انهيار الصهيونية: قراءةٌ فى مقالٍ مُهم «3»
استعرضنا فى المقالين السابقين تقدير نفر من الإسرائيليين المختصين بالشأن الصهيونى، والدارسين لأوضاعه، والعالمين ببواطن الأمور فيه، وبتركيبته البشرية، وأمراضه السيكولوجية، وهشاشة بنيانه الروحى، وبظروف تكوينه التاريخية، وأوضاعه الاقتصادية والعسكرية، ما يجعلهم موقنين أن هذا الكيان إلى زوالٍ حتمى، وأنه بدأ العد التنازلى فى رحلة الاضمحلال والتفكُّك المصيرية، ولا يعجبن إنسان مُدرك من احتمالية هذا الأمر، فلقد عايشنا، على سبيل المثال، انهيار نظام عنصرى شرس عماده الاستعماريون البيض فى «جنوب إفريقيا»، بفعل كفاح وتضحيات أصحاب البلاد الأصليين، وقد كان يملك ترسانة نووية يُعتد بها، وجيشًا حديثًا، وإمكانات تكنولوجية عالية. كما عاصرنا انهيار الاتحاد السوفيتى، وانهيار المنظومة الاشتراكية العالمية، بكل ما كانا يملكانه من إمكانات استراتيجية هائلة، على رأسها الاستحواذ على أكبر ترسانة للأسلحة النووية، وكذا امتلاك قاعدة تكنولوجية وصناعية متقدمة، سمحت له بأن يكون أول من يقتحم عالم الفضاء الكونى.. إلخ، والآن بعد أن تفكَّك الاتحاد السوفيتى السابق، يدور القتال بين روسيا وجزء أساسى من مقوماته القديمة.. أوكرانيا!
قدّمَ البروفيسور «إيلان بابيه»، الأكاديمى اليهودى المتمرد على السرديات العنصرية الصهيونيةـ بعد أن أكَّدَ أننا نشهد، فى أعقاب مرور 120 عامًا على رحلة المشروع الصهيونى من «الفكرة» إلى «التحقُّق»ــ حيثيات حُكمه بأن الكيان العنصرى يحيا الآن «بدايات عملية تاريخية من المُرَجِّح أن تبلغ ذروتها بسقوط الصهيونية»، فأشار- كما عرضنا فى المقال السابق- إلى ستة عوامل تدعم هذا الاستنتاج، أولها: الانقسامات التى تخترق عظام المشروع الصهيونى حول «الهوية اليهودية»، وأبرزها الصراع الضارى بين «العلمانيين» (الليبراليين الصهاينة)، والجماعات المُتطرفة الدينية، التى اشتد عودها بعد التراجع الكبير لدور وحضور ما كان يُسمّى بـ«اليسار الإسرائيلى»، مؤكدًا طابعهما العنصرى المُعادى للفلسطينيين معًا!
أما العامل الثانى فهو الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى يعيشها الكيان الصهيونى، والتى استفحلت مظاهرها بعد مرور ما يقرب من العام على حرب «طوفان الأقصى» وتأثيراتها على اقتصاد مصطنع، يحيا على الدعم الخارجى السخى من الولايات المتحدة والغرب، ولا يتحمل العواقب الوخيمة لصراع «مُمتد» مثل هذا الصراع الذى نُعيش وقائعه، لحظة بلحظة، الآن.
ثم ينتقل البروفيسور «بابيه» إلى «المؤشر الثالث» الذى يبنى عليه استنتاجه الخطير بحتمية زوال الصهيونية ونظامها العنصرى الدموى، وهو «العزلة الإسرائيلية الدولية المتزايدة»، مشيرًا إلى المظاهر المتوالية التى توضح بجلاء تحول «إسرائيل» التدريجى إلى «دولة منبوذة»، مكروهة ومعزولة، مثل قرارات «محكمة العدل الدولية»، و«المحكمة الجنائية الدولية»، وغيرهما، وكذا تأثيرات «حركة التضامن العالمية مع فلسطين» وإن عجزت ـ حتى الآن ـ عن خلخلة الدعم الثابت «الذى لا يتزعزع» لإسرائيل فى أوساط «المؤسسة السياسية والاقتصادية الدولية» وهذا بالطبع عائدٌ إلى «الدور الوظيفى» الذى يقوم به الكيان الصهيونى، فى التصدّى لأى محاولة لتحدى الهيمنة الإمبريالية، أو تُهَدِّد خزّانات نفط العالم ومركز مصالحه الجيوــ سياسية الأساسى!
ونأتى إلى «المؤشر الرابع»، الذى يستند إليه البروفيسور «بابيه»، وهو «تآكل اللوبى اليهودى» الداعم لوجود «إسرائيل» ومُمارساتها، ويُشيرــ فى هذا السياقــ إلى التغيُّر الكبير فى مواقف شباب اليهود حول العالم فى أعقاب وقائع ما بعد «الطوفان»، الأمر الذى يعكس استعداد الكثيرين منهم، ومن غير اليهود أيضًا، للمشاركة بنشاط فى حركة التضامن مع فلسطين، وللتخلّى عن ارتباطهم بإسرائيل والصهيونية، ويذكر «بابيه» أن «إسرائيل» ومنظمة «أيباك» (لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية)، التى تُعد أقوى جماعات الضغط الصهيونية فى الولايات المتحدة، لا يزالا قادرين، بمعاونة «الصهاينة المسيحيين»، على تقديم المساعدة والدعم، لكنها «لن تكون نفس المُنظمة الهائلة دون قاعدة انتخابية يهودية كبيرة»!
أمّا «المؤشر الخامس» فهو فى نظر «إيلان بابيه» انكشاف «حدود القوة العسكرية الإسرائيلية»، ويقول إنه لا يساوره الشك فى قوة الجيش الإسرائيلى، وما يملكه من عتاد وسلاح متقدم، لكن أحداث 7 أكتوبر 2023 أزاحت الغطاء عن حدود قدراته، وعكست واقع أن المشروع الصهيونى «يعتمد، أكثر من أى وقت مضى، على سرعة إيصال كميات هائلة من الإمدادات من الأمريكيين، والتى بدونها لا يستطيع حتى أن يُقاتل جيشًا صغيرًا من «العصابات» فى الجنوب (يقصد حزب الله)، وأُضيف أن الدعم الأمريكى والغربى لم يتوقف عند حدود إمدادات السلاح والذخيرة المجانيّةــ وآخرها منحة الأسلحة الحديثة من طائرات ودبابات وقذائف بقيمة 20 مليار دولار من أمريكاــ وإنما، وهو الأخطر، تَمَثَّلَ فى المشاركة المباشرة فى التخطيط وتقديم الاستشارات العسكرية، وحماية وتأمين الكيان، بالجنود، وحاملات الطائرات، والدعم التقنى، وبالتصدى لصواريخ وقذائف إيران و«حزب الله» و«الحوثيين»، وبالضغط السياسى والاقتصادى لصالحه... إلخ.
ويبقى «المؤشر السادس» والأخير، الذى يقدمه البروفيسور «بابيه» لدعم توقُّعاته بحتمية زوال الكيان الغاصب، وهو هنا لا يخص الطرف الصهيونى، وإنما نقيضه الفلسطينى، الذى استعاد عافيته، وبدا جيله الشاب قويًا وحاضرًا، و«متجدد الطاقة»، و«أكثر اتحادًا وترابطًا عضويًا، ووضوحًا من النخبة السياسية (التقليدية) الفلسطينية»، وأشد تماسُكًا وتمسُّكًا بتحقيق حلم بناء الوطن الفلسطينى الحُر، ويتوقّع «بابيه» أن يكون لهذه الأجيال الفلسطينية الشابّة، الأكثر وعيًا واستعدادًا للمواجهة، تأثير هائل على مسار النضال من أجل التحرير، ويلمس أنهم يفضلون حل الدولة الواحدة (الديمقراطية) على نموذج الدولتين الذى فقد مصداقيته».
ويختم «بابيه» مقاله المهم بلفت الأنظار إلى أن «قوة الفلسطينيين وحدها (أصبحت) هى القادرة على تحريكنا فى الاتجاه الصحيح»، ويطالب بطرح فكرة «إنهاء الاستعمار» بدلًا من مطلب «تحقيق السلام»، حيث ستكون هذه هى «المرة الأولى»، على الأقل منذ عقود عديدة، التى تتولى فيها الحركة الفلسطينية زمام المبادرة فى وضع مقترحاتها لفلسطين ما بعد الاستعمار، وغير الصهيونية، (أو أى اسم يطلق على هذا الكيان الجديد»!
وأخيرًا يقول البروفيسور «بابيه» إنه: «سواءً رحب الناس بالفكرة أم هابوها، فقد أصبح انهيار «إسرائيل» أمرًا متوقَّعًا، وينبغى لهذا الاحتمال أن يوَجِّه الحوار الطويل الأمد حول مستقبل المنطقة، وسوف يُفرض على جدول الأعمال عندما يدرك الناس أن المحاولة التى دامت قرتًا من الزمان، بقيادة بريطانيا ثم الولايات المتحدة، لفرض دولة يهودية على دولة عربية، تقترب ببطء من نهايتها.. لقد كان (المشروع الصهيونى) ناجحًا بما يكفى لإنشاء مجتمع يضم ملايين المستوطنين، لكن وجودهم لا يزال يعتمد، كما كان الحال عندما وصلوا، على قدرتهم على فرض إرادتهم بالعنف على الملايين من السكان الأصليين، الذين لم يتخلوا قط عن نضالهم من أجل تقرير المصير والحرية فى وطنهم».