مربع الدين.. وحرب «عاد وإرم»
مهما حاولنا الابتعاد بالصراع العربى الإسرائيلى عن مربع الدين فسرعان ما نجده يعود إليه. المشاهد المتجددة لهذا الصراع تعيدنا دائمًا إلى المشهد الأول الذى كان يصرخ فيه يهود «يثرب» فى وجه العرب من الأوس والخزرج: قد تقارب زمان نبى يُبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم. يقصدون بذلك محمدًا رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
هذا الوعيد من جانب اليهود باستئصال شأفة العرب من المنطقة كان يتردد باستمرار على أذن الأوس والخزرج وتسترجعه ذاكرتهم، وهو يعد أحد الأسباب الجوهرية التى دفعت عرب المدينة إلى الإسراع نحو مكة بحثًا عن محمد الذى زعم أن الخبر يأتيه من السماء، والاستماع إليه، ثم الإيمان به ودعوته إلى الهجرة إلى المدينة. يشير «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» إلى ما نقله عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من أهل المدينة حين شرحوا أسباب إسلامهم، وهى بالإضافة إلى رحمة الله وهداه، ذلك التهديد الذى كان يتردد على لسان اليهود بالنبى الذى يظله الزمان والذى سيقود اليهود نحو نصر ساحق على العرب.
هذا المشهد القديم يوضح لك إلى أى حد كان الدين حاضرًا فى الصراع السياسى بين العرب المسلمين من ناحية واليهود من ناحية أخرى، فقد طمح كل طرف منهما إلى الاصطفاف تحت راية النبى، صلى الله عليه وسلم «الدين» طمعًا فى القضاء على الآخر «السياسة».
كان العرب فى ذلك الزمان أكثر حركية من اليهود فسارعوا إلى مبايعة النبى فى العقبة الأولى ثم الثانية، بعدها كان من الطبيعى أن يوجهوا إليه الدعوة كى ينتقل إليهم فى المدينة ليخوضوا معه معركتهم الكبرى ضد اليهود. فالعلاقة بين العرب واليهود داخل الجزيرة العربية كانت شديدة التوتر فى ذلك الوقت. كان اليهود ينتشرون فى مواضع عديدة بالجزيرة، لكن تمركزهم الأكبر والأساسى كان بالمدينة من خلال القبائل الثلاث الشهيرة: بنى قينقاع وبنى قريظة وبنى النضير. وفى كل الأحوال طمح كل طرف من الطرفين «العرب واليهود» إلى الاستقواء بالنبى الذى يظله الزمان للقضاء على الطرف الآخر.
وإذا كان موقف «عرب يثرب» من النبى واضحًا وتمثل فى المبادرة إلى الإيمان به والتحلق حوله، فقد كان موقف «عرب مكة» أشد وضوحًا فى العداء له ومحاولة القضاء على دعوته، وقد فعلوا فى سبيل ذلك كل ما يستطيعون، فحاصروه وطاردوه وعذبوا المؤمنين به وحاولوا فتنتهم عن دينهم، ولم يكن ثمة طريق للنجاة أمام النبى والمؤمنين به سوى تلبية دعوة الطرف العربى «اليثربى» والهجرة إلى المدينة. وبمجرد الوصول إليها نشب العديد من الحروب بين الطرفين العربيين «المكى واليثربيى»، فى بدر وأحد والخندق، ثم كان ما تعلمه من فتح مكة وسيطرة المسلمين على المشهد، وقد سبق هذه السيطرة صراع داخلى مرير خاضه النبى وعرب «المدينة المنورة» مع القبائل اليهودية الثلاث التى تسكنها. وقد كان الصراع بين الطرفين العربى واليهودى على أشده منذ عهد قديم، ووفد الأنصار الذى جاء يبايع النبى فى العقبة الثانية استحضر هذا الموضوع أثناء الحوار مع النبى قبل البيعة، ويذكر «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» أن أبا الهيثم بن التيهان قال للنبى: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال- يعنى اليهود- حبالًا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم قال «بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم منى أحارب مَن حاربتم وأسالم مَن سالمتم».
الجانب الإيمانى كان يمثل أساسًا، ولا شك، لدى عرب يثرب الذين بايعوا النبى فى العقبة الثانية، فقد آمنوا بمحمد ورسالته بالأساس، لكن الجانب المصالحى كان حاضرًا أيضًا، فى التفاوض بين الطرفين النبوى واليثربى، وكان المتحدث باسم النبى فيها عمه العباس بن عبدالمطلب. فالعلاقات بين عرب يثرب واليهود لم تكن على ما يرام والتهديد والوعيد كان لسان حال كل طرف منهما مع الآخر، وقد كانت علاقة اليهود بعرب مكة أفضل، بحكم ما كانت تمثله أرض الحرم من مركز تجارى، اهتم كل من يعيش فى الجزيرة العربية بتوطيد علاقته بكبار المتحكمين فيه. وكان أهل يثرب يعلمون جيدًا أن دخولهم فى دين الإسلام واحتضانهم للنبى، صلى الله عليه وسلم، وهجرته إليهم سوف توغر صدر اليهود عليهم، وتؤجج نار العداوة المشتعلة بينهما، لذلك كان من الطبيعى أن تشغلهم النتائج التى ستترتب على قطع عهد السلام بينهم وبين اليهود، وهل سيكون النبى ظهيرًا لهم ضدهم، كما سيساندونه فى مواجهة «عرب مكة؟ وقد أجاب النبى عليهم بعبارات قاطعة: «بل الدم الدم والهدم الهدم».
الواضح أن القبائل اليهودية الثلاث التى كانت تعيش فى المدينة رأت أن دخول الخزرج والأوس فى الإسلام يمثل إعلان حرب عليهم، أهل يثرب أنفسهم كانوا يفهمون أن هذه الخطوة تعنى ذلك أيضًا، ولم يترددوا فيها لأنهم من الناحية المصالحية رأوا أن تمكين النبى، صلى الله عليه وسلم فى مكة يعنى فى المقابل تمكينهم فى المدينة، وتحييد الوجود اليهودى فيها. والواضح أن تركيبة العرب فى يثرب كانت تميل لصالح الخزرج، إذ كان عددهم أكبر من الأوس، يدل على ذلك أنه حين طلب النبى من وفد العقبة أن يُخرجوا منهم ١٢ نقيبًا، أخرجوا منهم ٩ من الخزرج، و٣ من الأوس، ما يعنى أن الخزرج كانوا على وجه التقريب ٣ أضعاف الأوس من حيث العدد، فى حين كان اليهود أقل عددًا من العرب، ويتوزعون على ثلاث قبائل، وكانوا يعتبرون أنفسهم أصحاب «المدينة» لأنهم نزلوا بها قبل الخزرج والأوس، يشير «ابن كثير» إلى: «وكان بها من أحياء اليهود بنو قينقاع وبنوالنضير وبنو قريظة وكان نزولهم بالحجاز قبل الأنصار أيام بخت نصر حين دوخ بلاد المقدس».
فى سياق هذا المشهد الديموجرافى والصراعى بين عرب يثرب واليهود هاجر النبى، صلى الله عليه وسلم، إلى «المدينة المنورة».