلت عليه دهب، فى الصباح طلبت الأم من فضة أن تحمل الجرة وتذهب للبئر وقبلت فضة على مضض.
عند البئر انتظرت فضة لتملأ الجرة، وكانت تقول لنفسها: الجرة ثقيلة وهى فارغة فكيف سأحملها إذا امتلأت.
ظهرت العجوز من بين الأشجار، واقتربت من فضة وطلبت إليها أن تروى عطشها، لكن فضة نهرتها وقالت لها: لا أراك ناقصة قدمًا أو ذراعًا، يمكنك أن تروى عطشك بنفسك.
قالت العجوز: لكنى مسنة يا ابنتى ولا يقوى ظهرى على الانحناء ولا حمل الجرة أو شدها من البئر، أنا مثل أمك.
قالت فضة: ومن أنتِ لتساوين نفسك بأمى، غضبت العجوز من غرور فضة وتعاليها وإحجامها عن مساعدتها، فقالت لها: سأمنحك شيئًا يزيد من غرورك وتعاليك.
امتعضت فضة وحملت جرتها وقصدت طريق العودة لمنزلها، وكانت كلما مرت بأحد ينفر من رائحتها، وإذا تحدثت تخرج من بين شفتيها روائح كريهة فيبتعد الناس عن طريقها.
وصلت فضة إلى منزلها، وكانت الأم فى انتظارها فلما لمحتها تقترب سألتها: ما الذى حدث يا فضة ؟ قالت فضة: لقد التقيت عند البئر عجوزًا سليطة اللسان، فنهرتها ومشيت.
فى صباح اليوم التالى، كان أهل القرية يتحدثون عن الفارق الواضح ما بين دهب وفضة، وكيف أن الكلام الحلو ومساعدة الناس يجعل الروح مشرقة ويمنح الناس طاقة إيجابية فينجزون أعمالهم بسعادة ورضا.
وهناك فى باحة القصر كان الملك والملكة ينظران من الشرفة إلى وحيدهما وهو يمتطى جواده بين مجموعة من خيرة الفرسان، وهم يستعدون للذهاب لرحلة الصيد الموسمية، قالت الملكة: ما شاء الله لقد صار الأمير رجلًا وفارسًا مهابًا، أما آن أن نبحث له عن عروس؟ قال الملك: نعم لقد نضج بما يكفى، وعلينا أن نرتب أثناء غيابه لحفل كبير تحضره كل عذراوات الإمارة، فى باحة القصر، أشار ولى العهد لوالديه مودعًا، وتقدم الجمع خارجًا من بوابة القصر، يتبعه الخدم والحرس متمنين له السلامة والفوز بصيد ثمين.
أما دهب فقد كانت كعادتها اليومية فى طريقها للبئر، لكن نفسها محملة ببعض الحزن من أفعال زوجة أبيها، فتنحت جانبًا إلى طريق صخرية مغايرة، وارتكنت إلى شلال تبكى فى أنين مكتوم.
تصادف مرور ولى العهد وموكبه من نفس الطريق، ولما لمحتهم «دهب» جرت على جرتها وحملتها، وفى هذه الأثناء كان ولى العهد يميل ناحية الشلال فاصطدم بها حتى وقعت جرتها وتعثرت دهب وكادت تسقط أرضًا لولا أن مد يده الأمير وأنقذها من السقوط، رفعت دهب وجهها لتتطلع فيمن أنقذها، فلما رأت أنه الأمير تلعثمت وارتبكت وصارت تتحدث بكلمات غير مفهومة، لكنها أثناء ذلك كانت الفراشات والورود والروائح الذكية تخرج من بين شفتيها فهام الأمير بها، وقبل أن يسألها عن اسمها وأهلها ومكان بيتها، كانت لملمت نفسها وركضت كأنها مهرة فى الريح، وصلت دهب لبيتها متأخرة، ثم حكت لزوجة أبيها ما حدث، فما كان من زوجة الأب إلا أن عاقبتها وحبستها بإحدى غرف البيت حتى تخفيها عن أعين الأمير، بذلت الأم جهودًا كبيرة مع ابنتها فضة وجلبت لها مدربين لتعليمها كيفية التعامل مع الناس وبخاصة رجال القصر، وكذلك كيف تقف شامخة كأنثى، وكيف تمشى ومتى تتحدث وكيف.
عاد الأمير سالمًا غانمًا من رحلة الصيد، ومبكرًا عن ميعاد عودته، فقد كان شغوفًا برؤية دهب مرة أخرى، لكنه لما عاد علم من الملكة ما فكرت فيه مع الملك أثناء غيابه، وأن عليه أن يختار عروسه فى مساء اليوم التالى.
كانت الموسيقى تملأ جنبات القصر، وكذلك بعض الرقصات التى تتميز بها الإمارة، وما هى إلا دقائق حتى نزل الأمير يتوسط الملكة والملك، بينما اصطفت على جانبى الطرق كل عذراوات المملكة، مشى الأمير بين الفتيات يتطلع يمينًا ويسارًا، لكنه يعيد الكرة ولا يختار إحداهن، وفى نهاية اليوم قال لوالديه: ليست هنا التى أريدها، فقال الملك:
لقد جمعنا لك كل الحسان ولم تتغيب أى فتاة عن الحفل، لكن الأمير قال له: لا يا أبى أنا أعرفها من رائحتها وحلاوة لسانها، وقص على والديه حكاية دهب.
أمر الملك رجاله بالبحث عن الفتاة، وكذلك تفتيش البيوت كلها للعثور على دهب، فى هذه الأثناء كان قلب فضة قد رق لأختها، وكانت تذهب لغرفة حبسها فى الليل حاملة معها بعض الماء والطعام.
ذات مساء وعند عودة فضة من البئر حيث عهدت إليها الأم بتلك المهمة أثناء حبس دهب، قررت فضة أن تذهب للقصر، وتخبر الأمير عن مكان دهب، ذهب الأمير فى موكب مهيب بين رجاله، ولما وصل لبيت دهب، أمر الأم بأن تفتح باب الغرفة التى تحبس بها دهب، فى القصر كان الأمير يقف مزهوًا وفرحًا بعثوره على دهب، وقد وقف فى الشرفة الكبيرة مع والديه، بينما كانت دهب بجناح الوصيفات يحضرنها للعرس، قالت دهب: لولا الحب لما وافقت أن يكون زواجى بالأمير مجرد مكافأة لعمل الخير، لأن ذلك هو ما ينبغى أن يكون أمرًا عاديًا بين الناس، وهناك خلف الأشجار، كانت السيدة العجوز تضحك بسعادة بعد أن اطمأنت أن كل إنسان يحصل على جزاء ما عمل.