هل تواجه الضفة الغربية مصير قطاع غزة؟
فى ظل الانشغال بالهجمات بين إسرائيل و«حزب الله» اللبنانى، وانتظار الرد الإيرانى على مقتل قائد المكتب السياسى لحركة «حماس» الفلسطينية، إسماعيل هنية، فى طهران، ومتابعة مفاوضات وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس»، يبدو أن جبهة حرب جديدة بدأت بالظهور، فى الضفة الغربية، بعد أن تعالت أصوات التحذيرات الإسرائيلية من التصعيد فى هذه الجبهة منذ عدة أسابيع. طيلة الفترة الماضية، ورغم الحرب الإسرائيلية الطويلة والعنيفة على قطاع غزة، لم تدخل الضفة الغربية دائرة الصراع، ولم تنشب فيها انتفاضة، وهو ما اعتبرته إسرائيل إنجازًا، رغم استمرار التوتر، الأمر الذى يبدو أنه فى طريقه للتغير خلال الأيام القليلة المقبلة، مع اقتراب الأوضاع من الاشتعال.
التصعيد بدأ منذ فترة طويلة عبر تقويض السلطة الفلسطينية وخنق الاقتصاد وتزايد هجمات المستوطنين
بدأت إسرائيل عملية عسكرية موسعة فى الضفة الغربية، مساء الثلاثاء الماضى، وقالت وزارة الصحة الفلسطينية إن ٩ أشخاص على الأقل قد قتلوا فى الضفة، قبل أن تتزايد هذه الأعداد فى الأيام التى تلت ذلك.
التوتر فى الضفة الغربية بدأ قبل ذلك بكثير، فالقيود الجديدة التى فرضتها إسرائيل على الضفة منذ بدء الحرب على قطاع غزة أدت إلى اختناق الاقتصاد وتدهور الحياة اليومية، خاصة أن الاقتصاد فى الضفة الغربية وإسرائيل مترابط بشكل وثيق.
وتعتمد إسرائيل على اليد العاملة الفلسطينية، خاصة فى قطاعى البناء والزراعة، وقبل اندلاع الحرب فى غزة كانت الأجور الإسرائيلية تشكل نحو ٢٠٪ من الناتج المحلى الإجمالى للسلطة الفلسطينية. وأسهم هؤلاء العمال بنحو ٣.٨١ مليار دولار أمريكى فى الاقتصاد الفلسطينى عام ٢٠٢٢، بما يعادل ثلثى ميزانية السلطة الفلسطينية، وفق تقرير لصحيفة «الجارديان» البريطانية. وبعد هجوم حماس فى ٧ أكتوبر الماضى، وبدء العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، علّقت دولة الاحتلال دخول حوالى ١٤٠ ألف عامل فلسطينى، واستعانت بعمال من الهند لتعويض النقص، كما عمدت إلى إغلاق الطرق بينها وبين الضفة، مع حظر وإلغاء تصاريح العمل، والنتيجة كانت ارتفاعًا كبيرًا فى معدلات البطالة والفقر فى الضفة الغربية، ما يهدد الاستقرار المالى للسلطة، ويوفر ظروفًا أنسب للاضطرابات. إضافة إلى ذلك، اتخذ وزير المالية الإسرائيلى من اليمين المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، إجراءات عقابية ضد السلطة الفلسطينية، عبر تجميد أموال الضرائب والتهديد بقطع البنوك الفلسطينية عن النظام المصرفى الدولى، ما قد يؤدى إلى انهيار السلطة الفلسطينية.
من الناحية الأمنية، فإن هناك العديد من الحوادث المتتالية حدثت فى الضفة الغربية خلال الأسابيع الأخيرة، منها هجمات القوات الإسرائيلية على عناصر تابعة لـ«حماس»، والهجوم على مدينة جنين، الذى أسفر عن حملة اغتيال لـ٤ نشطاء من الحركة، وكذلك اغتيال قائد تنظيم «حماس» فى بلاطة، إلى جانب عدد من الحوادث الأخرى، من بينها مقتل جدعون بيرى فى المنطقة الصناعية «براون» على يد عامل فلسطينى، وانفجار عبوة ناسفة كبيرة فى تل أبيب، حملها ناشط من منطقة نابلس.
وتمت ملاحظة زيادة وتيرة هجمات المستوطنين اليهود فى الضفة الغربية، بإحراق منازل وسيارات فلسطينية وإلقاء زجاجات المولوتوف والحجارة وسرقة الماشية، وقد قُتل العديد من الفلسطينيين خلال تلك المواجهات، وكان آخرهم رشيد سيدا، ٢٢ عامًا، الذى قُتل برصاص مستوطنين فى قرية «جيت» فى ١٥ أغسطس الجارى، كما أصيب العديد من الفلسطينيين.
وبسبب ذلك، تزايدت الإدانات الدولية لسلوك المستوطنين، وكتب رئيس جهاز الأمن العام «الشاباك»، رونين بار، إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، محذرًا من أن الإرهاب اليهودى يعرض وجود إسرائيل للخطر.
وألقى «بار» باللوم على عدم كفاءة الشرطة، وربما «الشعور بالدعم الخفى» للعنف المتزايد من جانب المستوطنين، والفشل فى اعتقال المخالفين. كما ألقى باللوم على أعضاء الكنيست الذين يدعمون المستوطنين، بما فى ذلك عبر الدعم المالى.
تواجد قوات الاحتلال وتفضيل الهدوء لـ10 أشهر مؤشرات على عدم الرغبة فى التصعيد الواسع
إذا نظرنا إلى العوامل التى تهيئ الفرصة للتصعيد فى الضفة، فهى متوافرة وربما من قبل ٧ أكتوبر، وبالتأكيد بعدها، ورغم ذلك فإنها لا تؤكد اشتعال الأمور إلى حد الانتفاضة.
وفى يوليو ٢٠٢٣، أعلن أمين عام حركة «الجهاد» الإسلامى الفلسطينى، زياد النخالة، عن أنه «يتم اتخاذ إجراءات وبلورة خطط لتسليح الضفة، من أجل التوصل إلى تحوّل استراتيجى، عبر تهريب السلاح وشرائه من جهات فى إسرائيل، بهدف التحول من الهدوء إلى المقاومة». فيما تتحدث تقارير إسرائيلية عن جهود تبذلها حركة «حماس» لإشعال الضفة، وإدخالها دائرة الصراع، وسط رغبتها فى تعزيز مكانة الحركة فى الضفة، تحت إشراف قائد الحركة فى الضفة زاهر جبارين، الذى عُيّن فى هذا المنصب بعد اغتيال سلفه صالح العارورى، فى يناير الماضى. وتشير التقارير الإسرائيلية إلى أن «جبارين» أيضًا كان أسيرًا فترة طويلة فى السجون الإسرائيلية وتم الحكم عليه بالسجن المؤبد سنة ١٩٩٣، وتحرر فى صفقة الجندى جلعاد شاليط، وهو، مثل القائد السياسى للحركة فى غزة يحيى السنوار، يتحدث باللغة العبرية، وعلى دراية بأسرار المجتمع الإسرائيلى.
كما تشير إلى أن «جبارين» يعمل حاليًا من تركيا، ويُعتبر المموّل الأول للحركة، ويسيطر على شبكة من الشركات العقارية وجمع الأموال، زاعمة أنه يدفع بقوة لدخول الضفة الغربية فى النضال، ردًا على انتقادات داخلية ولتخفيف العبء عن غزة.
ويزعم تقرير، كتبه ميخائيل ميلشتاين بصحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، أن «جبارين» لديه دافع شخصى وراء إشعال الضفة، لأنه يريد إثبات أنه قائد لديه قدرات خاصة، وذلك وفق مزاعم الضابط يوفال بيتون، رئيس قسم الاستخبارات السابق فى مصلحة السجون الإسرائيلية، الذى قال إن «جبارين» لم يكن يومًا قائدًا بارزًا فى أوساط الأسرى، وكان يتم التعامل معه كقائد تكتيكى جاء من المناطق المهمشة.
كما زعم أن اختيار «جبارين» نائبًا لـ«العارورى» جاء لأنه لم يعتبره تهديدًا، معتبرًا أنه يستمد قوته من أنه كان فى مقدمة الذين انضموا إلى الذراع العسكرية للحركة فى الضفة، ومن أنه الرجل الذى جنّد القيادى يحيى عياش، ويريد أن يثبت حاليًا أنه قائد مهم بعد اغتيال «العارورى»، وفقًا لما قالته «يديعوت أحرونوت».
فى الإطار نفسه، تزعم تقارير إسرائيلية أن هناك عاملًا ثانيًا لاشتعال الأوضاع هو أن إيران تدفع نحو إشعال الضفة، عبر تمويل وتشجيع البنية التحتية المحلية وإغراق الضفة بالسلاح، وأن «فيلق القدس»، التابع للحرس الثورى الإيرانى، يقوم بتهريب السلاح من سوريا إلى الضفة الغربية، عبر الأردن، وضمنها عبوات ناسفة قوية وألغام، وأيضًا قاذفات RPG، وأن بعض هذه الأسلحة يصل إلى «المنظمات الإجرامية العربية»، وفقًا للمزاعم الإسرائيلية.
أما العامل الثالث الذى يدفع للتصعيد، وفقًا للتقارير الإسرائيلية، فهو ضعف السلطة الفلسطينية، بعد الضغوط عليها بسبب القيود التى تفرضها إسرائيل، مثل تقليص أموال المقاصة وعدم دخول العمال، الأمر الذى يجعل عمل السلطة اليومى أصعب، ويسهم فى خلق أزمة اقتصادية. ورغم المزاعم الإسرائيلية والتوترات المستمرة، من الصعب القول إن الضفة الغربية هى جبهة الحرب الجديدة بعد غزة ولبنان، ومع ذلك فإن هناك من يرى- فى إسرائيل- أن الضفة الغربية تمر بحالة تحوّل إلى «نموذج جنين»، التى يسميها الإسرائيليون «عاصمة الإرهاب»، مع تمدد النموذج نحو الجنوب، أى باتجاه نابلس وطولكرم وأريحا. ومع تصاعد التوترات، بدأ الجيش الإسرائيلى يولى اهتمامًا أكبر بالضفة الغربية، وهو ما ظهر من خلال توسيع عمل المسيّرات التى امتنعت إسرائيل عن استعمالها فى الضفة طوال ١٧ عامًا، لكنها بدأت فى استعمالها منذ الصيف الماضى.
وفى ظل مدة ١٠ أشهر من الاستقرار النسبى فى الضفة، فإن تصاعد الأمور حتى الآن لا يشير إلى احتمالية أن تتحول الضفة الغربية إلى جبهة إضافية، لأن سكانها لا يبدو أنهم يريدون الانخراط فى الحرب الواسعة بغزة، كما أن تواجد القوات الإسرائيلية داخل الضفة، وعمل السلطة الفلسطينية هناك، والأوضاع الاقتصادية الحالية، كلها عوامل تحول دون نشوب انتفاضة واسعة، لكن لا تزال هناك فرص للتصعيد وتحول الضفة إلى جبهة مزعجة لإسرائيل، ولكن دون انتفاضة كبيرة.