رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فوز ترامب.. طوق نجاة نتنياهو

إذا كان الرئيس بايدن ونائبته كامالا هاريس بحاجة إلى أى تذكير، بأن بنيامين نتنياهو ليس صديقهما، وليس صديقًا لأمريكا، بل إن الأكثر خزيًا، أنه ليس حريصًا على الرهائن الإسرائيليين فى غزة، فإن قتل ستة محتجزين إسرائيليين، بينما هو يتحايل على مفاوضات وقف إطلاق النار وعودة الرهائن المتبقين، يجب أن يوضح ذلك.. فلنتنياهو مصلحة واحدة: بقاؤه السياسى المباشر، حتى لو كان ذلك يقوض بقاء إسرائيل على المدى الطويل.. وليس هناك من شك، فى    أن هذا سيقوده إلى القيام بأشياء، فى الشهرين المقبلين، يمكن أن تضر بشكل خطير بفرصة كامالا للفوز فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، وتعزز فرص دونالد ترامب.. وفى هذه الأثناء، فإن نتنياهو يلعب مع بايدن كرجل أحمق، والدليل، أنه أجرى مع الرئيس الأمريكى محادثات متكررة، أعقب كل منها توقعات بايدن المتفائلة حول وقف إطلاق النار الوشيك فى غزة، ثم يخرج نتنياهو ليخبر أتباعه بشىء آخر، مناقض لما أعلنه بايدن!.
فى مكالماته الهاتفية، كان نتنياهو يهمس لقادة أمريكا باللغة الإنجليزية، بأنه مهتم بوقف إطلاق النار وصفقة الرهائن، ويفكر فى الوسائل الضرورية لتحقيق مبدأ بايدن.. ولكن بمجرد أن يغلق الخط، يتحدث بالعبرية، يقول لقاعدته أشياء تتناقض صراحة مع عقيدة بايدن، لأنها تهدد عقيدة بيبى.. إذن، ما هى عقيدة بايدن؟ وما هى عقيدة بيبي؟  ولماذا هى مهمة؟.. هكذا تساءل الكاتب الأمريكى، توماس فريدمان، فى مقال له بصحيفة «نيويورك تايمز»، تحت عنوان «كيف يحاول نتنياهو إنقاذ نفسه، بانتخاب ترامب وهزيمة هاريس؟».
لقد بنت إدارة بايدن مجموعة من التحالفات الإقليمية مع شركاء، تمتد من اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ إلى الهند والخليج العربى، وصولًا إلى حلف شمال الأطلسى فى أوروبا.. تحالفات أمنية واقتصادية، مصممة لمواجهة روسيا فى أوروبا، واحتواء الصين فى المحيط الهادئ، وعزل إيران فى الشرق الأوسط.. لكن للأسف، كان حجر الزاوية لكل هذه التحالفات، التى تهدف إلى ربط آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، هو تحالف بايدن الدفاعى المقترح مع المملكة العربية السعودية.. ومفتاح الحصول على مثل هذه الصفقة من خلال الكونجرس، هو موافقة المملكة العربية السعودية على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.. والمفتاح لجعل السعوديين يفعلون ذلك، هو موافقة نتنياهو على مناقشةـ مجرد مناقشةـ إمكانية حل الدولتين مع الفلسطينيين، فى يوم من الأيام.
منذ بدء حرب غزة فى أكتوبر الماضى، يحاول فريق بايدن مزج مبدأ بايدن، بوقف إطلاق النار فى غزة وصفقة الرهائن، من خلال التأكيد على المزايا الكبيرة لكل من إسرائيل وأمريكا، إذ يمكن أن يؤدى ذلك إلى وقف دائم لإطلاق النار فى غزة، ويؤدى إلى عودة الرهائن، ويمنح الجيش الإسرائيلى المنهك وقوة الاحتياط استراحة تشتد الحاجة إليها.. لأن وقف إطلاق النار فى غزة، سيجبر حزب الله بشكل شبه مؤكد على وقف إطلاق النار من لبنان أيضًا.. إذا وافقت إسرائيل بعد ذلك، على فتح محادثات مع الفلسطينيين حول حل الدولتين، فإنها ستمهد الطريق لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية ـ وهى رصيد استراتيجى ضخم لإسرائيل- وتخلق الظروف للإمارات والمغرب ومصر لإرسال قوات حفظ سلام إلى غزة، بالشراكة مع سلطة فلسطينية مُطورة.. لذلك لن تحتاج إسرائيل إلى احتلال دائم هناك، وسيتم استبدال حماس بحكومة فلسطينية شرعية معتدلة. 
فى إحدى الخطوات، قال بايدن لنتنياهو، يمكن لإسرائيل أن تجد شركاء عرب مُستدامين لمسار آمن للخروج من غزة، وإيجاد حلفاء عرب للتحالف الإقليمى الذى تحتاجه لمواجهة تحالف إيران الإقليمى، المكون من حماس وحزب الله والحوثيين والميليشيات العراقية.. وجهة نظر بايدن، أنه يجب النظر إلى أمن إسرائيل اليوم، فى سياق أوسع بكثير من مجرد من يقوم بدوريات على حدود غزة.. لكن مبدأ بايدن اصطدم مباشرة بمبدأ بيبى، الذى يركز على بذل كل ما فى    وسعه لتجنب أى عملية سياسية مع الفلسطينيين، قد تتطلب تسوية إقليمية، من شأنها أن تكسر تحالف نتنياهو السياسى مع اليمين المتطرف الإسرائيلى. 
وتحقيقًا لهذه الغاية، حرص نتنياهو لسنوات، على بقاء الفلسطينيين منقسمين وغير قادرين على اتخاذ موقف موحد.. وضمن بقاء حماس كيانًا حاكمًا قابلًا للحياة فى غزة، من خلال ترتيب قيام قطر بإرسال أكثر من مليار دولار إلى حماس، للمساعدات الإنسانية والوقود والرواتب الحكومية، منذ 2012 إلى 2018.. وفى الوقت نفسه، فعل نتنياهو كل ما فى وسعه لتشويه سمعة السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، الذى اعترف بإسرائيل، وتبنى عملية أوسلو للسلام، ودخل فى شراكة مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، فى محاولة للحفاظ على السلام فى الضفة الغربية، لما يقرب من ثلاثة عقود.. وقد أصبحت عقيدة بقاء نتنياهو أكثر أهمية، بعد اتهامه عام 2019 بتهم الاحتيال والرشوة وخيانة الأمانة.. والآن يجب أن يبقى فى السلطة للبقاء خارج السجن، إذا أُدين.
لذلك، عندما فاز نتنياهو بإعادة انتخابه بهامش ضئيل للغاية عام 2022، كان مستعدًا للصعود إلى الفراش مع أسوأ الأسوأ فى السياسة الإسرائيلية، لتشكيل ائتلاف حاكم من شأنه أن يبقيه فى السلطة.. هؤلاء هم مجموعة العنصريين اليهود المتطرفين، الذين وصفهم رئيس الموساد الإسرائيلى السابق بأنهم «عنصريون فظيعون» و«أسوأ بكثير» من «كو كلوكس كلان»، المنظمات التى تؤمن بالتفوق الأبيض ومعاداة السامية والعنصرية ومعاداة الكاثوليكية، وتعمد لاستخدام العنف والإرهاب وممارسات تعذيبية، كالحرق على الصليب، لاضطهاد من يكرهونهم، مثل الأمريكان الأفارقة وغيرهم.
وافق هؤلاء العنصريون اليهود على السماح لنتنياهو بأن يكون رئيسًا للوزراء، طالما احتفظ بالسيطرة العسكرية الإسرائيلية الدائمة على الضفة الغربية، وبعد 7 أكتوبر، على غزة أيضًا.. لقد أخبروا نتنياهو، أنه إذا وافق فى أى وقت على صفقة بايدن بين الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل والسلطة الفلسطينية، أو وافق على وقف فورى لإطلاق النار لإعادة الرهائن الإسرائيليين وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية؛ فسوف يسقطون حكومته.. لأن هذه الأشياء ستكون مقدمة لتنفيذ مبدأ بايدن وتسوية إقليمية محتملة فى يوم من الأيام.
لقد فهم نتنياهو الرسالة، وأعلن أنه سينهى الحرب فى غزة بعد أن تحقق إسرائيل (نصرًا كاملًا)، لكنه لم يحدد بالضبط ما يعنيه ذلك، ومن سيحكم غزة فى أعقابها.. من خلال إنشاء مثل هذا الهدف غير القابل للتحقيق فى غزة- الجيش الإسرائيلى يحتل الضفة الغربية منذ 57 عامًا، وكما تظهر الاشتباكات اليومية، لم يحقق «نصرا كاملًا» على مقاتلى حماس هناك، وضع نتنياهو الأمور، حتى يتمكن هو وحده من تقرير متى تنتهى الحرب فى غزة.. وهو ما سيكون، عندما يناسب احتياجات بقائه السياسى، وهذا بالتأكيد ليس الآن.
أعلن نتنياهو أنه مستعد للتضحية بأى وقف لإطلاق النار مع حماس وإعادة الرهائن، إذا كان ذلك يعنى أن على إسرائيل أن تستسلم لمطلب حماس، بأن تخلى مواقعها العسكرية على ممر فيلادلفيا على طول الحدود بين غزة ومصر، الذى يدعى أن حماس تستخدمه منذ فترة طويلة لتهريب الأسلحة، ولكن الجيش الإسرائيلى لم يعتقد أنه مهم بما يكفى لاحتلاله.. وقال الجنرالات الإسرائيليون باستمرار لنتنياهو، إن هناك العديد من الوسائل البديلة الفعالة للسيطرة على الممر، وأن دعم القوات الإسرائيلية المتقطعة، سيكون صعبًا وخطيرًا، ويمكنهم استعادته فى أى وقت يحتاجون إليه.. البقاء هناك يسبب بالفعل مشاكل كبيرة مع المصريين أيضًا.. لكن نتنياهو ضرب بكلامهم عرض الحائط، وأعلن أن «الممر مركزى.. إنه يحدد مستقبلنا بالكامل»!.
الأمر برمته عملية احتيال.. وكما أوضح المراسل العسكرى لصحيفة «هآرتس»، عاموس هاريل، فإن ما يحدث حقًا هو أن حلفاء نتنياهو اليمينيين يحلمون بإعادة احتلال غزة، فى حين أن «نتنياهو، تحت غطاء المصالح الأمنية، يحمى موقفه السياسى بشكل أساسى.. إنه يقاتل من أجل استمرار ائتلافه الحاكم، الذى قد يتصدع إذا تمت الموافقة على اتفاق».. وهذا هو السبب فى أن وزير الدفاع الإسرائيلى، يوآف جالانت، أخبر رئيس الوزراء والمتملقين اليمينيين، أن تصويتهم على «إعطاء الأولوية لممر فيلادلفيا على حساب حياة الرهائن، وصمة عار أخلاقية».
نعود إلى الانتخابات الأمريكية، لندرك أنه من الواضح أن نتنياهو يعرف أن هاريس فى مأزق.. إذا استمر فى الحرب فى غزة حتى «النصر الكامل»!، مع المزيد من الضحايا المدنيين، فسوف يُجبر هاريس، إما على انتقاده علنًا وخسارة الأصوات اليهودية، أو «بلع» لسانها وخسارة أصوات العرب والمسلمين الأمريكيين فى ولاية ميشيجان الرئيسية المتأرجحة.. وبما أن هاريس ستجد- على الأرجح- صعوبة فى القيام بأى منهما، فإن هذا سيجعلها تبدو ضعيفة لكل من اليهود الأمريكيين والعرب الأمريكيين.. لذلك، لن نتفاجأ، إذا صعد نتنياهو بالفعل فى غزة، من الآن حتى يوم الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لجعل الحياة صعبة على الديمقراطيين.. قد يفعل نتنياهو ذلك، لأنه يريد أن يفوز ترامب، ويريد أن يكون قادرًا على إخبار ترامب بأنه ساعده على الفوز.. ويعرف نتنياهو أن الكثيرين فى الجيل الصاعد من الديمقراطيين معادون لإسرائيل، أو على الأقل لإسرائيل التى يصنعها نتنياهو.
ثم، إذا فاز ترامب، فلن نشعر بالصدمة إذا أعلن نتنياهو أن «انتصاره الكامل» فى غزة قد تحقق، ووافق على بعض وقف إطلاق النار لاستعادة أى رهائن لا يزالون على قيد الحياة، وتمتم ببضع كلمات عن إقامة دولة فلسطينية فى المستقبل البعيد والبعيد، للحصول على صفقة التطبيع السعودى- الإسرائيلى، وتخلى عن شركائه الأكثر جنونًا من اليمين المتطرف، بينما يترشح هو لإعادة انتخابه بدونهم.. برنامجه المحتمل: لقد حققت نصرًا كاملًا فى غزة، وقمت مع ترامب بصياغة انفتاح تاريخى بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.. وهنا، نتنياهو يفوز، وترامب يفوز، وإسرائيل تخسر.. وبطبيعة الحال، ستظل غزة تغلى، وستظل القوات الإسرائيلية تحتلها.. ستكون إسرائيل دولة منبوذة أكثر من أى وقت مضى، مع مغادرة المزيد والمزيد من الإسرائيليين الموهوبين للعمل فى الخارج، ولكن سيكون لنتنياهو فترة ولاية أخرى.. وهذا كل ما يهم.
أما إذا فازت هاريس، فإن نتنياهو يعلم أنه يحتاج فقط إلى عض أصابعه، وأن اللوبى المؤيد لإسرائيل فى واشنطن- أيباك- والجمهوريين فى الكونجرس سيحمونه من أى    رد فعل سلبى.. ثم، فى يوم من الأيام، نتوقع أن ينظم نتنياهو حفلًا لتكريم «صديقه العزيز لسنوات عديدة، الرئيس جو بايدن».. وستكون هناك مستوطنة جديدة فى غزة، تسمى بالعبرية «جفعات يوسف»، وباللغة الإنجليزية Joe›s Hill، أو «جحيم يوسف» بالعربية.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.