رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رواية جديدة

لطيفة القاضى
لطيفة القاضى

فى كل صباح، أجلس فى المقهى كعادتى منذ أكثر من عشرين عامًا، أضع أوراقى وحاسوبى على المنضدة المستطيلة والمرتفعة قليلًا، أتربَّع على الكرسى المريح جدًا. 

أنظر من خلال زجاج الواجهة المطل على النهر الذى ينساب بهدوء، مشهد أكثر بهجة وجمالًا. 

الهواء يلامس الماء برشاقة، فيخلف موجات صغيرة، الطيور تحلق فى السماء فى سرب منتظم، تمر مراكب الصيد الصغيرة ذات الألوان الزاهية، أرى الصيادين يرمون بالشباك فى النهر على أمل جمع الأسماك والرزق، فيلتقطون فى شباكهم الأسماك الحية التى تتراقص، قوارب طويلة تسير بسرعة، حاملةً أشخاصًا يصطفون بشكل طولى، المنظر كأنه لوحة سحرية تتألق بجمالها. 

أشعر براحة كبيرة فى هذا المقهى، حيث أجد ما أريده من العزلة والهدوء. 

أبدأ يومى بتناول فطائر الجبن، لعلها تهدئ معدتى قليلًا قبل أن أرتشف قهوتى؛ فأستريح لبضع دقائق، وتعود معدتى لتؤلمنى بعد شرب القهوة، أسرعت للبحث عن دواء لدوار المعدة فى حقيبتى الكبيرة الممتلئة بأوراق كثيرة مبعثرة، ومرآة صغيرة، وأحمر شفاه، وعلبة صغيرة من كريم لترطيب اليدين، وقطع مبعثرة من الشوكولاتة، لكنى لم أجد الدواء، ربما نسيته فى البيت. 

بسرعة، قمت بتفريغ محتويات حقيبتى على الطاولة للبحث عن حبوب المعدة، وأخيرًا وجدتها، فالتقطت حبة ووضعتها فى فمى وابتلعتها بكوب ماء. 

انتظرت قليلًا ريثما يسرى مفعول الدواء، لكى أبدأ يومى وعملى لكتابة رواية جديدة. 

فى هذا اليوم، وقفت أمامى امرأة جميلة، شعرها أشقر ناعم قصير ومنسق، وتتميز ملامح وجهها بالنعومة والرقة، مع خدود وردية وابتسامة بريئة تأخذ الألباب.

استأذنتنى وسحبت كرسيًا، ثم جلست وبدأت تتحدث عن روتينى الدائم فى ذلك المقهى وانشغالى فى العمل والكتابة، وسألتنى عما أكتب؛ فأجبتها أننى أحضر لكتابة رواية جديدة، لكنها كانت لطيفة ومريحة، فحكينا عن بعضنا البعض وحياتنا الاجتماعية، كانت تثرثر فى كل شىء وتسكب أسرارها سكبًا بكل راحة وتلقائية. 

شعرت بأنها تتمتع بشخصية هادئة ومتواضعة، فهى ذكية وتحب القراءة والموسيقى، تبادلنا الضحكات وأرقام الهواتف، ثم رحلت.

أردت العودة من جديد إلى عملى، لكننى شعرت بأننى لم أعد بكامل طاقتى، جلست أنظر إلى شاشة الحاسوب، لكن فكرى مشغول بكل الأبواب التى فتحتها تلك المرأة، وبمد يد الصداقة التى مدتها لى، فحاولت الإمساك بها. 

فجأة أضحت الرياح شديدة، تبعثرت أوراقى فى أنحاء المقهى، والهواء يحاول انتزاعى من مكانى، أسرارى كلها مبعثرة على الأرض والطاولات المجاورة، كتاباتى التى كتبتها، والتى تحتوى على قصص حب قديمة تبعثرت أمام المارة، مواقفى المحرجة التى كتبتها بالحبر الأسود، ومشاعرى التى خبأتها بقطعة بلاستيكية أصبحت منثورة أمام الجميع. 

حاولت بكل هدوء أن ألملم أوراقى وأجمع حكاياتى وأغلق بابى وروحى التى بعثرتها الرياح العاتية، حاولت أن أهدئ نفسى؛ لعل الأبواب تتوارب قليلًا.

أقنعت نفسى بأن أفكر بأشياء مبهجة، وأن أركز فى الكلمات العشوائية التى تصدح فى المقهى. علىَّ أن أنسى ما حدث. 

أغمضت عينى قليلًا لكى أستحضر حلمًا قديمًا، لكننى أسمع صرير الأبواب بداخلى وهى تغلق ببطء. 

تهدأ الرياح واسترددت اتزانى قليلًا.. قليلًا. 

وسرعان ما تهب العاصفة مرة أخرى ويعاودنى التوتر. 

فى اليوم التالى كعادتى، عدت إلى مكانى وإلى هدوئى؛ ليبدأ يومى مع فطيرة الجبن ثم احتساء قهوتى، رتبت أوراقى وأمسكت قلمى لكى أشرع فى كتابة بداية لروايتى الجديدة. 

رأيتها هناك جالسة مع أخريات تتبادل الثرثرة، فزادت نبضات قلبى عندما رأيتها، ابتسمت لى ودعتنى للانضمام إليها، اعتذرت لها بسبب انشغالى فعادت هى لطاولتها، وأنا عدت لوحدتى أفكر فى بداية جديدة لروايتى.

أنهيت احتساء قهوتى وطلبت مشروبًا آخر ساخنًا، وضعت ساقًا على ساق فى محاولة للالتفاف حول روحى لأستجمع فكرى وأبدأ فى كتابة روايتى الجديدة، لم أنجح، فجمعت كل أغراضى ورحلت. 

فى الصباح التالى، قررت أن أغير وجهتى إلى مقهى جديد معزول عن العالم وما فيه بأبواب مغلقة.

مرويات