رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شهيدٌ.. بخنجر مسموم فى الصومال (3)

أراد الأستاذ أحمد بهاء الدين أن يخلد ذكرى السفير كمال الدين صلاح، فجمع يومياته ومذكراته فى كتاب «مؤامرة فى إفريقيا»، الذى صدر ضمن سلسلة «ذاكرة الكتابة»، التى كانت تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، وكان الأستاذ رجاء النقاش يرأس تحريرها.. وفيه يروى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قررت فى نوفمبر 1949، وضع الصومال تحت وصاية إيطاليا، التى خرجت من الحرب العالمية الثانية مهزومة، بعد أن رفض «الحلفاء» عودتها إلى مستعمراتها السابقة، وقبلت الأمم المتحدة مقترح المندوب اللبنانى، شارل مالك، بتكوين مجلس وصاية استشارى يتابع الأوضاع، ويُعِد الصومال للاستقلال النهائى خلال عشر سنوات.. واقتصرت عضوية هذا المجلس، حسب المقترح، على ثلاث دول، هى مصر، كولومبيا، والفلبين، بعد اعتذار إثيوبيا وجنوب إفريقيا.. ورشحت مصر الوزير المفوض، محمد أمين رستم، كأول مندوب لها فى مجلس الوصاية الاستشارى بالصومال، ولما اعتذر بسبب مرضه رشحت السفير كمال الدين صلاح، الذى وصل إلى مقديشيو عام 1954، وكما أشرنا فى المقال الماضى، نجح فى إقامة علاقات ودية مع زعماء البلد الإفريقى العربى المسلم، حتى صار مستشارًا وناصحًا أمينًا لهم، وهو ما أقلق أصحاب المطامع فى هذا البلد سواء كانوا إنجليز أو إيطاليين أو أمريكان، وحتى الأحباش الذين كانوا يطمحون فى ضم الصومال إلى إمبراطوريتهم.
بعد شهور من وصول كمال الدين صلاح إلى مقديشيو أرسلت الأمم المتحدة بعثة من رجالها كى تزور البلاد الموضوعة تحت الوصاية فى شرق إفريقيا.. كانت البعثة تتكون من ثلاثة، رئيس نيوزيلندى، وعضو أمريكى وعضو آخر هندى، اسمه مستر جايبال، تعرف كمال الدين على أعضاء البعثة، وبدأ كل منهم يبحث عن مصالح بلاده.. فالعضو الأمريكى يسأل عن وجود أى نشاط شيوعى فى هذا البلد الفقير، والنيوزيلندى يسأل عن إمكانية وجود علاقات اقتصادية بين الصوماليين وبريطانيا، أما العضو الهندى، مستر جايبال، فكانت له وجهة نظر أفضى بها إلى صديقه المصرى، «إن إنجلترا وفرنسا وبلجيكا تتمنى وتعمل على فشل تجربة الوصاية فى الصومال الإيطالى، وعدم إعلان استقلال الصومال سنة 1960، كما خططت الأمم المتحدة».
من الطبيعى أن تتمنى إيطاليا فشل تجربة الوصاية، حتى يؤجَّل الاستقلال وتستطيع أن تبقى فى الصومال لما بعد سنة 1960.. أما بلجيكا وفرنسا وإنجلترا، فكلها دول لها مستعمرات مماثلة ومجاورة فى قلب إفريقيا، ونجاح تجربة الوصاية فى الصومال الإيطالى وإعلان الاستقلال، معناه أن تمتد العدوى إلى هذه المستعمرات، أو أن تُطبق فيها تجربة الوصاية على الأقل، وهى لا تريد أن تمتد هذه العدوى إلى الصومال الإنجليزى أو الفرنسى أو الكونغو البلجيكية.. ثم هناك الحبشة، الدولة الوحيدة المستقلة المجاورة، ولها مطامع فى الصومال، وعلى الحدود تثور مشاكل وخلافات.. وأخيرًا هناك الولايات المتحدة الأمريكية، ذات الاهتمام الطارئ الجديد بإفريقيا، كجزء من استراتيجيتها العسكرية والاقتصادية التى تشمل العالم كله.
وفى أوراق كمال الدين صلاح، التى تركها، شرح وافٍ لتعقيدات مصالح الدول الكبرى ومعهم الجار الحبشى فى الصومال.. فالدولة المستعمرة إيطاليا، تريد أن يظل ذلك البلد بخيراته وموقعه الهام تحت إدارتها، كما أنها تسعى إلى الحفاظ على مصالح الجالية الإيطالية المقيمة بها، والتى تحتكر كل المشروعات الكبرى، سواء فى الزراعة أو التجارة أو الصناعة.. أما الإنجليز، فكانت لديهم رغبة فى السيطرة على الصومال الإيطالى وضمه إلى الجزء الواقع تحت سيطرتهم، «الشعب الصومالى الواحد قسمه الاستعمار إلى إنجليزى وفرنسى وإيطالى، ومستقبل شعب الصومال الإيطالى سيؤثر حتمًا فى مستقبل الصومال الإنجليزى، الذى هو جزء من الإمبراطورية البريطانية، بعد أن تزعزعت قواعدها وكادت تُصفى فى آسيا وحوض البحر الأبيض، وهذه المنطقة التى توجد فيها الصوماليات الثلاث تقع فى مواجهة عدن، المستعمرة الإنجليزية أيضًا، وتسيطر معها على مدخل البحر الأحمر».
وكانت العلاقة بين الصوماليين والإنجليز سيئة، منذ أن كانت بريطانيا تحتل الصومال، بعد أن تمكنت قواتها من طرد الإيطاليين خلال الحرب العالمية الثانية، واستقرت هناك لمدة ثمانى سنوات، قامت خلالها إنجلترا بتسليم منطقتى الأوجادين والهود إلى حكومة الحبشة، بمقتضى الاتفاق الإنجليزى الإثيوبى المشترك الذى صدر عام 1955، والذى بمقتضاه، تسلم بريطانيا المنطقة الواقعة تحت حكمها من الأوجادين إلى إثيوبيا، على أن تبقى الإدارة الإنجليزية هناك فى ذلك الوقت، «كان معنى هذا، أن الأرض التى كانت إنجلترا مؤتمنة عليها من الصومال، قد سلمتها إلى الحبشة دون الرجوع إلى الحكومة الإيطالية، دولة الوصاية، ولا الزعماء الصوماليين، فثار الرأى العام فى المدن الصومالية، وأرسل الزعماء برقيات استنكار إلى كل من اعتقدوا أنهم ينجدونهم.. إلى الحكومة البريطانية وإلى الأمم المتحدة وإلى الجامعة العربية، وإلى رئيس وزراء الهند، جواهر لال نهرو».. ونظم الزعماء وأعضاء الأحزاب الصومالية مظاهرة كبرى فى العاصمة مقديشيو، للإعلان عن رفضهم الاتفاقية الإنجليزية الحبشية، «مرت المظاهرة بمكتب الأمم المتحدة وقدمت نسخة من احتجاجها، وألقى فيها كمال الدين صلاح كلمة، هنأ فيها الشعب الصومالى على المثل الطيب الذى ضربه على النظام والتضامن والروح الوطنية العالية والقدرة على ضبط النفس».
بعد يومين من المظاهرة، التقى كمال الدين صلاح بالقنصل البريطانى، الذى أخبره بأنه يُقدِّر عواطف الصوماليين، «قلت لهم رننى لو لم أكن قنصل إنجلترا، لخرجت وسرت معكم فى المظاهرة»!.. ابتسم صلاح وسكت، فهو يعرف أن القنصل اشترك فى المباحثات التى أدت إلى هذه الاتفاقية، وأنه من الخبراء بتلك المنطقة، وقد خدم من قبل فى الحبشة والسعودية والكويت، وحاول أن يُفشل المظاهرة ويشترى ولاء بعض الزعماء الصوماليين.. وكان كمال الدين صلاح يرى أن غاية الإنجليز من إشعال الأزمات فى الصومال الإيطالى، صرف الصوماليين عن قضايا الاستقلال، «إعطاء مناطق بالأوجادين إلى الحبشة سيدفع الصوماليين إلى الانشغال باستعادة الأرض، ويشعل اضطرابات دائمة فى المنطقة، تغل شعوبها عن الاهتمام بأحوالها الداخلية، مما يسمح لإنجلترا بالبقاء وتنفيذ أغراضها السياسية.. بالضبط كما خلقوا مشكلة إسرائيل فى المنطقة العربية».
فى ذات الوقت، كان الأمريكان قد تمكنوا من إقناع الإدارة الإيطالية بتوقيع عقود امتياز للتنقيب عن البترول، دون الرجوع لمجلس الوصاية ولا للمجلس الإقليمى الذى يتكون من الصوماليين أنفسهم، وهو ما دعا إلى رفع تقرير إلى الأمم المتحدة ببحث شروط تلك العقود من جديد وإبداء الرأى فيها.. «كانت أمريكا منحازة إلى الحبشة فى أزمة أوجادين، فالممثل الأمريكى فى مجلس الوصاية الأممى، ويدعى مستر سيرز، دعا إلى إنشاء منطقة حزام بين الحبشة والصومال، وهو ما يعنى ضم مقاطعة الأوجادين نهائيًا إلى إثيوبيا، مع أنها أرض صومالية يسكنها صوماليون، بل وليست فيها أقليات حبشية.. ففى حدود هذه المنطقة، يقوى أمل شركة سنكلير الأمريكية فى العثور على البترول، والحبشة متحالفة مع أمريكا، وإيطاليا لا تعترض على ذلك لاسترضاء أمريكا»، وبذلك، صار الجار الذى كان من المفترض أن يكون نصيرًا وسندًا ومساعدًا للصومال، مصدرًا آخر للخطر، وطامعًا آخر يؤجج الصراع فى هذا البلد الصغير.. قالجارة إثيوبيا، مرتبطة إلى حد بعيد بالسياسة الغربية عمومًا والأمريكية بوجه خاص، فضلًا عن أنها لها مطامع إقليمية فى الصومال، منها انتزاع الإنجليز منطقة أوجادين من الصومال لصالح إثيوبيا، «مما خلق أزمة حدود لم تنته حتى تاريخه».
كانت إثيوبيا تسعى إلى توحيد الصومال معها كما فعلت مع إريتريا، «وفى هذه النقطة أيضًا، نستطيع أن نلمح بادرة أخرى من بوادر تزايد النفوذ الأمريكى.. فاتحاد الصومال مع الصوماليات الأخرى سيكون لحساب الكومنولث البريطانى، أما اتحاد الصومال مع إثيوبيا فسوف تستفيد منه الولايات المتحدة، خصوصًا أن مناطق الأوجادين وغيرها من مناطق الحدود، هى المناطق التى تأمل شركات التنقيب أن تعثر على البترول فيها».
ظهر دور أمريكا فى هذه القضية واضحًا، عندما نوقشت الحدود بين الصومال وإثيوبيا أمام لجنة الوصاية فى الأمم المتحدة، «تقدم السيد رفيق عشى، مندوب سوريا بمشروع قرار خاص بمشكلة الحدود، يوصى فيه بتعيين وسيط، فى حالة فشل المفاوضات بين إيطاليا وإثيوبيا لتسوية الحدود بينها وبين الصومال، وقد نشط الوفد الأمريكى فى الاتصال بوفود الدول للتصويت ضد مشروع القرار السورى، وقام كمال الدين صلاح ورفيق عشى بالاتصال بالوفود للحصول على تأييدها، وقد عاونهما مناديب الهند وسلفادور وهايتى».. دارت بين كمال الدين صلاح ومستر مولكاهى، عضو الوفد الأمريكى، مناقشة برر فيها الأخير رفضه مشروع القرار السورى، «سيكون له رد فعل سيئ فى الحبشة، لأنه مُقدم من دولة إسلامية، والأحباش يشعرون بأنهم جزيرة مسيحية فى بحر إسلامى، ويشعرون بالأخطار التى تهدد كيانهم من كل جانب!!».. ورد عليه كمال الدين، «لا مبرر لمثل هذا الشعور أو التفكير.. الاعتقادات الدينية وحدها ليست أساسًا تُبنى عليه تصرفات الدول.. ثم إن رفض مشروع القرار السورى معناه بقاء مشكلة الحدود معلقة، مع ما يؤدى إليه ذلك، من متاعب وعدم استقرار فى المنطقة»، ورغم المحاولات الأمريكية، وافق مجلس الوصاية على المقترح السورى.
وبالعودة إلى الخلافات الإثيوبية الصومالية، سجَّل كمال الدين صلاح فى مذكراته، ملاحظات غريبة على مستر ديساليج، ضابط الاتصال الإثيوبى، والقائم بأعمال قنصل بلاده فى الصومال، «.. إنه بدرجة وزير مفوض، وقد سبق أن عينته حكومته ضابط اتصال لها فى إريتريا، أثناء فترة تقرير المصير التى انتهت بانضمام إريتريا إلى الحبشة فى اتحاد فيدرالى، وكان له نشاط كبير فى الوصول إلى تلك النتيجة، ويُنسب إليه البعض تدبير اغتيال زعيم الجبهة الإسلامية فى إريتريا، يوم استعداده للسفر إلى أمريكا لحضور اجتماعات الأمم المتحدة، لمعارضة انضمام بلاده إلى إثيوبيا، وبذلك بقيت فكرة المعارضة داخل حدود إريتريا نفسها، ولم يقدر لها أن تجد الطريق إلى المحافل الدولية».. وبهذا التاريخ السيئ، وصل ضابط الاتصال الحبشى إلى الصومال ومعه كميات كبيرة من الأموال، بدأ على الفور باستثمارها فى شراء ولاء بعض الزعماء، بغية تأسيس حزب جديد يدعو إلى اتحاد الصومال مع إثيوبيا، لكن محاولاته كانت تقابل بالصد.. وفى نفس الوقت، كانت تأتى الأنباء عن اضطهاد الحبشة لمواطنى منطقة الأوجادين الصومالية.
وفى صفحات متفرقة من مذكراته، توقف كمال الدين عند ما وصفه بالنشاط المريب لهذا الضابط الإثيوبى، «حاول خلال إقامته بالفندق، إغواء عدد كبير ممن يقابلهم من الصوماليين.. كان منهم زعيم حزب الدُجل وريفلة، السيد عبدى نور، وفى الكثير من جلساته كان هذا المبعوث الحبشى يحرِّض على الشعوب العربية، وخصوصًا الشعب المصرى، ويشيع أن الدول العربية تنعت الصوماليين بأنهم عبيد، كما أنه حاول أن يصور نفسه على أنه إرهابى، قادر على البطش بخصومه».. وبعد محاولات عدة، نجح ضابط الاتصال الحبشى فى استمالة عضو منشق عن حزب وحدة الشباب الصومالى، ويدعى محمود البوراكى، وتأسس حزب جديد تحت قيادته باسم حزب «الصومال الأحرار»، وعمل البوراكى على إثارة النزعة القبلية بين أبناء الصومال، حتى ينشغلوا بمواجهة بعضهم البعض عن مواجهة أزمات بلادهم.
فى ظل تلك الظروف بالغة التعقيد، ومحاولات القوى الاستعمارية وأد تجربة الاستقلال فى هذا البلد، حاول كمال الدين صلاح أن يدعم أهل الصومال ويُنجح تجربتهم، فتم اتهامه بأنه يحاول بسط النفوذ المصرى على الصومال، ودفعت الدول المتصارعة بعض الصوماليين الذين ضمنت ولاءهم، إلى التقدم بشكاوى ضد مصر ومندوبها فى مجلس الوصاية إلى الأمم المتحدة، وتلقفت جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية الأمر، ونشرت تقريرًا تحت عنوان «الصوماليون يطلبون من الأمم المتحدة إيقاف مصر عند حدها»، وكان ذلك بغرض الإساءة إلى مركز القاهرة فى الصومال أمام الرأى العام الدولى.. وللحديث بقية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.