رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر وتركيا: مسار جديد للعلاقة بين البلدين

بعد بضعة أسابيع من وقائع ثورة 25 يناير 2011، كان أول رئيس أجنبى زار مصر، ولم يكن ذلك محض صدفة، هو الرئيس التركى السابق «عبدالله جول»، بصحبة عدد من كبار قيادات النظام التركى آنذاك، فى مُقدمتهم «أحمد داوود أوغلو»، وزير الخارجية التركى الأسبق المعروف، مؤلف المرجع الجيو استراتيجى الشهير: «العُمق الاستراتيجى»، ومُهندس سياسة «صفر خصومة» التى عنت إنهاء الخصومات والعداوات بين تركيا وجيرانها، والتفرُّغ للتخطيط لمشروع تركيا الأكبر آنذاك، والذى برز مع صعود تنظيمات «الإسلام السياسى»، وتصدُّرها المشهد فى عموم المنطقة، ومناطق أخرى مُهمة من العالم.
وقد التقى الرئيس «جول» عددًا من الشخصيات المصرية المُعارضة، فى لقاء بروتوكولى قصير، تمنى فيه لمصر النجاح ولشعبها النجاح والتقدُّم، قبل أن يودع الحضور لينفرد هو ومرافقوه بجلسةٍ خاصةٍ مع قادة جماعة «الإخوان المسلمون»، فى مُقدمتهم المرشد «محمد بديع» وآخرين من كبار رموزها آنذاك، لم يُعرف ما دار فيها، وإن كان من المُمكن تصور موضوعه الرئيسى، والخاص بدعم خطط دفع جماعة «الإخوان» إلى صدارة الحُكم وموقع السُّلطة فى مصر، كركيزة رئيسية لمشروع «العثمانية الجديدة»، الذى كان فى أوجه آنذاك، ويدور حول إعادة استنساخ وإنتاج فكرة «الإمبراطورية العثمانية» البائدة بصورة مُستحدثة، ومد النفوذ التركى من خلالها إلى عديد من الدول ذات الأغلبية الإسلامية من تلك التى كانت جزءًا من «الكتلة الاشتراكية» قبل انهيار الاتحاد السوفيتى السابق، والأهم أن يعتمد هذا المشروع على الدول العربية التى شهدت موجات من التفجُّرات السياسية والاجتماعية، وبروز حضور فصائل التيارات الدينية بها، مثل تونس، وليبيا، وسوريا، والأهم مصر، عمود الخيمة وقاطرة المشروع التركى المُتصوّر، والذى كانت أطراف كثيرة، داخلية وخارجية، تسعى لترتيب الأمور حتى يُمكن تسليمها السلطة.
وقد نجح مُخطط تنفيذ القسم الأول من «العملية» بإيصال «الجماعة» إلى سُدّة الحكم فى مصر، قبل أن تُطيح بها، وبرموزها، الجماهير الثائرة الغفيرة فى يونيو 2013، المُعادية لهذا التوجُّه، ومعها سقط المشروع التركى الطموح وانتهى إلى الأبد.
هذه الأسطر من المُهم تذكرها، فيما يلتقى رئيسا البلدين فى اجتماعهما المُهم حول مُستقبل العلاقات بين الدولتين والشعبين، ومن الضرورى فى هذا السياق التأكيد على أن كلًا من مصر وتركيا يُمثلان قوة إقليمية ذات حضور أساسى فى المنطقة، ومعهما إيران، والسعودية، وكيان العدو الصهيونى، وليس من المصلحة المصرية والعربية أن تنقطع سُبل التواصل بين مصر وتركيا من جهة، ومصر وإيران من جهة أخرى، وأن تُترك الساحة مفتوحة أمام عربدة القوة الصهيونية الغاشمة!
وأعتقد أن هناك ثلاث قضايا رئيسية، مُلحّة وعاجلة، من الضرورى أن تُطرح على بساط البحث، من أجل تنقية الأجواء بين البلدين، اللذين يجمعهما تاريخ مُمتد من العلاقات والتداخلات، بحلوها ومُرّها، ومن المهم إزالة الشوائب العالقة ببعضها، إذا أردنا مُستقبلًا مُغايرًا للعلاقة بين البلدين، يوفر الظروف لتعاون صادق ومُنتج يصب فى مصلحة الوطنين. 
وأولى هذه القضايا إغلاق ملف رعاية النظام التركى، فى فترة ما بعد 30 يونيو، لجماعات الإرهاب المُتأسلم، ومدّها بكل أشكال الدعم السياسى والاقتصادى والمعلوماتى، بما كلّف مصر والمصريين، شعبًا ودولةً، تكاليف بشرية ومادية كبيرة، والتعهد بإنهاء هذه العلاقة بكل مُتعلقاتها، وبما يحفظ الأمن المصرى ويكفل له المنعة والاستقرار، ويُمهد لبدء صفحة جديدة تصب نتائجها فى مصلحة الشعبين.
وثانى هذه القضايا التعاون الكامل بين الدولتين من أجل وقف حرب الإبادة الصهيونية الهمجية على الشعب الفلسطينى، وإنقاذ الملايين من الفلسطينيين من خطط الطرد واستباحة الدم والتنكيل العلنى الدائرة لمدة تقترب من العام، بما خلَّفته من دمار وكوارث إنسانية وأهوال. ومن المعروف أن لتركيا علاقات قوية، على المستوى الأمنى والاقتصادى مع الكيان الصهيونى، وهذه العلاقات تتعرَّض لهزّات من حين لآخر، كما يحدث الآن بسبب العدوان على فلسطين، لكنها علاقات ذات طابع استراتيجى، تحت المظلة الأمريكية، تدعمها عضوية تركيا فى حلف «الناتو» أحد الرعاة الكبار للمشروع الصهيونى!
أما ثالث هذه القضايا فهى الخاصة بمُستقبل العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فالاقتصاد التركى اقتصاد مُتقدم، رغم ما يُعانيه من مصاعب وتعانيه الليرة التركية من مُشكلات، فى ظل الأزمة الرأسمالية الحالية الطاحنة التى تضرب بلدان واقتصادات عديدة فى أرجاء المعمورة. 
ووفقًا لتقرير «آفاق الاقتصاد العالمى» الصادر عن «صندوق النقد الدولى» (IMF) بتاريخ أبريل 2022 والذى يُصَنِّفُ البلدان حسب الناتج المحلى لها، فإن ترتيب الاقتصاد التركى بلغ المرتبة 23 خلال عام 2022، ومن المُتوقع حسب التقرير دخول تركيا قائمة أقوى 10 دول اقتصاديًا، فى العالم، خلال الأعوام المقبلة.
ومن هنا فإن فرص تطوير التعاون بين البلدين فى هذا المجال قائمة ومُشجِّعة، كما يذكر سفير تركيا فى مصر، «صالح موطلو شن»، ففيما يتعلق بالاستثمارات التركية فى مصر يرى أن هناك «توجُّهًا ملحوظًا من قِبل المُستثمرين الأتراك فى استكشاف الفرص المُتاحة فى مصر»، مُثَمِّنًا «أعظم مزايا الاستثمار فيها مُمثلًا فى عدد سُكانها الكبير، والنسبة المُرتفعة من الشباب المُؤَهَّل»، ومُعلنًا عن أنه قد «تم وضع هدف مُحدد خلال السنوات الخمس المُقبلة، وهو الوصول بحجم التبادل التجارى بين البلدين إلى 15 مليار دولار». 
وهو هدف طموح لكنه قابلٌ للتحقيق، شرط أن يبذل الطرف المصرى جُلَّ جهده، لتوجيه هذه الاستثمارات المُحتملة وجهة إنتاجية فعلية، تُساعد على تطوير الاقتصاد والحياة الاجتماعية فى البلاد تطويرًا حقيقيًا، وتُضيف للاقتصاد المصرى ما يُساعده على تجاوز أزماته الهيكلية.