رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفنان التشكيلي أحمد نوار يكتب: قنصت 15 إسرائيليًا وكشفت تمويه العدو بـ«مبادئ الفن والضوء»

الفنان التشكيلي أحمد
الفنان التشكيلي أحمد نوار

أريد القول إن «حرب الاستنزاف»، التى امتدت من عام ١٩٦٧ حتى وقف إطلاق النار عام ١٩٧٠، هى «الحرب الكبرى»، التى تُوجت فى ٦ أكتوبر ١٩٧٣، من خلال عبور الجيش المصرى العظيم خط «بارليف» وتدميره تمامًا، وصولًا إلى تحرير سيناء بالكامل.

كما أن هناك أهمية خاصة لفترة إعادة بناء الجيش المصرى، وقت تولى الفريق أول محمد فوزى أمين فوزى منصب وزير الحربية، التى تضمنت تزويد قواتنا المسلحة بأحدث الأسلحة المتطورة، ليصبح الجيش المصرى فى مواجهة كاملة وحالة استنزاف للعدو، من السويس حتى بورسعيد.

وأثناء بناء المواقع والتحصينات الخاصة بالجيش المصرى، كان هناك سلاح القناصة، الذى أضيف على الجيش آنذاك، وكان له دور كبير جدًا فى اقتناص عناصر العدو فى الجبهة، الأمر الذى أحدث حالة خوف وذعر لدى جيش العدو القابع فى الضفة الشرقية، خاصة أن ذلك تزامن مع إقامة خط «بارليف»، والتى أتاحت للقناصة المصريين فرصة لاقتناص أفراد من القوات الصهيونية، سواء قيادات أو جنودًا.

على المستوى الشخصى، انضممت إلى القوات فى منطقة «الدفرسوار» شمال البحيرات المُرة، وكانت بالنسبة لى مفاجأة كبيرة جدًا، لأن هناك فرقًا بين التدريب فى مواقع التدريب الخاصة، وبين الوجود فى قلب الحرب والاشتباكات التى كانت تمتد إلى ٢٤ ساعة يوميًا.

العدو كان حريصًا على عدم الظهور بشكل مباشر فى مواقعه الخاصة، وأن يطور تمويهاته من حين إلى آخر، وبعد أول عملية قنص لى، استطعت أن أكتشف مجموعة من المتغيرات فى عملية التمويه هذه، وكان ذلك من خلال خبرتى فى عالم الفن التشكيلى.

كان عناصر العدو يعتمدون على اعتبار التغيير المفاجئ للتمويه جزءًا لا يتجزأ من المفاجأة بالنسبة لنا، لكننى اكتشفت بعض هذه التمويهات باستخدام مبادئ الفن التشكيلى، من بينها خيال الظل على سبيل المثال.

لكى يبنى ساترًا من «الخيش» لاستكمال بعض المواقع، كانت الشمس تشرق من خلف خط بارليف، وفى ساعات مبكرة من أول ضوء، وقتها كنت أحاول البحث عن هدف، فكانت أشعة الشمس قوية، وتحجب خيالات الأشخاص الذين يعملون خلف ستائر «الخيش»، وبعض هؤلاء الضباط أو المشرفين على الموقع الذى يُجهز، كان قريبًا من «الخيش» الساتر لهم، وعندما يكون قريبًا يكون الظل على «الخيش» أقرب إلى الأبعاد الأساسية والحقيقية فى الشخص.

كلما بعد الشخص كبر الحجم، فأنا اعتبرت أن هذا الشخص ملاصق لـ«الخيش»، لأن الظل الخاص به يقترب من هيئة رجل كامل، وكان هدفى على الظل، وبالفعل تم اقتناصه، ثم التأكد من الاقتناص عن طريق نقاط الاستطلاع الخاصة بالمخابرات العسكرية، ونقاط الاستطلاع الخاصة بالموقع، التى تتابع الطلقة، من أين خرجت وإلى أين وصلت، والجندى فى الموقع الآخر من خط «بارليف» سقط جريحًا أم قتيلًا.. إلخ.

كانت التقارير تُجمَع وتُرسَل إلى القيادة، ويتم تسجيل أن القناص أحمد نوار اقتنص جنديًا إسرائيليًا، فى الساعة الفلانية وفى الموقع الفلانى رقم كذا، ثم التأكد من الإصابة فى الجانب الآخر، وهل هى إصابة قاتلة أم لا.

من هنا يتم التسجيل، وأنا أُبلغ مجرد تبليغ فقط، ويمكن لهذا التبليغ أن يؤكد أو ينفى، لكن التقارير المرئية هى الأهم، لأن نقاط الاستطلاع تكون فى مناطق عالية جدًا، ولديها مشاهدة لمواقع العدو بالتفصيل، لذا تعد جزءًا من عملية القنص.

كان العدو يتمسك بعملية التمويه بذكاء كبير، وبعد كل قنص يجرى نوعًا جديدًا من التمويه، وكانت هناك خنادق تتحرك فيها القناصة والجنود، ويقف القناص الإسرائيلى فى منطقة معينة لكى لا يظهر لنا بشكل مباشر، فيغطى نفسه بشبكة تمويه، وهى معروفة لتغطية المدافع والمواقع، وتكون نوعًا من التمويه الشكلى، لكن يكون هناك اختفاء نسبى للقناصة أو الدبابة أو المدفع.

اقتنصت قناصًا من تحت الشبكة، وعرفته لأن شكل القناص حين يضع الشبكة فوقه، رأسه فقط تظهر، فالشبكة تتشكل بشكل الرأس، ومع التدقيق من خلال التلسكوب القناص المجهز على البندقية، وفى ظل أن المسافة بيننا وبينهم هى المانع المائى لقناة السويس فقط، يحدث نوع من التأكد، ثم تنفيذ عملية القنص.

جعلتهم يشعرون بأننى موجود وسطهم، ففكروا فى شكل آخر للتمويه، واستخدام الخداع البصرى بشكل مختلف، ومعنى الخداع البصرى أننى حين أنظر إلى الموقع الإسرائيلى، أجده ثابتًا أمام عينى كما هو دون تغيير، ومفرداته لا تتغير.

تشاهد مثلًا أجزاءً من «الدشمة»، وبعض مخلفات الموقع، والتباب المحصنة بالأحجار أو الخرسانة، وهذا منظر مألوف، فاحتفظوا بهذا الشكل وأضافوا عليه إضافات، براميل قديمة مفتوحة من الجانبين، وأخشابًا ومخلفات، دون تغطيتها بشباك.

حين نظرت فى التلسكوب، أو من خلال نقاط الاستطلاع، ثم أنظر بـ«البايلسكوب» بشكل أقرب وأكثر دقة، وجدت أن القناص وقف وراء برميل مفتوح من الجانبين، لو نظر شخص عادى سيرى برميلًا فقط، ولن يلمح القناص.

فحصت الموقع بـ«البايلسكوب» الخاص بالبندقية داخل هذه الفوارغ، وجدت قناصًا قابعًا داخل برميل مفتوح من الجانبين، وكما قلت، أى شخص طبيعى لن يلاحظ، لكن وقوفه خلف برميل أدى إلى وجود إضاءة حول الجسد والبندقية، وحين تحرك برأسه داخل البرميل، اتضح لى أنه شخص قناص. 

هو غبى، كان من المفروض أن يغطى ظهر البرميل لكى يستره حين يقف، فلا يظهر، تمامًا مثل المسرح الأسود، عندما تكون عليه الستارة السوداء، ودون إضاءة، لن يظهر الممثل، ولهذا السبب ظهر القناص لى، واقتنصته بالفعل داخل البرميل.

المهم أن العدو أصبح لديه توتر وقلق كبيران من القناصة المصريين، خاصة من يكتشف مثلى الحيل الجديدة لما يفعلونه من تمويه، وهو ما استفدت فيه من مبادئ الفن والضوء، خاصة ما يتعلق بخيال الظل والضوء والخلفية المضيئة، حتى نجحت فى اقتناص ١٥ جنديًا وقناصًا وقائدًا.

وأريد الإشارة، كذلك، إلى أن الفترة التى سبقت وقف إطلاق النار، شهدت عملًا كبيرًا للجيش المصرى فى بناء «حائط الصواريخ»، وذلك من أول بورسعيد إلى السويس، وهذا الحائط هو الذى حمى الجيش المصرى عند عبوره قناة السويس فى السادس من أكتوبر، لأنه منع اقتراب الطيران الإسرائيلى لحوالى ٣٠ كم من خط القناة.