رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل تصمد اتفاقات إبراهام أمام عنف نتنياهو؟

فى سبتمبر 2023، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، فى الأمم المتحدة ليعلن أن إسرائيل «على أعتاب سلام تاريخى» مع المملكة العربية السعودية.. وقد ردد ولى العهد السعودى، الأمير محمد بن سلمان، هذا الشعور، حين قال إن بلاده تقترب بشكل مُطرد من تطبيع العلاقات مع إسرائيل.. لكن سرعان ما اجتاحت القوات الإسرائيلية قطاع غزة، وارتكبت فيه أكبر عملية إبادة بشرية.. وبعد مرور ما يقرب من عام على ذلك، يبدو التطبيع الإسرائيلى  السعودى ضربًا من الخيال، بعد أن جدد ولى العهد السعودى، قبل أقل من شهر على الذكرى الأولى لهجوم السابع من أكتوبر، التأكيد أن بلاده لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، قبل «قيام دولة فلسطينية»، وإدانة المملكة لـ«جرائم» الدولة العبرية.. وبعد أن قال قبل نحو عام، لقناة «فوكس نيوز» الأمريكية أنّ التطبيع بين السعودية وإسرائيل «يقترب كلّ يوم أكثر فأكثر»، وأعرب عن أمله أن تؤدى المفاوضات «إلى نتيجة تجعل الحياة أسهل للفلسطينيين»، عاد ليؤكد، لدى افتتاحه أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى فى المملكة، أن «القضية الفلسطينية تتصدر اهتمام بلادكم، ونجدد رفض المملكة وإدانتها الشديدة لجرائم سلطة الاحتلال الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطينى، متجاهلة القانون الدولى والإنسانى فى فصل جديد ومرير من المعاناة.. ولن تتوقف المملكة عن عملها الدءوب، فى سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ونؤكد أن المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل من دون ذلك».
ومع ذلك، تواصل القدس والرياض الانخراط فى مناقشات.. وتتقاسم الدولتان الطموح إلى التنوع الاقتصادى.. ويشكل الترابط الأمنى بينهما، الشرط الأساسى الذى من شأنه أن يؤدى إلى نموهما الاقتصادى، فى وقت تخشى فيه إيران احتمال التطبيع الإقليمى.. ليبقى السؤال ليس ما إذا كانت إسرائيل والمملكة العربية السعودية ستعبران خط الروبيكون ـ ويرمز به إلى عبور نهر روبيكون فى ولاية وسكنسون بالولايات المتحدة، أى تجاوز خط النهاية والفوز بالنتيجة ـ وتقيمان علاقات رسمية، بل متى؟.. ولهذا السبب لا يمكن أن يقتصر الهدف الاستراتيجى لإسرائيل على هزيمة إيران ووكلائها.. بل يتعين على القادة الإسرائيليين إعطاء الأولوية للتطبيع الكامل مع السعودية. وإذا كان وكلاء إيران قد خاضوا الحرب لمنع هذا التحالف، فإن من مصلحة إسرائيل أن تعززه.. كما يقول الكاتب الإسرائيلى، هارلى ليبمان.. إذ كانت المشاركة الأخيرة للسفيرة السعودية لدى الولايات المتحدة، ريما بنت بندر آل سعود، إلى جانب مسئولين إسرائيليين، فى قمة الحوار بين الشرق الأوسط وأمريكا MEAD، فى واشنطن العاصمة، عرضًا عامًا نادرًا، لما قد يبدو عليه المستقبل، عندما يتم توسيع نطاق اتفاقيات إبراهام.
بالنسبة للعديد من الإسرائيليين، يُنظر إلى الصراع الدائر، على أنه مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران، مدعومة بوكلاء طهران.. تشعر إسرائيل بالوحدة فى صراعها الوجودى من أجل البقاء.. وفى حين أن هذا المنظور مفهوم، إلا أنه يتجاهل حقيقة أوسع: لدى إسرائيل شركاء إقليميون ينتظرون الفرصة المناسبة لتعميق العلاقات مع الدولة اليهودية.. وقد شهدنا قبل أربع سنوات، التوقيع التاريخى على اتفاقيات إبراهام، التى كانت بداية لشىء أكبر، وليس نهاية العملية.. وعلى الرغم من وضع التطبيع بين إسرائيل والسعودية على نار هادئة، بعد أحداث السابع من أكتوبر، لا تزال القدس والرياض تشتركان فى العديد من المصالح. وهذا يشكل أولوية استراتيجية لإسرائيل، لعزل وردع إيران، من خلال توقيع معاهدة سلام مع المملكة.. إلا أنه منذ السابع من أكتوبر، ركز الإسرائيليون فقط على مواجهة التهديدات الصادرة عن وكلاء إيران، حماس وحزب الله.. وحدد مجلس الوزراء الإسرائيلى هدفين رئيسيين: العودة الآمنة لجميع الرهائن الإسرائيليين، والقضاء على حماس باعتبارها تهديدًا عسكريًا.. هذه الأهداف الأمنية لإسرائيل، لا تعالج بشكل كامل الاحتياجات الاستراتيجية الأوسع لتل أبيب.. إن ما تحتاج إليه إسرائيل حقًا هو تعميق علاقاتها الإقليمية، من خلال البنية الأمنية الناشئة وتعزيز العلاقات الاقتصادية القوية مع الدول العربية والإسلامية، شريطة حل القضية الفلسطينية.
فى الثالث عشر من أبريل الماضى، اعترض تحالف إقليمى يتألف من قوات إسرائيلية وأمريكية وفرنسية وأردنية وبريطانية ثلاثمائة وخمسين طائرة بدون طيار وصواريخ، موجهة من إيران ضد إسرائيل، ردًا على قصف قنصليتها فى دمشق، وقد تلقى التحالف المساعدة من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، اللتين قدمتا معلومات استخباراتية بالغة الأهمية، قبل وأثناء الهجوم.. وقد أكدت هذه الأحداثد حقيقة بالغة الأهمية، عند مواجهة عدو مشترك مثل إيران، يمكن لهذه الدول أن تعمل معًا بشكل فعَّال.. وهذا هو بالضبط ما تخشاه إيران، ولهذا السبب يسعى قادتها جاهدين لمنع التطبيع السعودى  الإسرائيلى، الذى من شأنه أن يترك النظام فى طهران معزولًا فى المنطقة.
وعوضًا عن هذا، تحاول إيران، من خلال محاصرة إسرائيل باستراتيجيتها «حلقة النار»، من خلال بناء شبكة واسعة من الوكلاء فى الأردن وسوريا ولبنان واليمن والعراق وغزة.. ولا يشكل هؤلاء الوكلاء تهديدًا لإسرائيل فحسب، بل إنهم يزعزعون استقرار البيئات المضيفة لهم.. وتسعى إيران إلى تحويل هذه الدول إلى دول فاشلة، تصبح فى نهاية المطاف دولًا تابعة لإيران، الأمر الذى يمكّن النظام من إبراز قوته بشكل أكبر فى مختلف أنحاء المنطقة.. وفى حين تلعب إيران على المستوى الاستراتيجى دور الهجوم، تلعب إسرائيل على المستوى التكتيكى دور الدفاع.. ولكى تتمكن من ممارسة نفس اللعبة، يتعين على إسرائيل أن تتبنى حسابات استراتيجية تدمجها إقليميًا فى المنطقة، ولا بد وأن تتولى إسرائيل عزل إيران، فى مواجهة محاولات طهران لإغراق إسرائيل بالتهديدات الأمنية.
هذه ليست مصلحة إسرائيلية أو سعودية فحسب، بل هى مصلحة أمريكية أيضًا.. ولهذا السبب، تواصل الولايات المتحدة استثمار الموارد لدفع مثل هذه الصفقة من خلال الفرص الدبلوماسية، مثل خطاب السفير بندر آل سعود الأخير، فى مؤتمر الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى جانب تعميق التعاون الأمنى من خلال المنصات التى تقدمها القيادة المركزية الأمريكية.. إن البناء على اتفاقيات إبراهام لتعزيز العلاقات الاقتصادية والترابط العسكرى بين الموقعين، يمكن أن يؤدى إلى اتفاقية إبراهام 2.. وللفوز فى حربها ضد إيران ووكلائها، يتعين على إسرائيل أن تنظر إلى الصراع فى الشرق الأوسط من خلال منظور أوسع، يحقق السلام الحقيقى فى فلسطبن.. ومثل هذه الصفقة هى المفتاح لتحقيق أمن إسرائيلى دائم بعد حربها الحالية.. فهل تنقذ السعودية إسرائيل؟.. وهل تصمد اتفاقات إبراهام الحالية فى مواجهة العنف الذى نقله نتنياهو إلى المنطقة العربية وفى المنطقة برمتها؟
عندما وقف وزيرا الخارجية البحرينى والإماراتى على جانبى رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، والرئيس الأمريكى  وقتئذ ـ دونالد ترامب، للتوقيع على اتفاقيات إبراهام قبل أربع سنوات، تخيل الرجال الأربعة، حقبة من العلاقات المتوسعة بشكل مطرد بين إسرائيل والعالم العربى.. وقال ترامب وهو يبتسم من شرفة تطل على الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، «نحن هنا لتغيير مسار التاريخ.. بعد عقود من الانقسام والصراع، نحتفل بفجر الشرق الأوسط الجديد».. وقال نتنياهو، «إن زخم السلام الجديد يمكن أن يُنهى الصراع العربى الإسرائيلى مرة واحدة وإلى الأبد».. وتوقع وزير الخارجية الإماراتى، عبدالله بن زايد، أن «تنعكس تداعيات الاتفاق على المنطقة بأسرها.. لقد عانت منطقة الشرق الأوسط لفترة طويلة من الصراع وانعدام الثقة، مما تسبب فى دمار لا يوصف، وأحبط آمال أصغر وألمع شباب المنطقة»، وقال وزير الخارجية البحرينى، عبد اللطيف الزيانى، «الآن أنا مقتنع بأننا قادرون على تغيير ذلك».. ولكن، بينما كان الرجال يتحدثون بإيجاز عن العصر الجديد، الذى كانت الاتفاقيات على وشك أن تبشر به، كانت الأحداث فى إسرائيل تنبئ بمدى صعوبة تحقيق هذا المستقبل.
●●●
الكلمة ليست واحدة للميدان فى حرب غزة.. وليس أكبر مما يدور على المتاريس سوى ما يُدار فى الكواليس من سياسات وسيناريوهات، عن متغيرات راديكالية عميقة.. ليس فقط فى فلسطين وداخل الكيان الصهيونى، بل أيضًا فى المنطقة وحتى العالم.. متغيرات جيوسياسية واقتصادية واستراتيجية، سواء بقيت الحرب محصورة فى القطاع، و«المساندة» محدودة عبر «وحدة الساحات»، أو توسعت لتصبح حربًا شاملة.. وأحد الأسئلة المطروحة، هو: إلى أى حد تأثرت اتفاقات إبراهام بالتوحش الإسرائيلى فى الهدم، وقتل أكثر من أربعين ألفًا من الفلسطينيين، ثلثاهم من النساء والأطفال، وإصابة ما يزيد على مائة ألف مدنى، حتى داخل المستشفيات؟.. كما يؤكد جاك روزن، رئيس الكونجرس اليهودى  الأمريكى.
الواضح أن ما افترضه البعض لم يحدث.. فكل شىء صاخب على جبهة المواقف فى الخطاب الداعى إلى وقف النار فورًا.. وكل شىء هادئ على جبهة المواقف فى التعامل مع الاتفاقات.. لا شىء تبدل فى الواقع.. لا تعليق لأى اتفاق.. لا تهديد بالخروج من أى اتفاق.. الشراكات التجارية مستمرة.. والزيارات مستمرة.. ومنطق البلدان الشريكة فى الاتفاقات، هو أن هذه تعطيها أوراقًا فى العلاقات مع إسرائيل تخدم قضية فلسطين، وتحد من ضم المستوطنات والأراضى فى الضفة الغربية.. والمنطق نفسه يرى، أن السياسات السابقة فى إطار الإصرار على تسوية الصراع الفلسطينى  الإسرائيلى، وقيام دولة فلسطينية قبل أى علاقة مع إسرائيل، لم تسهم فى تقديم التسوية خطوة واحدة.. وانكشاف الغرور والغباء لدى ساسة إسرائيل، والتقصير العسكرى فى حماية السكان فى غلاف غزة والجليل الأعلى، لم يؤثر على الاتفاقات، التى قيل إن اللجوء إليها تحت مظلة أمريكية، كان ردًا على توسع النفوذ الإيرانى، ورهانًا على دور أمنى واستخبارى إسرائيلى يساعد تلك البلدان، فضلًا عن الإفادة من النفوذ الإسرائيلى فى أمريكا وأوروبا، ومن التكنولوجيا والمشاريع الاقتصادية والتجارية المشتركة.. حتى الدول العربية التى تستقبل مسئولين إسرائيليين، دون أن تكون من بين موقعى الاتفاقات، فإنها تبرر الأمر، بأنه مطلوب أمريكيًا لتسهيل التفاوض على الهدن الإنسانية وتبادل الرهائن.
على أية حال، وسط العدوان الصهيونى على قطاع غزة منذ ما يقترب من العام، وصمود المقاومة الفلسطينية، فإن نتائج هذه الحرب ومهما كانت نتيجتها على الأرض، فإن مصير إسرائيل، فى نظر اليهود لن يكون على ما يرام.. ومن هؤلاء اليهود ما ذكرناه من قبل، جاك روزن، الذى يقول إن منطقة الشرق الأوسط استفادت من السلام النسبى والازدهار المتنامى، الذى بشَّرت به اتفاقيات إبراهام، الموقعة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وعلى رأسها المغرب والإمارات والبحرين، لكن هذه الاتفاقيات قد تكون حجر الدومينو الذى سيتم إسقاطه، فى حال حدوث مزيد من التصعيد بين إسرائيل وحماس، أو فى حالة تزايد الضغط الشعبى المحلى على الدول الإقليمية المعنية.. وأضاف، فى مقال له بمجلة «تايم»، أنه «من المأساة أن الدولة اليهودية مازالت تواجه تهديدًا وجوديًا حقيقيًا فى عصر اتفاقيات إبراهام».. وفى رأينا، أن إسرائيل تحاول أن تأخذ دون أن تعطى، تريد أن تشترى بلا ثمن، ولو أنها سعت، كما هو أصل اتفاقات إبراهام، لتحقيق الحلم الفلسطينى بدولة على أرضه المحتلة، لنعمت تل أبيب بالأمن والسلام، ولحافظت على وجودها وبقائها.. ولكنها لم تفعل، وأظن أنها لن تفعل.
نعود إلى روزن، الذى يرى أنه «فى وقت تجد الدولة اليهودية نفسها فى معركة وجودية يومية، من الممكن أن تخرج عن السيطرة، ويبدو معها المستقبل مفهومًا مجردًا وترفًا فكريًا، لا يستطيع القادة الإسرائيليون تحمُّل مناقشته، فإنه من الضرورى أن تنظر إسرائيل وحلفاؤها إلى الأفق.. فإذا علمتنا الأحداث الأخيرة أى شىء، فهو أن مستقبل إسرائيل لن يكون سوى نتيجة ضائعة، وأن هذه الدولة ليست مؤكدة».. وقد يكون روزن على حق، أن اتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيونى لم تؤثر ولم تتأثر، لكنها ما خدمت فلسطين يومًا، بل شجعت العدوان على مزيدٍ من العدوان، ولم تتمكن دول التطبيع هذه أيضًا من كمّ فوهات بنادق المقاومة، وشأنها فى المواجهة، شأن جامعة الدول العربية التى ما اعتمدت عليها المقاومة الفلسطينية وكل حركات المقاومة، وما على الجامعة مستقبلًا، سوى البحث عن مصير الاتفاقات الإبراهيمية التى سقطت فى أنفاق غزة، وهى لن تكون أقوى من «عميدة الاتفاقات» كامب ديفيد، التى باتت موضع تساؤل حول ديمومتها، بعد ملامسة العدو الصهيونى محور فيلادلفيا واجتياح معبر رفح، وإصرار نتنياهو على عدم الخروج منه!
■■ وبعد..
فمنذ بداية الحرب فى غزة، وجدت عدة حكومات عربية نفسها فى موقف معقد.. فمن جانب، يتوجب عليها مراعاة التوجه الشعبى المساند غالبًا للفلسطينيين، وفى المقابل، فهى مضطرة لمراعاة سياساتها الخارجية والتزاماتها الدبلوماسية حيال مسألة التطبيع مع إسرائيل، أو حتى الحفاظ على نفس العلاقات التى كانت تربطها بها قبل السابع من أكتوبر، والحرب التى تلته.. لم تتوقع عدة حكومات عربية أن تجد نفسها فى الموقف الذى تعيشه اليوم، على خلفية الحرب الدائرة بين حماس وإسرائيل.. فهى تتأرجح بين موقف رسمى يجبرها أحيانًا على مسك العصا من المنتصف، وموقف شعبى مساند غالبًا للفلسطينيين.
ومع ذلك، يخرج من يقول، إنه من الطبيعى أن تخلق الحرب اختبارًا مهمًا للغاية فى العلاقات، وتخلق بعض التوترات مع الدول التى لديها اتفاقيات سلام.. وفى الوقت نفسه، يؤكد أنه على الرغم من «السقف الزجاجى المنخفض للغاية»، الذى فرضته الحرب على العلاقات مع إسرائيل، فإن هناك حقيقة واحدة لا يمكن إنكارها.. وهى أن الاتفاقيات هنا جاءت لتبقى.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.