رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسرائيل وصلت إلى نهاية الخط.. فماذا بعد؟

آمنت الإدارة الأمريكية، بعد أكثر من عشرة أشهر من الدمار فى قطاع غزة، واستشهاد أربعين ألف فلسطينى، بخلاف المصابين والمفقودين، وتدمير إسرائيل لنحو ثلثى القطاع- بأن الدبلوماسية هى الطريقة الوحيدة، التى يمكن لتل أبيب من خلالها تحقيق هدفها الأكبر، وهو استعادة رهائنها.
لقد قامت إسرائيل بكل ما فى وسعها عسكريًا فى غزة، حتى وصلت إلى نهاية الخط، وفقًا لمسئولين أمريكيين كبار، الذين يقولون إن استمرار القصف لا يؤدى إلا إلى زيادة المخاطر على المدنيين، فى حين أن إمكانية إضعاف حماس قد تضاءلت.
ولذلك، سابقت إدارة بايدن لإعادة مفاوضات وقف إطلاق النار إلى مسارها، لأن عددًا متزايدًا من مسئولى الأمن القومى فى الحكومة الإسرائيلية، قالوا بأن الجيش الإسرائيلى وإن كان قد أضر حماس بشدة، لكنه لن يكون قادرًا على القضاء عليها تمامًا، حتى بعد أن ألحقت العملية العسكرية الإسرائيلية أضرارًا بحماس أكبر بكثير مما توقعه المسئولون الأمريكيون عندما بدأت الحرب فى أكتوبر الماضى، وصارت القوات الإسرائيلية يمكنها الآن التحرك بحرية فى جميع أنحاء غزة، ودمرت معبر رفح، واستولت على طرق الإمدادات الحيوية إلى غزة.
يدعى الجيش الإسرائيلى أنه قضى على نصف قادة كتائب القسام، الجناح العسكرى لحماس، بمن فيهم كبار القادة، محمد الضيف ومروان عيسى.. لكن أحد أكبر أهداف إسرائيل المتبقية عودة ما يقرب من مائة وخمس عشرة رهينة، أحياء وأموات، ما زالوا محتجزين فى غزة منذ السابع من أكتوبر لا يمكن تحقيقه عسكريًا، وفقًا لمسئولين أمريكيين وإسرائيليين حاليين وسابقين.
وعلى مدى الأشهر العشرة الماضية، «تمكنت إسرائيل من تعطيل بعض قدرات حماس، وقتل عدد من قادتها، والحد، إلى حد كبير، من التهديد لإسرائيل، الذى كان موجودًا قبل أكتوبر، لكن إطلاق سراح الرهائن لا يمكن تأمينه إلا من خلال المفاوضات»، كما قال الجنرال جوزيف فوتيل، الرئيس السابق للقيادة المركزية الأمريكية.
إن التقييم الأمريكى الأخير، يأتى فى الوقت الذى تنتشر فيه مجموعة من مسئولى الإدارة فى جميع أنحاء المنطقة، لمحاولة التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فى غزة، وربما تجنب هجوم انتقامى من قبل إيران وحلفائها، ردًا على الاغتيالات الإسرائيلية الأخيرة لكبار القادة المحسوبين على إيران.. لذلك، وصل وليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية، إلى قطر، وتوجه بريت ماكجورك، منسق الرئيس بايدن للشرق الأوسط، إلى مصر وقطر، وذهب عاموس هوكستين، أحد كبار مستشارى البيت الأبيض، إلى لبنان.. وكانت إحدى الرسائل التى يتوقع من المسئولين إيصالها، هى أنه لا يوجد الكثير الذى يمكن لإسرائيل تحقيقه ضد حماس.. وكذلك تحدث وزير الدفاع، لويد أوستن مع وزير الدفاع الإسرائيلى، يوآف جالانت، فى إطار الاستعداد لضربات انتقامية محتملة من قبل إيران أو حزب الله فى إسرائيل، وأيد أوستن ومسئولون آخرون فى إدارة بايدن، وجهة نظر جالانت، بأن اتفاق وقف إطلاق النار الذى يعيد الرهائن، يصب فى مصلحة إسرائيل.
لذلك، تتجه أنظار العالم إلى محادثات الدوحة، إلى جولة جديدة من المفاوضات، وفرصة أخيرة لوقف التصعيد، والتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار فى غزة، وإتمام صفقة لتبادل الرهائن بين حماس وإسرائيل.. ورغم مشاركة وفد رفيع المستوى من إسرائيل، وممثلين عن الولايات المتحدة وقطر ومصر، فإن حماس رفضت المشاركة، وقالت إنها لن تعيد التفاوض على ما تم الاتفاق عليه سابقًا، متهمة نتنياهو بالمراوغة.. ورغم عدم مشاركتها، فإن مصادر أفادت بأن حماس أبلغت الوسطاء باستعدادها للقائهم بعد المحادثات لترى مدى جدية إسرائيل بشأن التوصل إلى اتفاق.. فى وقت، حث فيه البيت الأبيض كل الأطراف المعنية على حضور هذه الجولة من المفاوضات، ودعا المتحدث باسم مجلس الأمن القومى، جون كيربى، كلًا من إسرائيل وحماس إلى إظهار مرونة وتقديم تنازلات، لأن تحقيق التقدم لا يزال أمرًا ممكنًا فى الأيام القليلة المقبلة، خصوصًا، ستتواصل بين إسرائيل وحماس، اليوم، فى العاصمة القطرية الدوحة.
لكن الوقائع تشير إلى صعوبة فى تحقيق خرق فى الأزمة، وهناك رغبة أمريكية بتحقيق ذاك الخرق، رغم أن عدم حضور حماس سيترك أثرًا سلبيًا، ولكنها قدمت ما هو مطلوب منها من التنازلات فى جولات سابقة.. ويعطينا التاريخ إشارة، إلى أن إسرائيل بعد كل عملية اجتياح تصاب بعمى القوة، وهى اليوم مصابة بنفس العمى، فهى لا تريد إنهاء الحرب، ولا أحد يعرف ماذا يريد نتنياهو من الاستمرار فيها، إلا التحذيرات الجدية من حرب عالمية ثالثة، بعد أن بدأ عمى القوة الذى أصاب نتنياهو، يهدد المنطقة بأكملها.
وفى قراءة للواقع، بالتوازى مع سير المفاوضات، نجد أن التوترات انفجرت داخل حكومة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، إلى الرأى العام مرة أخرى هذا الأسبوع، بعد أن ذكرت وسائل الإعلام أن جالانت شكك فى هدف رئيس الوزراء المتمثل فى «النصر الكامل» على حماس، فى اجتماع مغلق، مع أن العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة أصبحت أشبه بلعبة Whac-a-Mole فى نظر المحللين الأمريكيين.. فى الوقت الذى تجمع فيه إسرائيل معلومات استخباراتية، حول إعادة تجميع محتملة لمقاتلى حماس، يتحرك الجيش الإسرائيلى لملاحقتهم.. لكن المسئولين الأمريكيين يشككون فى أن هذا النهج سيسفر عن نتائج حاسمة.. ولمنع استهداف مقاتليها، حثتهم حماس على الاختباء فى شبكة أنفاقها الواسعة تحت غزة.. فمنذ بداية الحرب، كانت استراتيجية حماس الأساسية هى البقاء، وهذا لم يتغير.
«إسرائيل مازالت بعيدة كل البعد عما يجب تحقيقه فى غزة»، قال الجنرال عميدرور، زميل فى المعهد اليهودى للأمن القومى الأمريكى.. و«إذا أخلت قواتها الآن، فإن حماس ستكون قوية مرة أخرى، فى غضون عام.. ووقف الحرب الآن سيكون كارثة لإسرائيل».. ولذا، فإنه يرى أن هناك حاجة إلى شهرين أو ثلاثة أشهر أخرى من القتال الشديد فى وسط وجنوب غزة.. وبعد تلك المرحلة، يمكن لإسرائيل الانتقال إلى شن غارات وضربات استخباراتية لمدة عام تقريبًا، للقضاء على ما تبقى من مقاتلى حماس والبنية التحتية للأسلحة، قبل السماح لطرف آخر بتولى إدارة غزة.
وبينما حاولت إسرائيل تدمير الأنفاق، فإنها فشلت فى القضاء عليها.. صحيح أن بعض مجمعات الأنفاق الكبيرة، التى استخدمتها حماس كمراكز قيادة، أصبحت غير صالحة للعمل، لكن الشبكة أثبتت أنها أكبر بكثير مما توقعته إسرائيل، ولا تزال وسيلة فعالة لحماس لإخفاء قادتها وتحرك المقاتلين.. وحتى عندما استولى الجيش الإسرائيلى على الأراضى وقتل بعض مقاتلى حماس، من شمال القطاع إلى جنوبه، فقد اضطروا مرارًا وتكرارًا إلى العودة، مع إعادة تجميع مقاتلى حماس صفوفهم.. على سبيل المثال، أضعفت إسرائيل قبضة حماس فى مخيم جباليا، فى شمال غزة، لكنها اضطرت إلى العودة إلى المنطقة فى مايو الماضى، بعد أن أعادت الحركة تشكيلها فى فراغ السلطة.
ويؤكد مسئولون حاليون وسابقون فى البنتاجون، أن إسرائيل لم تثبت بعد، أنها قادرة على تأمين جميع المناطق التى استولت عليها فى غزة، خصوصًا بعد انسحاب قواتها.. وحتى عندما تستخدم إسرائيل قنابل صغيرة القطر، تزن مائتين وخمسين رطلًا، لتدمير جيوب المقاومة، كما حثها المسئولون الأمريكيون على القيام بذلك، فإن جيشها ينتهى به الأمر بقتل المدنيين، كما فعل نهاية الأسبوع الماضى، عندما أصيب مجمع التابعين المدرسى الذى يأوى نازحين من غزة فى غارة جوية.
«مجرد البقاء على قيد الحياة هو النصر فى نظر حماس»، قالت دانا سترول، كبيرة مسئولى سياسة الشرق الأوسط السابقة فى البنتاجون، ولذلك، سيستمرون فى إعادة التشكيل والظهور، بعد أن تقول قوات الدفاع الإسرائيلية، إنها طهرت منطقة دون خطط متابعة للأمن والحكم فى غزة.. وعلى الرغم من كل الأضرار التى أمطرت على القطاع من القنابل الإسرائيلية، والمقاتلين الفلسطينيين الذين استشهدوا، تحتفظ حماس بالكثير من قوتها العسكرية.. صحيح أنها مستنزفة إلى حد ما، ولكن لم يتم القضاء عليها، وقد لا يحقق الإسرائيليون أبدا الإبادة الكاملة لحماس، لكن المسئولين الأمريكيين يعتقدون أن إسرائيل حققت نصرًا عسكريًا ذا مغزى.. ويقولون إن حماس لم تعد قادرة على تخطيط أو تنفيذ هجوم بحجم السابع من أكتوبر، وقدرتها على شن هجمات إرهابية أصغر على إسرائيل، أصبحت موضع شك.
تضررت حماس بشدة فى الحرب، لدرجة أن مسئوليها أبلغوا المفاوضين الدوليين، أنها مستعدة للتخلى عن السيطرة المدنية على غزة لجماعة مستقلة بعد وقف إطلاق النار.. وقال مسئولون أمريكيون إن المدة التى ستكون فيها حماس مستعدة للتخلى عن قدر من قوتها، ستعتمد على ما سيحدث بعد وقف إطلاق النار، وما هى التنازلات التى تستعد إسرائيل لتقديمها.. وقد تعرضت حماس لضربة كبيرة فى مايو، عندما غزا الجيش الإسرائيلى رفح فى جنوب القطاع، رغم أن المسئولين فى واشنطن حذروا من العملية، لأنهم يخشون التكاليف الإنسانية الباهظة، إلا أن استيلاء إسرائيل على الشريط الممتد على طول الحدود الجنوبية لغزة، حقق هدفًا آخر من الاجتياح، على الرغم من أنه يحقق العزلة للفلسطينيين، وأزمة جوع واسعة النطاق.
ليبقى القول، بأن المجهول الأكبر، لكل من إسرائيل والفلسطينيين هو: من؟، أو ماذا؟، يأتى بعد حماس.. ولكى توافق حماس على إطلاق سراح الرهائن، يقول المسئولون الأمريكيون، إنه من الأهمية بمكان أن تكون هناك حوافز للحركة للبقاء على الهامش، بعد التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.. الحافز الأكبر، هو مسار ذى مغزى إلى دولة فلسطينية مستقلة!.. وإلا، فإنه إذا أقول إذا تم وقف إطلاق النار، فسوف تكافح حماس لاستعادة قوتها، وسيتعين عليها إعادة التسلح، والبدء فى تجنيد مقاتلين من السكان الفلسطينيين الذين أنهكتهم حرب إسرائيل، وقتلت عائلاتهم.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.