مصطفى نصر يروى حكايات "سُلم الحلاق" مع السينما
في سيرته الذاتية - قيد النشر - يروي الكاتب الروائي الكبير مصطفى نصر، عن العديد من الشخصيات التي عاصرها وكان لها تأثير السحر في حياته حتى إنه حملها بين أوراقه منذ سنوات طويلة، ومن بين هذه الشخصيات "سُلم الحلاق".
حكايات "سُلم الحلاق" كما رواها مصطفى نصر
يستهل نصر حديثه عن الحلاق، لافتًا إلى: دكان سلم الحلاق في شارع الفرغاني - أسفل دحديرة القلل - منذ أن عملت في شركة الورق عام 1968 وحتى أحلت معاشًا مبكرًا في يونيه سنة 2000 وأنا أمر من أمام دكانه مرتين، مرة في الصباح والدكان مغلق والثانية عند العودة من عملي، أجده - أحيانًا - منهمكًا في الحلاقة، فأرفع يدي وأصيح محييًا فيترك زبونه ويخرج من دكانه ويرد تحيتي بابتسامة وحماس شديدين، فهو سعيد لأني أهتم به كل هذا الاهتمام.
أنا لا أعرف اسمه الحقيقي، وهو حتمًا لا يعرف شيئًا عني، لكنه سعيد لاهتمامي النادر به، من الممكن أن تحس بحب شخص ما من أول لقاء معه، لكن الأمر يختلف مع سُلم الحلاق، فأنا أتابعه منذ صباي، كنت مغرمًا بمتابعة السهرات التي تقام أمام بيوت حوارينا- خاصة في ليلة الحنة التي تسبق ليلة الزفاف - مجموعة من الهواة يجتمعون فوق الجبل - في مكان أكثر رقيًا - الشوارع فيه ناعمة ومسفلتة، بينما الحواري أسفل الجبل ما زالت ترابية، وعربات الزبالة تقف في معظم الأماكن فيها.
يجتمع هؤلاء الهواة، يجلسون على الرصيف العالي الذي يطل على الجبل، يدلدلون سيقانهم. "توتو" - الشاب الأبيض الوسيم - الذي يحفظ كل أغاني عبدالحليم حافظ، على قد الشوق إللي في عيوني وصافيني مرة، و"أحمد زيدان" الذي يقلد عمر الجيزاوي، ومحروس الشاب الذي ماتت أمه في طفولته - مثلي - ويعيش الآن لدى أخواله في الحارة التي تسكنها جدتي، كان يتعلم الموسيقى، ويسير في الحارة حاملًا علبة الكمان السوداء المميزة، ومحمد عبدالله الذي يقلد المطرب الجديد - محرم فؤاد- صوته قريب من صوته، وانضم إليهم محمود عبدالله - الشهير بالدكش - غنى أغاني محمد رشدي القديمة: خاصم شهر وصالح يوم، ياللي مقضي هوانا خصام كفاية 29 يوم، وأغنية قولوا لمأذون البلد ييجي يتمم فرحتي. توتو وأحمد زيدان ومحروس غير معروفين في حوارينا، لكن الدكش من أسرة معروفة ومشهورة في المنطقة كلها، لذا استطاع أن يستولي على الفرقة رغم أنه آخر من انضم إليها.
سُلم الحلاق صديق كل هذه المجموعة، كلهم يحلقون عنده في دكانه، أتابعه منذ صغري، يأتي إلى الحفل - عادة - متأخرًا بعد أن يغلق دكانه، يصعد للمسرح، ويغني مونولوجات إسماعيل ياسين القديمة، ما تستغربشي ما تستعجبشي فيه ناس بتتعب ولا تكسبشي وناس بتكسب ولا تتعبشي، ومونولوج خطبوها إتعززت. كان سُلم قريب الشبه بإسماعيل ياسين، بفمه الواسع وشفتيه الكبيرتين، وكنا نسعد بغنائه وحركاته ونطلب منه أن يغني أكثر من ذلك.
حكايات سُلم الحلاق وسينما ألدورادو
ويضيف مصطفى نصر: عالم الحواري غريب، ما إن يكبر الشاب منا حتى يطمح للترقي والصعود إلى الجبل، حيث الشوارع أكثر نظافة، الحواري في أسفل لا تصلح للعب الكرة، والفتيات فوق الجبل أكثر أناقة وشياكة وجمالًا، كل شاب من سكان الحواري يطمح في أن تحبه فتاة من ساكنات فوق الجبل، الذين يطلقون علينا اسم " بتوع العزبة".
كبر مشروع محمود عبدالله - الشهير بالدكش- فافتتح محلًا في السوق، أصبح صاحب فرقة ومورد فنانين. وتباعد دور سُلم الحلاق، لم أعد أشاهده يغني في الأفراح ويقلد إسماعيل ياسين، لكنني ما زلت أحبه، ما زلت أحرص على أن أنظر لدكانه المغلق وأنا ذاهب لعملي، وأحييه عند عودتي من عملي، فيترك الزبون الذي يحلق له ويخرج من دكانه، ليتابعني، يرفع يديه الاثنتين ويصيح مرحبًا بي، ومتمنيًا أن أدخل دكانه وأتحدث معه.
ويختتم مصطفى نصر مشددًا على: كتبت عن سُلم الحلاق في روايتي سينما ألدورادو، دخلت سينما بلازا وكان الفيلم الأول غاية في الملل والسخافة، فصحنا وأشرنا لمشغل الفيلم لكي يسرق وينهي هذا الفيلم السخيف، لكنه عاندنا ولم يستجب، وأصر على إكمال هذا الفيلم الممل، وبدأت المحاورات التي تنسينا سخافة الفيلم، يقول صوت غليظ: ياللي بجوار اللوح؟
فيرد واحد، فيقول له: مش أنت إللي جنبك.
صوت مميز سيطر على الموقف بنكاته اللاذعة الحراقة، لم يستطع أحد أن يغلبه، وكانت ضحكاته عالية مجلجلة، لدرجة أن إدارة السينما اضطرت أن توقف عرض الفيلم، وتنير الصالة.
وعندما عاودت السينما عرض الفيلم الأول - السخيف - عاد الصوت المجلجل ساخرًا وضاحكًا، فقال سيد زميلي: هذا صوت سُلم الحلاق، أنا أعرف صوته جيدًا.
وقال زميل آخر: عندك حق، فاليوم الإثنين، يوم إجازته.
وانطلق صوت سيد صديقي قائلًا لصاحب الصوت المجلجل الضاحك: الفار يطلع من دكانك مغوف.
ومغوف هذه، تعني الشعر غير المتناسق، ففهم رواد السينما أن صاحب هذا الصوت المجلجل، حلاق، فبدأت قافية الحلاقين، لم يستطع سُلم الحلاق أن يواجه كل هذا الحشد، فأعلن عن استسلامه وهزيمته، وصاح قائلًا: أقطع دراعي إن ما كنتوش من غربال.