"معهد ستوكهولم": عقبات جديدة وتحولات مستقبلية محتملة أمام عمليات السلام متعددة الأطراف حول العالم
تعد عمليات السلام متعددة الأطراف من الأدوات الرئيسية التي تسعى إلى تعزيز الاستقرار والأمن العالميين من خلال التدخل في مناطق النزاع والصراعات المسلحة حول العالم.
ومع ذلك، فإن هذه العمليات تواجه العديد من التحديات التي تعيق فعاليتها وتؤثر في قدرتها على تحقيق أهدافها، بل وتغير السياسات التي تحدد إطارات عملها في المستقبل.
وكشف تقرير نشره معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام "سيبري" عن التحديات التي واجهت عمليات السلام متعددة الأطراف خلال عام 2023، مع التركيز على خلفيات التطورات الجديدة والصعوبات التي نشأت في مواجهة قوات السلام والمراقبة الدولية وخاصة في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية والنزاعات الإقليمية وخاصة الحرب بين روسيا وأوكرانيا والنزاع في السودان وغيرها من التوترات في إقليم جنوب الصحراء في إفريقيا.
وأوضح تقرير سيبري أن عام 2023 شهد 63 عملية سلام متعددة الأطراف نشطة في 37 دولة أو منطقة حول العالم، بالمقارنة بـ64 عملية في عام 2022، وجاء أكبر عدد من عمليات السلام متعددة الأطراف من الأمم المتحدة بواقع 20 عملية. فيما نفذت منظمات وتحالفات إقليمية مختلفة 38 عملية، أما العمليات الخمس الأخرى فقد نفذتها تحالفات دولية غير رسمية. ومن بين 63 عملية، كانت 24 منها في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، و19 في أوروبا، و14 في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، و3 في آسيا، و3 في الأمريكتين.
وأشار التقرير إلى نشر إجمالي 100،568 من الأفراد الدوليين في عمليات السلام متعددة الأطراف حتى 31 ديسمبر الماضي، بانخفاض قدره 13% عن نهاية عام 2022. وهذا يمثل أكبر انخفاض وأقل إجمالي تم تسجيله خلال العقد الماضي، وكان الانخفاض العام في أعداد الأفراد يعود بشكل أساسي إلى انخفاض بنسبة 18% في إفريقيا جنوب الصحراء. ومع ذلك، لا تزال إفريقيا جنوب الصحراء تمثل الغالبية العظمى، حيث تم نشر 76،372 من الأفراد الدوليين بهذا الاقليم.
وشهد هذا العام أيضا افتتاح عمليات سلام جديدة في أرمينيا، حيث تم إنشاء بعثة الاتحاد الأوروبي في أرمينيا (EUMA) في 23 يناير 2023 بعد تجدد الأعمال العدائية بين أرمينيا وأذربيجان، بالإضافة إلى بعثة شراكة الاتحاد الأوروبي في مولدوفا بسبب تأثرها من أزمة الطاقة وهجرة اللاجئين نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية، وغيرها في جمهورية الكونغو الديمقراطية وهي بعثة مجموعة التنمية لإفريقيا الجنوبية (SADC) في جمهورية الكونغو الديمقراطية (SAMIDRC) في 8 مايو 2023، وتم نشرها رسميًا في 15 ديسمبر 2023. وكانت المهمة الرئيسية للبعثة هي دعم الجيش الكونغولي في محاربة الجماعات المسلحة، بينما أُغلقت العمليات في مالي والسودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية إفريقيا الوسطى.
وأشار معهد سيبري إلى استمرار ثلاث اتجاهات عامة بشأن عمليات السلام متعددة الأطراف، التي تم تحديدها في عام 2022، بل وتكثفت في عام 2023 لعدة أسباب؛ من بينها زيادة تأثير التنافسات الجيوسياسية، وزيادة التوترات في العلاقات بين عمليات السلام والدول المضيفة لها، وزيادة التوجهات الإقليمية في عمليات السلام أو تحديدا اللجوء لقوات التكتلات الاقليمية داخل القارة الواحدة.
وركز التقرير على تأثير التحديات السياسية والمالية على قدرات الجهات المسئولة عن هذه العمليات، وخاصة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، في التوصل لتوافق حول عمليات السلام، حيث تسبب الاستقطاب الجيوسياسي وتصاعد التوترات بين القوى الكبرى في العالم في صعوبة اتخاذ القرارات بشأن عمليات جديدة أو تعديل التفويضات الحالية لأية عمليات جديدة، منوها إلى أن العديد من عمليات السلام المتعددة الأطراف كانت قادرة على الاستمرار كما المعتاد، بسبب وجود خلافات متكررة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي بشأن إنشاء عمليات جديدة وتغييرات في التفويضات الحالية.
وفي الوقت نفسه، يشير التقرير إلى أن معظم الحكومات الغربية انصب اهتمامها على دعم أوكرانيا ضد روسيا وتعزيز قدراتها الخاصة للدفاع الجماعي والردع. وقامت هذه الحكومات، على وجه الخصوص، بتوفير قدرة عسكرية وتمويل أقل لعمليات السلام المتعددة الأطراف في إفريقيا، كما يتضح من تركيز مرفق السلام الأوروبي على أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، زادت روسيا من انخراطها في أجزاء من إفريقيا جنوب الصحراء، حيث عرضت على الحكومات استخدام الشركات العسكرية الخاصة لمكافحة الجماعات المسلحة.
أما التحدي الآخر الذي يواجه هذه العمليات، فتمثل في نقص التمويل، ففي ظل التركيز على الأولويات الأمنية الأخرى مثل النزاع والحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، شهدت الموارد المالية المخصصة لعمليات السلام انخفاضا مما أدى إلى تقليص الدعم والموارد الموجهة لهذه القوات.
وبحسب التقرير، يضاف إلى التحديات السابقة تأثير النزاعات المحلية على مهام القوات المنتشرة في مناطق النزاع؛ فعلى سبيل المثال عندما تصاعدت التوترات في شرق الكونغو الديمقراطية مع زيادة نشاط جماعة "مارس 23"، مما أثر في فاعلية بعثة قوة المجتمع الإقليمي لشرق إفريقيا في جمهورية الكونغو الديمقراطية (EACRF-DRC). ففي أكتوبر 2023، أعلنت الحكومة الكونغولية أنها لن تسعى إلى تجديد العملية، منتقدة فعاليتها، خاصة في مكافحة الجماعة المسلحة "مارس 23" في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. كما رأت منظمات المجتمع المدني المحلية أن العملية غير فعالة، واندلعت عدة مظاهرات عامة ضد العملية في مدينة جوما الكونغولية، على غرار تلك التي أقيمت ضد بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية (MONUSCO).
وكشف تقرير "سيبري" عن أمثلة أخرى بشأن العراقيل التي واجهت مهام بعثات السلام؛ فقد واجهت عمليات السلام في مالي والسودان انتقادات من الحكومات المضيفة بسبب عدم قدرتها على التعامل مع الجماعات المسلحة والتحديات الأمنية، وهو ما مثّل تحديًا آخر لهذه العمليات؛ مما يزيد الضغوط عليها ويؤثر في تبني نهج متعدد الأبعاد يعتمد على التفاعل السلمي وبناء الثقة. ومثالًا على ذلك، في نوفمبر 2023، طالبت الحكومة السودانية بإنهاء بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة الانتقالية في السودان (UNITAMS) على الفور، زاعمة أن أداء البعثة في تنفيذ أهدافها كان مخيبًا للآمال. وامتثل مجلس الأمن لهذا الطلب، وتوقفت بعثة UNITAMS عن تنفيذ تفويضها في 4 ديسمبر 2023.
وبالمثل، واجهت بعثة بناء القدرات التابعة للاتحاد الأوروبي في النيجر (EUCAP Sahel Niger) صعوبات بعد الانقلاب العسكري في النيجر في يوليو 2023 والتعليق الاتحاد الأوروبي اللاحق لتعاونه في التنمية والتعاون العسكري مع البلاد.
وفي ظل هذه التحديات المعقدة التي تعرقل قدرة عمليات السلام متعددة الأطراف على استمرار مهامها وتحقيق أهدافها، كان اتخاذ مسارًا بعيدًا عن الأمم المتحدة قد بدأ بالفعل قبل عام 2023، حيث لم يتم إنشاء أية عملية حفظ سلام جديدة تابعة للأمم المتحدة منذ تأسيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في جمهورية إفريقيا الوسطى (MINUSCA) في عام 2014. علاوة على ذلك، خلال العقد الماضي، زاد عدد عمليات السلام المتعددة الأطراف التي نشرتها المنظمات الإقليمية، مقابل انخفاض عدد عمليات السلام النشطة التابعة للأمم المتحدة.
وفي عام 2023، دعمت تطورات سياسية واضحة هذا الاتجاه نحو إقليمية عمليات السلام. وفي وثيقة تحمل عنوان "أجندة جديدة للسلام"، يصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش رؤيته لمستقبل بنية السلام والأمن المتعدد الأطراف. وهذا يشمل شكلًا من أشكال "التعددية المتصلة والشاملة والفعالة" التي تتمتع فيها الأمم المتحدة بشراكات قوية في عمليات السلام مع المنظمات الإقليمية. وكان تعزيز دور المنظمات الإقليمية أيضًا هدف قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2719 بشأن تمويل عمليات دعم السلام للاتحاد الإفريقي المصرح بها من قبل مجلس الأمن. وعلاوة على ذلك، ففي الفترة التي تسبق قمة المستقبل واجتماع وزراء حفظ السلام السنوي للأمم المتحدة، وكلاهما سينعقد في سبتمبر 2024، ستقام مناقشات إضافية حيث من المرجح أن يتصدر نهج الشراكات في عمليات السلام الأجندة المخصصة لكلا الحدثين.
وتناول التقرير أيضًا الآثار المترتبة على التحديات والعراقيل أمام عمليات السلام فيما يتعلق بالاتجاهات العامة للخطط المستقبلية وكيفية إدارة النزاعات؛ إذ كشف التقرير عن وجود حالة من عدم اليقين بشأن الاتجاهات المستقبلية، ووجود 4 طرق محتملة يمكن أن تتطور بها عمليات السلام المستقبلية وإدارة النزاعات بشكل أوسع. فالاحتمال الأول هو حدوث حالة من الجمود، فبرغم تجديد جميع تفويضات عمليات السلام للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي حتى الآن، إلا أن الاستقطاب المتزايد قد يؤثر في التوصل إلى إجماع واتخاذ القرار داخل كل من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي. ويمكن أن يؤدي هذا الخلاف المستمر إلى تقويض الفعالية في عمليات السلام وإدارة النزاعات، ويؤثر سلبًا على وظيفة الشراكة بين مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والهيئات الإقليمية مثل مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي.
والاحتمال الثاني الذي يواجه مستقبل هذه العمليات هو أن حالة الجمود هذه قد تؤدي إلى اتباع نهج التجزئة لعمليات السلام. فقد استضافت جمهورية إفريقيا الوسطى وكوسوفو ومالي تشكيلات معقدة من عمليات السلام المتعددة الأطراف داخل نفس مناطق البعثات. وفي ليبيا وسوريا، دعمت التحالفات الدولية المختلفة الأطراف المتعارضة من خلال نُهج مختلفة لإدارة النزاعات. فإذا تفاقم الاستقطاب الدولي، فقد تؤدي هذه التجزئة إلى زيادة التكلفة وتقلل من فعالية العمليات وفي الحالات القصوى، تؤدي إلى مواجهات بين تداخلات في إدارة النزاعات المتنافسة داخل نفس الإقليم.
وحذر التقرير من أنه إذا وصلت المنظمات الدولية والإقليمية إلى طريق مسدود وفشلت في الاتفاق على تفويضات المهام المستقبلية، فقد نشهد زيادة في إدارة النزاعات خارج الأطر المؤسسية القائمة، وهو ما يمثل الاحتمال الثالث في مستقبل هذه العمليات. فقد تلجأ الحكومات إلى حلول إبداعية، مما يعزز نمو التحالفات المخصصة أو العمليات المتعددة الأطراف الأخرى غير عمليات السلام؛ مثل القوة المشتركة لمجموعة الدول الخمس لمنطقة الساحل الإفريقي (JF-G5S). وتضمنت هذه "الحلول الإبداعية" بالفعل استخدام الشركات العسكرية الخاصة في دول مثل جمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومالي وموزمبيق. بالإضافة إلى ذلك، قد تصير العمليات الثنائية مثل الجهد المشترك لقوات الدفاع والشرطة الوطنية الرواندية في موزمبيق أكثر شيوعًا.
وانتهى التقرير إلى أن إدارة النزاعات قد تتحول بشكل أكبر إلى الأنماط العسكرية والأمنية مع تزايد مطالب الحكومات المضيفة على اللجوء لعمليات السلام المتعددة الأطراف. ويتضح ذلك من إنهاء عمل بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (MINUSMA) والضغوط على بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية (MONUSCO) إما لمحاربة الجماعات المسلحة أو الإغلاق.
وبالمثل، يبرز هذا التحول من خلال إنشاء قوات مثل بعثة مجموعة التنمية للجنوب الإفريقي فى الكونغو ومثلها في موزمبيق والقوة الإقليمية لجماعة شرق إفريقيا فى شرق الكونغو، إلى جانب الاستخدام الموسع للشركات العسكرية الخاصة لمواجهة الأنشطة الإرهابية أو المتمردة. ونتيجة لذلك، قد تتجه عمليات السلام المتعددة الأطراف تدريجيًا نحو نهج أكثر عسكرة.
وشدد التقرير على أن مواجهة التحديات المعقدة أمام عمليات السلام متعددة الأطراف تتطلب استجابة منسقة وفعالة، مؤكدا على ضرورة تعزيز التعاون بين الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية، وتحسين التنسيق بين مختلف العمليات، وتوفير التمويل والدعم المستدام لضمان تحقيق أهداف عمليات السلام بفاعلية؛ ولذلك يجب التركيز على بناء شراكات قوية وتعزيز قدرة العمليات على مواجهة التحديات الأمنية والسياسية المتزايدة حول العالم.