رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انقلاب فى «دار الخلافة»

وفاة معاوية بن يزيد لم تكن طبيعية بحال، فقد مات وعمره ٢١ سنة، ويرجح بعض المؤرخين أنه مات مسمومًا، ولم يذكر أحد أنه كان مريضًا بمرض معين أدى إلى موته. وليس من المستبعد أن يكون مروان بن الحكم هو من خطط ودبر وأنجز مهمة اغتياله، وثمة أسباب عديدة تبرر هذا الاتهام. لعل أبرزها التوجه الذى تبناه معاوية الثانى بعدم تسمية من يخلفه فى الحكم، على الرغم من أنه كان من المعلوم أن البيعة، قد تمت له، ثم لأخيه خالد بن يزيد من بعده، قبل وفاة الأب: «يزيد بن معاوية»، وربما رأى معاوية الثانى أن بنى أمية لم ينالوا الحكم عن رضا من الناس، وإنما بالقهر والغلبة بالسيف، ثم حولوه بعد ذلك إلى ملك عضوض وراثى، ويؤشر موقف معاوية الثانى إلى أنه أنكر على الأمويين ذلك. وليس أدل على هذا الاستنتاج سوى كلام الرجل نفسه، حين ذكر الأفاضل من خلفاء المسلمين، فسمّى أبا بكر وعمر وأصحاب الشورى الستة، ولم يذكر أباه «يزيد» ولا جده «معاوية»، اللذين أحدثا التحول الجلل فى تاريخ الحكم الإسلامى، حين تراجعا به من علياء الخلافة الراشدة إلى أرض المُلك الوراثى الذى تؤخذ فيه البيعة بالسيف. ومثل هذا الكلام لم يكن يروق أو يُرضى مروان بن الحكم، فقد خاض مشوارًا طويلًا داميًا مع أبناء عمومته من بنى أمية حتى تتمكن عائلتهم من الحكم، وحتى يحولوا بين بنى هاشم وكرسى الخلافة، ولم يكن لمروان الذى أصبح كبير العائلة أن يترك شابًا مثل معاوية الثانى يدمر ما بنته الأسرة على مدار عقود من الزمان.

كان مروان بن الحكم يدرك أيضًا أن استمرار معاوية الثانى فى الحكم يعنى القضاء على فرصه فى الوثوب إلى مقعد الخلافة، فقد كان شابًا عشرينيًا صغيرًا، وهو شيخ ستينى كبير، وطبقًا للحسابات العقلانية كان العمر أمام الأول طويلًا، وأمام الثانى قصيرًا، ووجد الثانى أن من مصلحته التخلص من الأول سريعًا، وهو ما حدث بالفعل. وقد أتاح اختفاء معاوية الثانى من المشهد الفرصة كاملة أمام مروان ليستولى على الحكم. فقد احتارت العائلة الأموية فى أمرها بعد وفاة الخليفة الشاب، لكن صوتًا كان قد عاد لتوه من مكة، التى تشهد حركة تمرد كبير ضد الأمويين يقودها عبدالله بن الزبير، حسم حيرتهم، وهو صوت الحصين بن نمير. فوجّه كلامه إلى مروان بن الحكم وبنى أمية قائلًا: «نراكم فى اختلاط فأقيموا أميركم قبل أن يدخل عليكم شأمكم فتكون فتنة عمياء صماء». وكان «مروان» قد لعب لعبة ذكية أراد بها استفزاز بنى أمية للتحلق حوله وحمله رغمًا عنه إلى مقعد الخلافة، وذلك حين دعا العائلة إلى السير إلى «ابن الزبير» ومبايعته بالخلافة، وقد رد عليه أحدهم قائلًا: «قد استحييت لك من ذلك، أنت كبير قريش وسيدها تمضى إلى أبى خبيب- يعنى ابن الزبير- فتبايعه؟». 

واستكمالًا للعبة قام «روح بن زنباع الجذامى» يرغّب الناس فى البيعة لمروان بن الحكم، فقال: «أيها الناس إنكم تذكرون عبدالله بن عمر وصحبته وقدمه فى الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكنه ضعيف، وليس بصاحب أمة محمد الضعيف، وتذكرون ابن الزبير وهو كما تذكرون أنه ابن حوارى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنه ابن ذات النطاقين، ولكنه منافق قد خلع خليفتين يزيد وابنه معاوية وسفك الدماء وشق عصا المسلمين، وليس المنافق بصاحب أمة محمد، وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان فى الإسلام صدعٌ إلا كان ممن يشعبه، وهو الذى قاتل على بن أبى طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير ويستشيروا الصغير»، يعنى بالكبير مروان، وبالصغير خالد بن يزيد. وقد كان من المفهوم أن البيعة بعد معاوية الثانى لأخيه خالد بن يزيد، لكن من الواضح أن انقلابًا حدث داخل البيت الأموى، قاده مروان بن الحكم، لينتقل الأمر إلى الفرع الثانى من العائلة، من أبناء الحكم بن أبى العاص بن أمية. وكل ما يذكره الرواة عن تفكير «مروان» فى مبايعة «ابن الزبير» يأتى فى سياق التعمية على هذا الانقلاب، خصوصًا أن الأحداث التى تلاحقت بعد ذلك أثبتت أنه كان حريصًا أشد الحرص على الملك. 

بُويع لمروان بن الحكم، لكن الأمر تم فى ظروف أزمة، إذ كانت الكثير من الأمصار الإسلامية الأخرى تميل إلى مبايعة عبدالله بن الزبير الذى جعل من مكة مستقرًا ومركزًا لحكمه، بما فيها بعض مدن الشام مثل حمص وقنسرين وفلسطين. وبدأ مروان بن الحكم رحلة السيطرة على الشام، خصوصًا فلسطين حتى دانت له، بعد أن قتل الضحاك بن قيس وأصحابه، ممن كانوا يسوقون لعبدالله بن الزبير كخليفة للمسلمين، واستقر الشام لمروان، ثم سار بعد ذلك إلى مصر فقدمها وعليها عبدالرحمن بن جحدم القرشى يدعو إلى ابن الزبير، فخرج إلى مروان فيمن معه، وبعث مروان عمرو بن سعيد من ورائه حتى دخل مصر، فقيل لابن جحدم ذلك، فرجع وبايع الناس مروان ورجع إلى دمشق. 

هكذا تحقق الحلم وتولى مروان خلافة المسلمين، وهو الرجل الذى خرج من صلب رجل كان من أكبر أعداء النبى صلى الله عليه وسلم، وهو الحكم بن أبى العاص، أحد كبراء بنى أمية الذى أسلم يوم الفتح وقدم المدينة، ثم طرده النبى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، و«مروان» كان أكبر الأسباب فى حصار «عثمان» ومقتله، لأنه زور عليه كتابًا أدى إلى غضب الثوار عليه، ولما كان متوليًا على المدينة لمعاوية كان يسب عليًا كل جمعة على المنبر، وقال له الحسن بن على: «لقد لعن الله أباك الحكم وأنت فى صلبه على لسان نبيه، فقال لعن الله الحكم!».