رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قراءة فى تاريخ فلسطين: عزرا الكاتب «٤»

لم تلعب شخصية يهودية دورًا محوريًا فى التاريخ الدينى والسياسى لليهود مثلما فعل «عزرا الكاتب». وإذا كان «تيودور هرتزل»، الصحفى النمساوى، يعتبر المؤسس الحقيقى لدولة إسرائيل فى العصر الحديث، بفضل ترسيخه مبادئ وأفكار الحركة الصهيونية، فإن عزرا الكاتب يعتبر المؤسس الحقيقى للديانة اليهودية الجديدة، أو نسخة ما بعد السبى، القائمة على الانعزالية الدينية، وفصل معتنقى الديانة اليهودية عن باقى البشر، ومنحهم الأفضلية البشرية على الآخرين، فى القرن الرابع قبل الميلاد. وهو الأمر الذى عارضه أنبياء كثر ظهروا فى تلك الفترة، مثل زكريا ويونان وراعوث، الذين جاءت أسفارهم كنشرة تحذير ضد هذه التعاليم، وهو نفس التحذير الذى حذره السيد المسيح لأتباعه من الكتبة اليهود الذى تمادوا أكثر فى عهده، فقال عنهم «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ»، متى ٢٣.

كان عزرا الكاتب أو عزريا، أحد مواليد الجيل السادس من السبى البابلى الذى وصل إلى مكانة مرموقة فى عهد الملك الفارسى الرابع أرتحشستا الذى حكم البلاد ما بين عامى «٤٠٤ ق. م- ٣٥٨ ق. م»، فعمل بالقضاء، ثم أصبح مستشارًا لشئون الجالية اليهودية الموجودة فى بلاد ما بين النهرين. وتاريخ عزرا ونسبه موجود فى الكتاب المقدس فى سفر خاص باسمه هو «سفر عزرا». وتشير بعض كتب التفسير الإسلامية إلى أن عزرا هو نفسه «عزير»، الذى ورد ذكره فى القرآن الكريم فى قوله تعالى فى سورة التوبة « وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ»، حيث بلغت مكانته حدًا كبيرًا من التقديس بين الشعب اليهودى جعلتهم يضعونه فى مرتبة أعلى من البشر. وبتحليل شخصية «عزرا الكاتب»، كما ورد فى سفره، يتضح لنا أنه كان شابًا شديد الذكاء والطموح، ملمًا بشريعة موسى، عنده قدر كبير من المثابرة، وقدرة كبيرة على الإقناع لدرجة أنه استطاع أن يحصل على مرسوم يسمح بعودة جميع اليهود من السبى البابلى إلى أورشليم ومعه قرار تهديدى لجميع الطوائف اليهودية يمنحه سلطة مطلقة، ويجبر الجميع على الانصياع لأوامره وأن كل من يخالف هذه الأوامر يقضى عليه بالموت أو النفى أو الغرامة أو الحبس، ويتضح ذلك فى رسالة الملك التى منحها لعزرا وهو يخاطبه متوددًا:

«أَمَّا أَنْتَ يَا عَزْرَا، فَحَسَبَ حِكْمَةِ إِلهِكَ الَّتِى بِيَدِكَ ضَعْ حُكَّامًا وَقُضَاةً يَقْضُونَ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ وَكُلُّ مَنْ لاَ يَعْمَلُ شَرِيعَةَ إِلهِكَ وَشَرِيعَةَ الْمَلِكِ، فَلْيُقْضَ عَلَيْهِ عَاجِلًا إِمَّا بِالْمَوْتِ أَوْ بِالنَّفْىِ أَوْ بِغَرَامَةِ الْمَالِ أَوْ بِالْحَبْسِ»، عزرا ٧: ٢٥.

وكانت أولى المهام التى قام بها عزرا الكاتب بعد العودة، هى تطهير الأرض من النساء الغريبة، ويقصد بهن زوجات الرجال اليهود من غير اليهوديات واللائى وصفن فى سفره بنساء شعوب الأرض الرجسة، وشملت بالطبع نساء الكنعانيين، واليبوسيين، والموآبيين، والمصريين والحيثيين. وحين تقاعس الرجال فى الانفصال عن زوجاتهم لجأ «عزرا» إلى القيام بمشهد تراجيدى أخاف الناس، حيث يقول فى سفره «فَلَمَّا سَمِعْتُ بِهذَا الأَمْرِ مَزَّقْتُ ثِيَابِى وَرِدَائِى وَنَتَّفْتُ شَعْرَ رَأْسِى وَذَقْنِى» عزرا ٩: ٣، ثم جثى على ركبته وأعلن الحكم الإلهى الذى لا يجوز الخروج عنه «وَالآنَ فَلاَ تُعْطُوا بَنَاتِكُمْ لِبَنِيهِمْ وَلاَ تَأْخُذُوا بَنَاتِهِمْ لِبَنِيكُمْ، وَلاَ تَطْلُبُوا سَلاَمَتَهُمْ وَخَيْرَهُمْ إِلَى الأَبَدِ،» عزرا ٩: ١٢.

وربما كانت تلك الحادثة هى أكبر عملية طلاق قسرى وقعت فى التاريخ، فقد أطلق عزرا نداءً فى جميع أنحاء يهوذا، يدعو كل المتزوجين من أجنبيات إلى أورشليم، ومنهم رجال رزقوا بأطفال من زوجاتهم، وكانت أعدادهن بالآلاف، ومن لا يحضر فى خلال ثلاثة أيام تصادر أمواله، وينفى خارج البلاد. وحاول بعض الرجال المماطلة بحجة المطر، أو بحجة التزاحم وكثرة العدد، ولكن القرار الصارم الذى أصدره عزرا لم يسمح لهم بالفكاك من المصير المحتوم، وبالفعل طُلِّقت جميع النساء الأجنبيات فى يوم واحد ورحلن بأولادهن عن البلاد بلا رجعة، وبهذه تحققت مهمته الأولى بنجاح، أو كما قال «وَانْتَهَوْا مِنْ كُلِّ الرِّجَالِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا نِسَاءً غَرِيبَةً فِى الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ الأَوَّلِ»، عزرا ١٠: ١٧. 

وبعد أن اطمأن عزرا إلى نقاء الجنس اليهودى وخروج العنصر الأجنبى، شرع فى كتابة تعاليم التوراة، ونقلها من مرحلة المرويات الشفهية المشوشة، أو النصوص المبتورة، إلى مرحلة وضع كتاب شامل منضبط يجمع بين دفتيه تعاليم الكتاب المقدس كاملة. ويتفق الباحثون عمومًا على أن التوراة الحالية أكبر بكثير من تعاليم موسى التى كتبها على الألواح أو التى أمر خليفته يوشع بن نون بتدوينها على نقش حجرى بعد عبور نهر الأردن. ويرى سبينوزا فى كتابه «رسالة فى اللاهوت والسياسة» أن الأدلة تمنع أن يكون موسى هو كاتب الأسفار الخمسة، وأن عزرا هو كاتبها، ويتفق مع وول ديورانت فى أن عزرا كان متشبعًَا بالثقافة البابلية، ولديه أيضًا توجهات أيديولوجية وعرقية كانت تحكمه فى كتابة التوراة. فقصص الخلق، والطوفان، والغواية، والنظرة العنصرية للمرأة، والتعامل مع الطهارة والنجاسة، هى نتاج ثقافة عزرا الكاتب نفسه التى استمد مصادرها من روافد عدة أهمها حياته فى بلاد الرافدين. ويتفق الباحثون على أن عملية جمع التوراة وتدوينها قد تمت فى فترة وجيزة جدًا، ويعزى سبينوزا وجود بعض المتناقضات بين الأسفار إلى الموت المبكر لعزرا الكاتب الذى لم يتسن له الوقت الكافى لمراجعة ما قام بكتابته. وبعيدًا عن مناقشة المصادر الأساسية للتوراة التى ناقشتها الكثير من المباحث اللاهوتية، سوف نركز على أهم المبادئ التى كرّستها نصوص التوراة الجديدة فى مرحلة ما بعد السبى. وتنقسم إلى شق عقائدى، وآخر قومى. جاء الشق العقائدى فى صورة الإله يهوه، إله اليهود، وهو إله شديد الخصوصية والقومية لبنى إسرائيل، لا يهتم لباقى الشعوب، ولا يهمه أن يدخل إلى حظيرة الإيمان مؤمنون جدد. يتسامح مع الخطايا التى ترتكب فى حق الشعوب الأخرى ولا يتهاون فى حق بنى إسرائيل، ويتضح ذلك فى وعد يهوه لإسحق: «لِيُسْتَعْبَدْ لَكَ شُعُوبٌ، وَتَسْجُدْ لَكَ قَبَائِلُ. كُنْ سَيِّدًا لإِخْوَتِكَ، وَلْيَسْجُدْ لَكَ بَنُو أُمِّكَ. لِيَكُنْ لاَعِنُوكَ مَلْعُونِينَ، وَمُبَارِكُوكَ مُبَارَكِينَ»، تكوين ٢٧: ٢٩، ويتضح أيضًا بصورة أكثر تجسيد فى وعد يهوه ليعقوب «يَا إِسْرَائِيلُ: لاَ تَخَفْ لأَنِّى فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِى إِذَا اجْتَزْتَ فِى الْمِيَاهِ فَأَنَا مَعَكَ، وَفِى الأَنْهَارِ فَلاَ تَغْمُرُكَ. إِذَا مَشَيْتَ فِى النَّارِ فَلاَ تُلْذَعُ، وَاللَّهِيبُ لاَ يُحْرِقُكَ» إشعيا ٤٣، فالعلاقة بين الإله والشعب، كما يقول توماس طومسون فى كتاب التاريخ القديم للشعب الإسرائيلى، أصبحت مقلوبة، فبينما يسعى الإله لإرضاء الشعب، يقابله الشعب بالتذمر والتمرد الدائمين. وقد رسخت هذه العقيدة فكرة الاستعلاء والتميز لدى الشعب اليهودى وأسطورة شعب الله المختار المستمرة حتى الآن. 

أما الشق القومى الذى عمد عزرا الكاتب إلى تكريسه، من خلال الشرائع اليهودية والأحكام العامة، فهو ما سيتم تناوله فى المقال المقبل بمشيئة الله.

وللحديث بقية